ادب وفن

عندما يحشر"جني" العمل المسرحي في"قمقم" المونودراما / ماجد الخطيب

يعرف تاريخ المسرح المونودراما، أو مسرحية الممثل الواحد، أو المسرح الفردي، منذ العصور الهيلينية الأولى. وكان الممثل، في أغلب الحالات، على مسارح الاغريق المونودرامية، هو الشاعر نفسه، يعينه أحياناً كورس غير مرئي(خلف الكواليس) يردد بعض المقاطع، أو مرئي صامت يؤدي الحركات والايماءات فقط. وربما يعود الفضل في صعود الكورس إلى المسرح إلى الشاعر الملحمي والمسرحي الشهير ستيسيكورس (حوالي 600 سنة قبل الميلاد) الذي يقال ان اسم"الكورس" اشتق من اسمه (لاحظوا الاسم"كورس"). وهو الشاعر الذي قال هيرونيمو ان شعره يزداد حلاوة كلما تقدمت به السن.

ظهر مسرح المونودراما في اوربا، وفي الولايات المتحدة لاحقاً، وكان في الأغلب تعبيراً عن الظروف الاجتماعية التي تتحطم فيها بنى المجتمعات، وينحسر فيها دور المسرح، بفعل المجاعات والحروب والكوارث والدكتاتوريات. كان في ذات الوقت تعبيراً عن النزوع إلى الفردية في العمل في ظروف يصعب فيها العمل المسرحي الموسوم بالجماعية.
ينسج الكاتب المسرحي، ويفصّل نصه المسرحي المونودرامي، مثل خياط ماهر، ويحدد بالتالي مقاسات النص التي تكفل له ايصال رسالته الإنسانية بجهد ممثل واحد على المسرح، وتؤهل النص للظهور في حلة وبنية فنية جميلة متكاملة. هكذا يفعل الكاتب المسرحي عندما يكتب نصاً مسرحياً متعدد الشخصيات، بمعنى ان يقسم أدواره على الممثلين كي يقدم بنية فنية متكاملة أيضاً .
ان تقسيم"ثوب" المونودراما بين عدة شخصيات لايقل، برأيي، عسفاً عن"تقريم" مسرحية الشخصيات المتعددة إلى مونودراما. فمثل هذا التصرف بالنص، مهما كانت كفاءة المخرج، يتجاهل الكثير من العناصر التي كتبها المؤلف كي تناسب هذا اللون أوذاك من الكتابة المسرحية. ويمكن لشخصية اضافية في المونودراما ان تعني التخلي عن "وسائل الايضاح" (مثل الهاتف أو التلفزيون، أوالراديو، أو اللوحة...إلخ) التي يستخدمها الكاتب برغبة اختصار الشخصيات، لكن التخلي عن شخصيات في المسرحية، أو اختصارها في ممثل واحد، قد يعني الإخلال بالكثير من العناصر الدرامية التي تبدأ بالصراع وتنتهي بالحبكة.
يبدو هذا مثل حشر الجني العظيم في القمقم في حكايات ألف ليلة وليلة الخيالية، لأنه يقيد كامل قدرات الجني السحرية، إلى أجل غير مسمى، ويؤجل الاستفادة من أمنية واحدة من الأمنيات السبع التي يمكن أن يحققها لمن يفرج عنه.
تتطلب المونودراما عادة قدرات تمثيلية كبيرة من الممثل، وخصوصاً قدراته على تغيير صوته، ومرونة حركته، وقدرته التعبيرية...إلخ، وتساعده في العرض جملة المؤثرات الأخرى والاكسسوارات والديكورات. لكن اختصار العمل من مسرحية الممثلين المتعددين إلى مسرحية الممثل الواحد تلقي على عاتق الممثل مشاق أخرى(فضلاً عن القدرات التمثيلية المتميزة) من أهمها احساس المتفرج بتقلبه بين الشخصيات، وبالتالي إعانته في متابعة ما يعرض على المسرح. شاهدت الكثير من عروض المسرح العراقية"المضغوطة" في مونودراما، في الخارج، لكن لم يقنعني أحدها، مهما كانت قدرة الممثل، بنجاح العرض. ولا أود التعميم كثيراً، لأنني لم اشاهد العروض كلها بالطبع، لكن تحولات الممثل بين الشخصيات المختلفة التي يمثلها، ورغم معرفتي بالنص أحياناً، ضاعت عليّ فعلاً.
يؤلف الكاتب المسرحي مونودراماه كعمل يؤديه ممثل واحد، لكنه لا يقسر أحداً على دمج العمل المسرحي بأكمله في شخص واحد(الاخراج والتمثيل والموسيقى والغناء والديكور والاكسسوار...إلخ). وحينما نصل في المونودراما إلى هذا الحد ينتهي تأويل ركض المسرحيين في الخارج وراء المونودراما على أساس"ضعف الخيارات" والتبعثر في المنفى، ويصبح العمل خياراً فردياَ واعياَ يعبر عن عدم الاستعداد للعمل مع الآخرين، وهو السائد في الخارج.
لاشك ان"لهطة" العديد من المسرحيين العراقيين وراء المونودراما، وباتجاه حبس الأعمال المسرحية المتعددة الشخصيات في قمقم العمل الفردي، يعود إلى تشرذم المسرحيين في عدة دول، وعدة مدن، وصعوبة العمل المشترك. لكن ذلك لا يفسر سوى نصف الحقيقة، وكتبت مرة في نهاية التسعينيات، بعد حضور مهرجان مسرحي عراقي ببرلين، ان التبعثر في المنافي والمدن، لا يفسر كل الحقيقة، لأنني أعرف عن وجود 10 مسرحيين في الأقل(ببرلين مثلاً)، لكن لا أحد منهم يطيق شرب "استكان شاي" مع زملائه الآخرين.
على أية حال، لا تشكل أعمال الممثل الواحد نسبة تزيد عن3 في المائة من مجموع الأعمال المسرحية المعروفة في العالم. ولنا أن نتصور ضيق الخيارات التي يواجهها المسرحي الذي"يلهط" وراء المونودراما فقط.