السخرية المرة او لنقل (الكوميديا السوداء) هي من اهم ادوات الشعب في التعبير عن ألمه واستلابه واستغلاله حين يتعرض للظلم وجور الحكومة وعسف الحكام وسياساتهم الغاشمة التي تفتقد على الدوام للعدالة والمساواة، والحس الوطني على الاغلب.. ولكن قادة الرأي العام كالشعراء والصحفيين والاحزاب الديمقراطية والشخصيات النوعية في المجتمع، خصوصا من يتمتع بموهبة وحس الفكاهة، يكشفون من خلال النكتة والتندر والسخرية عذابات ومعاناة الناس فيما يتعرضون له من اوضاع اقتصادية صعبة او اوضاع صحية واجتماعية وثقافية متردية أو اهمال او قمع أو تغييب الحريات والارادات وغيرها، فيواجه هؤلاء المبدعون هذا الحيف والبؤس بالسخرية المرة عبر نكات او طرائف او نصوص هزلية تحمل في طياتها قدراً كبيراً من الانتقادات والمقاومة وتصويب الامور عبرالهزل ومحاولة الضحك والاضحاك والقفشات الخفيفة والثقيلة بطريقة بارعة بالغة الذكاء تحاول بعد ان تطرح ما لديها من هموم بهذا الاسلوب المحبب والقريب من روح الشعب للتملص من غضب وسطوة الحكام واجهزتهم القمعية والرقابية وتجنب السجن والاعتقال ومختلف أنواع العقوبات ، ان بنية هذه النصوص بمختلف اجناسها الساخرة شعرا ونثرا وحكاية هي في جوهرها مآس واوجاع ومعاناة وصراع لا يمكن الاعلان عنها مباشرة ودون مواربة أو تورية او مجاز او استبدال.. وينتشر هذه النوع من الادب او النصوص الشعبية او ما اسميناه اجمالا بـ(الكوميديا السوداء) كلما تكون الحكومات والانظمة اكثر قمعا واستبدادا وسطوة، وليس بعيدا عنا سيل الكوميديات السوداء من الطرائف والنكات والاهازيج والاشعار والأغاني في زمن الدكتاتورية التي كتمت نفس الوطن ومسخت ارادته لاكثر من ثلاثة عقود...فقد سخر الناس بمختلف الطرق التي لا تقربهم من الخطر في مواجهة النظام واستبداده واساليب الهتك والفتك التي مارسها رئيس وازلام تلك المرحلة السابقة وامتازوا بها بشكل لم يسبقه له مثيل، وكما لا تخلو مرحلة من مراحل التاريخ العراقي الحديث من هذا النوع من التعبير الشفاهي والمدون ضد كل الحكومات المتعاقبة منذ تاسيس الدولة العراقية ولحد الان.. طبعا وقبلها، وعلى الرغم من ان الحكم الملكي في العراق هو الاقل انتهاكا وفتكا مقارنة بما اعقبه من جمهوريات وحكومات وآخرها جمهورية الخوف الاخيرة والكبيرة الذي لم نزل نعاني من تبعاتها، والتي لم تقطع اواصرها وموحياتها وتعالقاتها مع الحكومات التي جاءت بعد الاحتلال الامريكي - البريطاني.. فلم يلتقط العراق انفاسه عقدا او حولا او?مرحلة من القمع والاستبداد والطغيان، ففي العهد الملكي كان الاقطاع مسيطرا ومتحكما في حياة الناس الى جانب التجار والاوليغاركيين والراسماليين العراقيين الذين افقروا الشعب وجعلوه يركض حافيا وراء الرغيف دون ان يحصل على بعض كفايته، وكان الملك الصغير، او حتى من سبقه من ملوك، هم بيادق شطرنج بيد المستعمرين البريطانيين.. هذا فضلا عن وصاية خاله عبد الاله عليه....والذي كان منشغلا بحياته الخاصه ولذائذه، لكن لو اردنا قول الحق ونقارن باي بشكل، نجد او نوقن أن ما فعله الملوك و الوصي على العرش لا يوازي انشغال ابسط وزير او برلماني معاصر بحياته الخاصه ولذائذه وفساده المالي والاداري والاخلاقي...كان الوصي عبد الاله يعشق السفر وزيارة مناطق العراق المختلفة...وفي احدى زياراته الى مدينة العمارة التي كانت تسمى حينها (لواء العمارة).. والتي كانت حاضرة زراعية تماما ليس فيها صناعة او معامل أو اي انشطة اخرى..حيث يزرع جميع الفلاحيين فيها الرز والحنطة والشعير هذا اضافة الى عمليات الصيد التي كانت السمة الثانية للعمارة كونها مستودع كبير لصيد الاسماك والطيور...وكان ملوك العراق وكبار مسؤوليها يأتون للصيد فيها وفي البصرة لوجود محميات خاصة بالصيد لا يدخلها سواهم وحاشيتهم........و.بعد ان سمع العماريون بمجيء الوصي استقبلوه استقبالا مهيبا كبيرا كعادتهم بوصول او زيارة أي مسؤول. لا لشيء ولكن هو سلوك متبع وعادة يجبرهم عليها علية القوم والمستفيدين وذيول النظام الملكي، فخرج اهل المدينة وعشائر الاقضية والنواحي في استقباله خارج حدود العمارة يسبقهم مهرجان من الوان بيارقهم الذي يمثل كل لون عشيرة..ولكن كل هذه البيارق وعلى مختلف الوانها وعائدياتها والى الان طبعا تحمل شعار الدولة العثمانية الذي يتكون من هلال ونجمة.. إذ ان طوال هذه السنوات لم تسال العشائر نفسها لماذ? تحمل شعار الدولة العثمانية على الرغم من عدوانيتها لهم و انهيارها منذ نحو قرن... استقبل اهالي العمارة صغارا وكبارا الوصي مرحبين على نفس عادتهم ولم يخفف من حماسهم الظروف الاقتصادية الصعبة جدا في ذلك الوقت... والمعاناة التي يعيشها الناس، والعوز الذي اكل اجسامهم وارواحهم، فهو، اي الوصي، ضيفهم في كل الاحوال كما يعتقدون ذلك حتى لوجاء في هذه الظروف، وهم من اصول بدوية والاحتفاء بالضيف حتى لو كان عدوا من خصالهم التي يعتزون بها...وهو الملك في الحقيقة على الرغم من انه خال الملك والوصي عليه...وبعد الاحتفاء والترحيب و?نفضاض العامة..انتقل الوصي ومستقبليه الى قصر خاص من قصور مسؤولي العمارة التي تقع على النهر والذي تغمره الاضواء.. ويغص بالشيوخ الاقطاعيين ووجهاء القوم والتجار والموظفين الكبار فضلا عن عدد من الشعراء....
وحين بدأ العشاء ونصبت المائدة وكانت عامرة تتضمن مالذ وطاب من خراف مشوية وطيور الهور واسماك وغيرها..... ولكن الوصي بعد ان يعتدل مزاجه ويصفو له الامر..وينتهي من الشرب..يحب ان يتعشى تكه أي لحم خروف مشوي وصمون حار...طبعا اضافة الى السلطات والمشهيات..وحين اقترب الوصي من الاكل ليباشر بتناول طعام العشاء صاح احد الشعراء (المهوسجية)....ها خوتي هاه.............
فانتبه له الحضور ودارت له جميع الاعناق وانشدت الانظار نحو هذا الشاعر الذي يعرفونه جيدا....فهو شاعر مشاكس ذرب اللسان حاضر النكته...لا يتوانى عن السخرية حتى من نفسه... ولا يفوت فرصة للسخرية من أي شيء يراه موضوعا للتندر.....وسكت الجميع..وران الصمت على الجلسة والمكان..وطال صمته قليلا كانه قد نسي ما يقول...لكنها طريقته في لفت الانظار وجلب الانتباه وشد الجمهور له... رمق الوصي طويلا بنظرة قوية لا تنكسر
وصاح بوجهه ثانية.... ها خوتي هاه
فردد من كان في الجلسة بما فيهم الوصي...حياك... حياك
فصدح بصوت جهوري تردد صداه في جنبات القصر الكبير المشتعل بكافة الوان الاضواء
يا أهلا وسهلا يا وزير العيش
يمعيش الحكومة والشعب والجيش
لحم تاكل شوي والناس ما مش عيش
وتوقف ليلتقط انفاسه..وصاح ثانية ها خوتي ها...ونظر الى الجميع..ورمق الملك بنظرة لا تنكسر
فرد الحاضرون...حياك... حياك
فختم هوسته قائلا
يا بيك ازركنه بصمونه..... يابيك ازركنه بصمونه
فنفض الوصي يديه من الاكل وقام غاضيا... وفهم المهوسجي من خلال ردة فعل الوصي... انه سيتعرض لعقاب شديد...فانسل تحت الانظار التي لاح الغضب على بعضها والابتسام على البعض الآخر.... حث خطاه مسرعا متلمسا باب القصر..هاربا ليفوز بسلامته... إذ وجد نفسه بعد دقائق قي زورق يتجه به لمنطقة المشرح ليختفي عند اقاربه وأهل قريته حتى تمر الزوبعة. وتنسى السلطات الاساءة التي وجهها الى وصي الملك تحت نظر الجميع.