"1"
أقرأُ لأفعّل إنتاجا.. لأحقق الوجود الفعلي لما هو مكتوب، ومن خلال فاعليتي فيه ينتقل المكتوب من سكونيته إلى حركية المقروء، ينفذ من العينين إلى الذاكرة، لا ليستقر، بل ليتماوج للمساءلة والاستعادة، وبتكرار فعل التحقيق يتم التمثيل الغذائي.
وينتقل القارئ من عين إبرة لحظته إلى سعة الآفاق، عبر عروج شخصي في مركبة التلقي، وعلى نول هذه الأفعال تنسج اتصالية: النص/ الفضاء ومنها، يتمأسس الفضاء النصي، رغم اعتراض "بولزانو" على كلامنا وصراخه في وجهنا.. "لا الفضاء ولا الوقت هما حقيقيان".
"2"
أثناء فعل القراءة يكون القارئ بين "هناكين"، فهو هنا في قعر حاضره ويمسك بين يديه دفتي هناك المجسد بفعل القراءة، وحتى لو تطابق "الهناكان" فالتطابق نسبي، فأنا كقارئ بصري حين أتجول في البصرة عبر أزقة الروايتين فأن تجوالي سيكون ضمن زمن الرواية وليس زمن قراءتي للروايتين، وبين الزمنين فاصلة مدببة من التشوهات العمرانية، لكن فعل القراءة سيعيد للأمكنة بهاءها ويجعلني اتشبث ببصريتي مثل والد السارد في "الذباب والزمرد".
"3"
من فعل كتابة الرواية، تتشيد اتصالية: الأشياء/ الكلمات، بين البعد الطوبوغرافي، وما هو لغوي، وهكذا صار للأمكنة وظيفتها الأسطورية في الروايتين، وشعَّت البصرة كشخصية عراقية كاريزيما، فالبصرة في الروايتين ليست خلفية الصورة بل هي الصورة المتسيدة في الفضاء النصي، ويتجسد ذلك أكثر في "الذباب والزمرد"، فثمة ارتباط متجذر بالمكان، وحرص شديد على عذرية البصرة بالنسبة للسارد الضمني، ولوالده المفتون ببصريته.
"4"
يتماهى السيري بالموضوعي، بنكهة لذيذة، كما هو الحال في روايات هنري ميلر.
مؤلف الروايتين مشارك ومكابد في كل ما جرى في سنوات الحروب والحصار، وهي مشاركة مثقف عراقي رافض ومتمرد، ومن رفضه وتمرده ينسج حلمه، وحين يحلم بالعالم فإن هذا العالم هو موجود كما يحلم به حسب غاستون باشالار وهكذا كان يحصل البطل في كلتا الروايتين على تعزيز للتأهب الذاتي، ومن خلال الوعي كفعل، وليس الوعي كتأمل، كان البطل يكتشف ليؤسس لوجودنا في الموجود.. والروايتان تقتسمان الفضاء الروائي ذاته، لكن لكل رواية منظورها الخاص.
"5"
تتمتع هاتان الروايتان بقراءتين، قراءة عامة لكافة القراء، وسيعين المؤلف هؤلاء القراء، بهوامش مثبتة بحروف أصغر في أسفل الصفحات. وقراءة بصرية تخص القارئ البصري، المفتون ببصريته حد التماهي، الصابر على "شرجيها" وأجاج مياهها، وسينشد إلى علاقة مرآوية يمكن اعتبارها اتصالية: الشخص/ النص.. وسيمشيان السارد والقارئ في الأمكنة ذاتها، يتجولان في ساحة "أم البروم"، ومنها إلى "الخضارة والسماكة"، ويتدربان في معسكر "الدريهمية"، قبل ذهابهما إلى حفر الباطن، وسيدخلنا "الى سوق المغايز ولم يصدمنا الإحساس بدخولنا الى مقبرة لا تختلف عن مقبرة اليهود"، وكلاهما المؤلف والقارئ الذي يجايله، سيطلبان من "أوسم" أغنية:" هذا مو إنصاف منك"، ثم سيشاركان الآخرين في غناء مقاطع من أغنيات بصرية لمغنين بصريين ، أمثال الأخوين "بتور: ربيّع وحسين"، و"أبو عتيكة، أبو العوف، وذياب خليل وحسين البصري" وغيرهم.. وسأشعر كقارئ بأهمية تلك الواسطة الوحيدة بين الصحراء والمدن، وسأكون من الذين "يتحسسون أهميته، وينظرون إليها باعتبارها واقعا مفروضا. ويتحايلون في تعاملهم معه بين تأمين بعض حاجاتهم، وبين التودد إليه لادخاره للهزيمة المرتقبة، وكان السائق بدوره يعي ذلك تماما فيتعامل معهم وفقا لذلك".
"6"
واشكالية البطل في تنويعاتها تتمركز في البحث عن البصرة في البصرة.. "أين البصرة الآن؟، من منّا تصدى لاختفائها؟"، ربما سبب الاختفاء المديني، هو تغييب المكين عن المكان.."لم يكن غريباً أن تنشأ علاقة سريعة كهذه في تلك العقود الماضية..".. والسارد هنا يشخص قوة البطش التي محقت تلك السمة الكوزومبولوتية لمدينة البصرة، مدينة التعايش السلمي بين مسلمين ومندائيين مجبولين من موازين ذهبهم ومسيحيين نشاركهم أعياد رأس السنة في الكنائس والنوادي، ومسيحيات يقصدن العتبات المقدسة مع أخواتنا وأمهاتنا، ومسلمات ريفيات ومدنيات يقصدن كنيسة "مارافرام" في منطقة "الكزّارة"، أو كاتدرائية "المحبول بها بلادنس"، في "الخضّارة"، ليسلمن "الارشمنديت"، أو القس ما في ذمتهن من شموع للسيدة العذراء عليها السلام، ومازلت أزور دير "بنات مريم الكلدانيات" لأبوس رأس الأم المبجلة الماسيرة "كاترين"، أو أتحمد السلامة للماسيرة "سوزان"، فتترك مطالعتها في كتاب فرنسي وتحتضن تلاميذها أولادي.. وفي مدرسة الجمهورية النموذجية، كان يقتسم الرحلة معنا تلاميذ يهود منهم ابن اليهودي "البير كارح" الذي تعود له ملكية مبنى اتحاد الأدباء في الكزارة..
في تلك السنوات التي غدت الآن يوتوبيا، كانت الأولوية للبصرة كهوية وليس للطائفة أو الدين أو القومية.. بسبب النظام الشمولي، انطمست معالم البصرة الحقيقية، وقرفصت في الذاكرة، وهنا يخاطب السارد والده.. "لكن عشيقتك هذه يا أبي ليست بصرتنا التي ترعرعنا في بؤسها وحروبها وحصارها، هذه بصرتك أنت، عشيقتك لوحدك، بصرة ذاكرتك العتيقة التي سبقت بصرة بشير التمار بعقود،...وهجرة غالبية جيرانك وأحبابك من اليهود، فعليك أن تصغي لضياعنا وخرابنا وما حل بنا من دمار وحروب وقحط، عسى أن تصدّق لمرة واحدة أن بصرتك ضاعت وهجّرت.. وأنك أيها المغفل هو آخر من ظل شاهدا على موتها".. لا يقف الأمر عند هذا الحدث من الشعور الذاتي، فهذا الشعور ينبض بما يجري ميدانيا من شراسة شمولية تقوم بها أجهزة النظام التعسفي.. "التغيُّر الذي طرأ في الخارج بدأ يقاطعه تغير أخلاقي في إدراكي. هناك وجوه غزتها التجاعيد، وأجساد بدأت تذوي، وحوارات في الشارع والمقهى والسيارة تدور في دوامة الجوع والأمراض والحصة التموينية، وثمة من يتحدث عن ضربات صاروخية جوية جديدة، وحملات قص آذان الهاربين، وهناك من ينشغل بتأمين قوت يومه ولا ينتظر من ينقذه".
"7"
حين نطلق على السارد الضمني مفهوم البطل، على القارئ ألا يستفزه الأمر، أعني القارئ الذي يقرن البطولة بالعضلات والمغامرات، فمفهومنا للبطل نلتقطه من مواقف مواجهة الحياة والتفاعل معها والتأثر والتأثير في أنظمة السلوك الجمعي فتعني البطولة: الإنساني والبسيط والواعي بضرورة كسر النسق الاجتماعي، والبطل في الروايتين يشعر بأن العالم الذي هو فيه ليس العالم الذي يود ان يكون فيه، فهو يمتلك العالم بالمعرفة، وهي معرفة لا تتحقق على المستوى الميداني، بسبب قسوة الاستبداد.. "نحن نعوم.. في منهول مستهلك، نعيش على تلك المساحة المغبرة الضيقة من الزجاج، تلك التي لا تطالها ماسحات زجاج السيارات في تأرجحها المكوكي يميناً وشمالا، وبينما تتوالى الاهتزازات التاريخية من حولنا، نمضي نحن بخفة نحو ظلمات العصور الوسطى".. والبطل لا يعيش حياته، إلاّ عبر ميتات مصنّعة عسكرتاريا: حرب ايران.. غزو الكويت.. حصار اقتصادي.. إعدامات بالجملة والمفرد.. كل هذه الميتات تجعلني، أسمع البطل يصرخ صرخة الشاعر الروسي "مندلستام".. "أراهن أنني مازلت ُ حيا".. إذن هو بطل ايجابي في شحنة سالبة اسمها جمهورية الرعب.. وما سوف تسرده متسائلة "غرف التعذيب في دائرة المخابرات وجدرانها الملطخة بآلاف البقع الدموية، منذ عقود تنتظر، والليل البارد طويل، طويل جدا لجلاد ثمل محمّر العينين وُعد بوجبة عشاء دسمة، وها هي المائدة متراصّة أمامه بالغزلان المشوية"..
ولا يقف الآمر عند سلطة الجلاد، فهناك من لا يخلو من سلوكيات هذا الجلاد في الأسر.."احتل المعتقلون الشقاوات عددا كبيرا من الخيم، وقاسمهم في الاحتلال عدد من الجماعات المتحزبة، وجماعات المحافظات والأقضية والأرياف والعشائر والبغادة، بينما ظل عدد كبير من الأسرى في العراء بانتظار إيجاد مأوى لهم، أما نحن الضائعون فقد كنا أسرى من الدرجة الثالثة، وكلما ذهبنا إلى خيمة استقبلنا أهلها بجفاء وطردونا إلى خيمة أخرى"، والبطل في كلتا الروايتين مثقف مأزوم بالقوة "أنني أكثر ضياعا وان ما أفتقده يبقى دائما بعيد المنال"، وحسب قوله في الزمرد:"إنني اعتدتُ على التسكع والعبث، وباتت رائحة الإفلاس عطري المفضل"، وهو لا يجد ما يسد الرمق، رغم كل محاولاته المستميتة.. "ظللتُ أحشر نفسي يوميا منذ ساعات الصباح الأولى بطوابير العمال "الكجول"، دون أن أفلح بفرصة عمل واحدة"، حتى في الأسر، يحاول صيانة تفرده الجميل.. من ضجيج الكثرة.. "أنا لا أشعر الآن أنني فقدتُ حريتي لأنني ببساطة لم أكن حرا. ولكنني فقدت ما هو أجمل من ذلك، فقدت عزلتي".. وحين نتأمل مابين القوسين بين حركة الشخص والكل فـ "المتصف بالشخصية يدافع عن فسحة وجوده ويوسعها على نحو غريزي، أو متعمد" على حد تعبير "فرانسوا بيرو".
"8"
"انتهت الحرب"، بهذه البشارة تبدأ الوحدة السردية الأولى في رواية "ضياع في حفر الباطن".. لكن البشارة تخفي في طيتها الوجع العراقي كله.. "عزاءات ليلية، حصلت هناك في بيوت الأرامل والأمهات اللواتي فقدن أولادهن".
في "الذباب والزمرد".. بقصدية مدروسة نكون أمام لعبة شعبية يلعبها الصبيان في المدينة، حيث ينقسمون إلى شرطة وحرامية، لكن الانقسام مشروط بالتشبير، وبمثل هذه اللعبة ينقسم المجتمع، قسمة ضيزى، ولا من طرف ثالث في مجتمع المطاردة هذه! "في نهاية آخر عملية قياس قام بها طفل حليق الرأس أمام أعين الصبية، وصل عدد اللصوص الصغار إلى أحد عشر لصا، مقابل شرطيين، أحدهما كان صبيا بدينا حافي القدمين، بينما كان الآخر أعور"!.
"9"
بطل مثقف، اشكاليته هي كيفية الموازنة بين المواطن والمثقف في شخصية بطل الروايتين، فالشرط الاجتماعي يفتت الاثنين في الواحد، يستعمل المواطن لأغراض سلطة السلطة، ويستلب من المثقف مشروعه الثقافي، "أظل أنشد لوسادتي الرطبة جملة شعرية تتنزل من الغيب، عسى أن تكون ترنيمتي بعد أن أكون قد فقدت أي أمل في أن تصبح مأوى"، فيضطر إلى بيع وسائل إنتاجه الإبداعي على الأرصفة.. "فصرت في نهاية المطاف بائعا متنقلا بائسا يعرض أفخر المجلدات الثمينة على متعهدي الصحف وباعة سوق الجمعة الجشعين ويساومهم على ربع أثمانها".
"10"
لا تخلو رواية " ضياع في حفر الباطن" مع استعمال السيري في الروائي، بشكل متمكن، فالمرأة المهداة الرواية إليها، يرد اسمها في المتن الروائي، كخطيبة البطل، وكذلك أسم والدها.. ورواية "حفر الباطن" تشتغل على موضوعة في غاية الأهمية، هي حرب الخليج رقم "2"، التي أضرمها النظام العراقي ضد الكويت، وزج جيشا انهكته سنوات حرب الخليج الاولى.. وما تبقى يقادون ثانية وهم بكل هذا البؤس في كراج الزبير.. "قطيع ماعز أجبره البرد على الانضمام. "كليتات وكوفيات ودشاديش وقماصل عسكرية"، مخلفات حروب عديدة تمضي إلى المحرقة حاملة صكوك هلاكها وسط نظرات المارة التي هالها ذلك القطيع فانهالت عليه بالحسرات وعبارات الإشفاق".
"11"
تشتغل العنونة في "الذباب والزمرد" على "تركيب الشفرة" بحسب "القاص محمود عبدالوهاب"، في غلاف الكتاب، ثم تفكيك الشفرة في بنية السواد، حيث فاعلية تبئير الرؤية.. "لا يرونا إلا من خلال الزمرد"، إذن هي ليست بالرؤية المباشرة، بل عبر رابط اتصالي، ومَن يمتلك الزمرد هو من يمتلك سلطة السلطة بكل بطشها، وهكذا نكون أمام رؤية متعالية تسعى لسقاية شهوتها الدمائية بهذه الطريقة، وهي على مستو آخر لها جذورها التاريخية.." هواية ملوكية أبتدعها نيرون الذي كان يعشق مشاهدة مصارعة عبيده من خلال بلورة الزمرد، كان يضعها قبالة عينيه ليشاهد أجسادا تتلوى وهي تمسك بعضها ببعض في حركات وأوضاع عنيفة وصاخبة".. أما الذباب وبحسب السارد الضمني.. "نحن معشر الذباب"، إن هذه الاتصالية في ثريا الرواية كسرت النسق المتعارف عليه، أعني اقتران الذباب بالحلوى، وهنا ستنعدم المسافة، فالذباب سيحط على الحلوى، أما العلاقة بين الذباب والزمرد فثمة برزخ بين
الزمرد--------- الذباب.
أعني أن الزمرد سيكون عاليا، علو المكان الذي يجلس فيه نيرون أو النسخ الآتية من بعده إلى ما بعد الآن، أما المصارعون فسيكونون في قعر حلبة المصارعة، أو في مكان أدنى من مجلس نيرون.. ضمن فضاء النص.. سيحدث ذلك الانزياج الجمالي الرباعي:
* "لتصنع مشاهد عنيفة وصاخبة، تشبه رقصة أوسم المجنونة في حفل زواج كميلة".
* "أو اهتزاز حياوي المكبل بالدرباشات والخناجر والأسياخ داخل التكية".
* "وقد لا تختلف عن تشردنا المذل في يباب الحصار".
* "أو حتى عن حزن أبي على ذكرياته التي هجّرت قسرا من "الصِنْدَقْچة" العثمانية العائدة إلى جده".. كقارئ أرى التبئير يواصل أعماله، ونيرون يواصل تحولاته البشرية، والجموع تتوارث الجلجلة ذاتها، فالسرد يفكك الشفرة من داخل السرد، أعني شفرة الزمرد
نسقيا.. وعلى مستوى آخر يشير إلى تاريخية القسوة، والتاريخية بدورها تحتوي في طيتها لما يجري في الحاضر العراقي في سنوات الحكم الشمولي.. «نحن ذباب لا يستحق الهش»، ثم ينقلنا السرد إلى نيرون بطبعته العراقية..»أنظروا إلى صورته.. التفتوا وأمعنوا النظر إلى صورة سيدكم يا معشر عبيد نيرون، إنه يبتسم، أتدرون لماذا؟، لأنه يراكم ذبابا، ولأنه يثق بما تعكسه بلورة الزمرد»..
وسيواصل النص الروائي تفكيك شفرة العنونة وتفعيلها، ضمن تساؤل يوجهه السارد إلى مقولة وجودية تعود للفيلسوف سارتر.. «لكنني أتساءل: هل حقا إن الإنسان عاطفة لا فائدة منها؟»، ثم يجيب بالنفي:»لا، انه أوطأ من ذلك، إنه ذبابة. نحن وعبيد نيرون من شجرة واحدة. ذباب ذليل يصنع نشوة الملوك التي لا يصطادها إلا زمردهم».. ثم ينتقل من التنظير الى العياني الذاتي: «كنت أحقر من ذبابة بنظر أبي»..
«11»
العنونة الثانية أيضا اشتقاقية «ضياع في حفر الباطن»- شخصيا أكتفي بـ «حفر الباطن»، فأسم المكان يفي بالغرض، لأنه «العنصر البؤري» حسب محمود عبد الوهاب .. وهكذا فعل نجيب محفوظ في عنواناته.. «زقاق المدق.. القاهرة الجديدة.. خان الخليلي.. بين القصرين.. قصر الشوق.. السكرية».
«12»
ما كان حاضرا في زمن الرواية، صار تاريخا، مع الشروع في كتابته سردا فهل يمكن اعتبار الروايتين من الروايات التاريخية؟.. أقترض من سعد الله ونوس وأجيب «يستدرك الأديب تقصير المؤرخين»، يمسك الروائي الثور من قرنيه، يرى في السلطة العراقية الشمولية طيلة ثلث قرن، المأساة الضرورية فهي تعزف لحن الأمان بحبل تتدلى منه أعناق العراقيات والعراقيين، ويرى فيها الكوميديا اللازمة، إذ ستتدلى السلطة نفسها من ذات الحبل بعد هزيمتها العسكرية، التاريخ هنا جرعات مفلترة روائيا، جرعات مسلطة على سلطة رعوية قاتمة، جعلت من لهجتها اللغة الرقمية، وتاجرت حتى بعيون المعدومين!.. «قلع عيون المحكومين بالإعدام حال تنفيذ العقوبة بهم ونقلها في صندوق معدني مليء بمادة الفورمالين إلى بنك العيون في مستشفى ابن الهيثم».. ستعرج عيون آلاف المعدومين والمعدومات في سماء دامية، ثم تخترقها وتخترق سمواتنا.. لتنبض نجوما، وكل منا حين ينظر إلى النجوم سيرى أخوته ورفقته وأصدقاءه، وكلما تبادل النظر مع النجوم ستتشكل الوجوه التي ارتفعت أعلى من حبال المشانق.. وهذه الرؤية لا يحسنها المؤرخ بل هي مهنة الروائي وهو يشر عن سردياته، فكيف إذا كان الروائي متهما بتهمتيّ السرد والشعر،كما هو الحال مع الروائي «عبد الكريم العبيدي»!؟.