كثير من الكتاب يلجون عالم الوصف وهذا طبيعي لكن الغالبية لا يبتعدون كثيراً عن وصف الواقع وحواشيه أي ما يحيط به لغرض وضع القارئ في محيط الحدث وتوضيح الصورة وتسهيل عملية تقبل القارئ لمجريات الرواية .
أكثر الكتاب يعتبرون الوصف شيئاً تجميلياً لأنه ليس من صلب الحدث ولا تأثير له على مجريات الرواية.
لا شك أن مرد ذلك ثلاثة أسباب:
أولهما مستوى القارئ الذي لا يقرأ ما أطلق عليه "القراءة المتكاملة" أي يركز على الحوادث والشخوص ولا يستطيع بسبب محدودية مستواه دمج خلفيات الحدث وتفاصيل موقع الحدث وغير ذلك من تفاصيل هامة تنضج الرؤية والصورة المتكاملة والخروج باستنتاجات محددة عن الرواية.
وثانيهما أن بعض الكتاب يشعرون أن الوصف شيء ثانوي لا يضيف الكثير إلى أحداث الرواية رغم أنهم يؤمنون أنه يمهد للحدث ويرسم خلفية الصورة والمشهد.
ثالثهما يتعلق بتكنيك الوصف ذاته حيث أن الوصف المباشر يسقط الكاتب في مطب اللغة العادية المألوفة و الوصف غير المباشر أو العالي المستوى الذي يحتاج إلى طاقات تعبيرية وخزين وذخيرة لغوية جيدة وإلى الربط الذكي لكل هذا مع مجريات أحداث الرواية في تلك اللحظة وفوق ذلك وعي الكاتب بكيفية ومجالات توظيف الوصف لخدمة الإستراتيجية العامة للرواية.
ولهذا قدرتُ أن كتابتي عن النفس الشعري في رواية الدكتورة "خولة الرومي" ستكون مدخلاً طيباً لنقد الرواية ككل في المستقبل وسبب تقديري هذا هو أنها سلكت الطريق الثالث ضمن إستراتيجية مرسومة وذكية حيث قادت القارئ لاكتشاف الأحداث ضمن محيط الوصف وكان من الممكن جداً أن ترفق الدكتورة "خولة" تسجيلاً لموسيقى تصويرية "أحس أنها مطلوبة" لكي تكتمل روعة الصورة..
وإليكم البداية
البداية كانت ظلاماً دامساً... ثم إنبثق النور.. وعالمٌ توسع، وملايين من الثمرات إنتشرت في كون بين الظلام والنور.. وهناك.. إرتفع حاجزٌ أمامه.. وألوان، ونباتات نمت متسلقةً تحمل وروداً وأزهاراً ملونة، وتعطّر الجو بروائح زكية تلف الصخور، وتندفع إلى الأعلى بقوة الحياة التي منحت لها. وتطايرت فراشات ملونة، وزقزقت عصافير.. رفيف حمائم حلّقت عاليا في نورانية صافية تحجب ضوءاً برتقالياً لظلال النور وإنعكاساته فوق صفحة المياه المنحدرة والمنطلقة في شلالات تعبر الأنهار والبساتين المحيطة بالحقول الواسعة.
هذه هي البداية، بداية الرواية وها نحن نرى أن الروائية وضعتنا منذ الجمل الأولى أمام خيار مصاحبتها في رحلة لوصف الزمان والمكان في آنٍ واحد، ولأن كليهما أعجب من أن يوصفا وأغرب من أن يعرّفا فلابد للقارئ أن يستسلم في رحلته القدرية ويسير في طريق الإكتشاف المتعدد المجاهيل زمانياً والمتتالي الصور والألوان مكانياً.
الروائية لم تترك المكان للوصف الجامد بل لونته بريشة الفنان بلونين الأول هو المكان المتَخيّل خارج الأبعاد العادية للأشياء فهي حين تقول:"كانت تتنصت إلى هسهسة الأغصان عند إحتراقها، وإلى همس الرياح، وإلى حفيف الشجر، وأصواتٌ تأتي من أعماق الصمت.. فتدور راقصة حول النار.. تلمسها من بعيد فيشيع الدفء والحياة، وتظل ترقص حتى السحر حين يغيب القمر، فترجع إلى الكهف وتنام بين أحضان آدم وهي تهمس أن هناك أرواحاً في الغابة. إنها تحس بها.. أرواح شجر السنديان العتيقة وشجر الصفصاف والصنوبر"..
هذا الوصف فيه تلوين مكاني متفرد أضفت عليه الجملة الأخيرة "موسيقى الأضواء السحرية لوقود النار.." تلويناً موفقاً غير مباشر كما أنها قالت ما تريد بلا مباشرة أن النار أبعدت الجان.
أما اللون الثاني وهو ما كتبت مقالتي عنه فهو الإرتفاع بلغة الوصف إلى لغة الشعر الراقية وهو لعمري من أصعب الأشياء على الراوي فكما هو معروف أن لغة الشعر النثرية تحتاج إلى تلقائية عالية وتكنيك لغوي متمكن والدكتورة خولة رصعت روايتها بنسيج شعري نثري غاية في البساطة والعفوية وبدون إقحام أو تعمد، فحين تصف الشمس:"كرة نارية تنطلق كل يوم دون توقف حبلى بالأنوار، تلفُّ الأشجار والكون داخل نسيجها الشفيف، دون أن تحرقهم جميعاً، حمراء تتوسد الألحان هامسةً بالأزمان حيث تتبعثر بين ذرات النجوم فتصبح غيوماً تبتهل للمطر والسحب ?لمتقطّعة ذات الزرقة الغامقة في زحفٍ دائر بدون هوادة للتخلص من قيودها الملعونة التي تحرسها الشياطين والجن.. إلا أن تلك الأرواح تدور كقرابين على مذبح الآلهة.. ملايين السنين بقى زيوا يحل طلاسم ذلك العالم".
هذه لا شك لغة شعرية نثرية متألقة تضفي على النص جمالية أخاذة وتلويناً من نوع خاص خصوصاً أن هذه التعابير الشعرية منثورة هنا وهناك ضمن النص
2
إن هذا النفس الشعري ذو اللغة العالية غير المتكلفة الذي يرد في نسيج النص يغري القارئ ويمنحه لذة إكتشاف المعاني المتشابكة بل تزيد نهمه لقراءة المزيد وللتمعن أكثر وأكثر في النص وهذا بطبيعة الحال من مزايا اللغة الشعرية كونها مكثفة من جانب ولكنها كاشفة كأنها لقطة مصور بارع من جانب آخر..
فنتأمل جملة:" إقتحم عذرية بيوتهم وأسرارهم".. إنه إقتحام عذرية البيوت والأسرار وليس إقتحام للبيوت والأسرار وفي هذا فرق كبير وحساس إنه إقتحام لما لم يقتحم من قبل وهو إستخدام موفق كثيراً وفيه من روح المجد الشعري الكثير..
وفي صفحة 88 كتبت الراوية النص التالي ولم تستطع إلا أن تضع نقطتين نهاية كل جملة والسبب واضح لأن الجمل غير منتهية فلا يمكن وضع نقطة ولكنها ليست جملة واحدة وها أنا ذا أقول أن هذا المقطع شعر ولا يمكن أن يكتب إلا هكذا..
لم يتغير الزمان، مازال أبناؤه كما هم
فملامح آلهتهم بقيت تدور حولهم منذ القدم
من سيدفن أجسادنا ويرد عنا البلاء
والجوع يغطي ظلال التلال
سنرحل ونعود إلى ديارنا قبل أن تبرد دموعنا
ولن يعرفنا حتى صغارنا والهواء
إنما هناك ملاحظة جديرة بالإهتمام وأقول للقارئ عد لقراءة المقطع مرة أخرى، ألا تشعر أنه شعر مترجم من لغة أخرى؟! سأعود لهذا الموضوع الهام عند تناولي للغة الكتاب.
قال آدم انظروا إلى السماء إنها الدرب
وحين نمتطي الضياء سنعرف الحقيقة
إنه الغيب الذي سيقود خطانا
وعبر هذا الدرب سينضج وعينا".
لا بد من القول أن "خولة الرومي" واعية تماماً للغة النص وتراكيب الجمل ومعانيها وخلفياتها إنما المثير هو العفوية الواضحة التي تكتنفها وهذه المزاوجة هي من أصعب الأمور لأنه السهل الممتنع في لغة الشعر
أنزلني يا جدي معك
فملء أمواج النهر جسدي
ووهج من النور داخل روحي
كرجع التراتيل تناديني
هذه اللغة الثرية الغنية بالمعاني وظلال المعاني، هذه الجمل ذات الأبعاد الأربعة لها طول وعرض وإرتفاع ولها بعدها الزمني الذي يضفي عليها هالة روحية محببة
حزنٌ هادئ.. كصدى الترانيم تشيع في روحه.. وخيالات لأوهام تفيض بها أفكاره..همهماتُ نسماتٍ تداعب أغصان الشجر وتراقصُ سعف النخيل ..عبر حدود الزمان والمكان
إن وصف الحزن الهادئ قام على بناء علاقة تَوازي الإنساني الذاتي هنا في "صدى الترانيم وخيالات الأوهام"، مع الحدث الطبيعي "نسمات تداعب وتراقص" وإكتمال الحالة بصورتها المطلقة "عبر حدود الزمان والمكان"، هنا مقصود بذكاء وهو رسم صورة ناطقة متحركة لطبيعة الحزن الهادئ فما أجمل ذلك خصوصاً أنه إكتمل بالمطلق من الزمان والمكان.
ومن حين لحين تطلع علينا كاتبة الرواية بنص شعري معرفي مفلسف يحتاج للوقوف عنده طويلاً
طالت صلاته
يبحث هو عن المعرفة داخل وعيه الذي منحه له الله
وتأتيه من شقوق الزمن الغابر
ودروب الشمس حين تجفُّ آثارنا عليها
فتصبح أساطيرَ نتحدث عنها
ومرة أخرى تزاوج الكاتبة بين الطبيعة والمشاعر الإنسانية فتكتب:
"حزننا واحد على شرفاتٍ تتطاير حولها الطيور المسالمة
وسوف توجعنا الذكريات وتلاحقنا
حين نترك آثارنا عابرين أرصفة الأزمانْ".
ولابد أن نلاحظ هنا أن الأمكنة المختارة غائمة وغير محددة "شرفات تتطاير حولها،أرصفة الأزمان"، وهذا لاشك من صفات الشعر الراقي الذي يترك الباب مفتوحاً للقارئ لكي يخمن ويتخيل وما أجمل "تلاحقنا" هنا !
ويستمر شلال الشعر المنثور في هذه الرواية وكأنها كتبت شعراً في بعض مقاطعها المتفردة
عبث وأمنيات مهشّمة
وظلال طيور
ومواسم أمطار تمر فوقنا
وحكايات أجدادنا وجداتنا قرب مواقد الشتاءْ،
كالصدى تداعب آمالنا أن نكون أحسن وأصلح
ونمر بكفنا فوق رؤوس أبناءنا مواسين ومخففين لمصاعب حياةٍ تمرُّ
كأجنحة خفيفة
ورنينُ معاولنا تحفر أمامنا طريقاً يسمى الحياة
وفي النهاية
من سيجمع بقايانا ؟
إنه مصورٌ إلتقط مئات الصور ثم سلّم كل شيئ لفيلسوف صاغ الكل في كلمات وصولاً للسؤال الأزلي من سيجمع بقايانا؟
وحتى وصف الطبيعة فيها من النفس الشعري المبدع فلنقرأ سوية:"تطاير الحمام حين وصلوا برحلتهم نهر الفرات
وساروا بسرعة على الشارع الذي يوصل إلى مدينة الناصرية
لجين الماء يلمع تحت أشعة الغروب
وجذوع النخيل تقف كأعمدة معبد من معابد سومر القديمة
صفّت بكثافة المتعبدين فيها
وأشجار البرتقال والورود والنباتات البرية تملأ المكان بعطورها
ترسل لغة مهرّبة من بطون أزمانٍ غابرة
تحكي فيها أسرار العالم الماضي التي لا نعرفها
نكاد نلمسها داخل تلك الأجواء الحريرية
بغموضها الشرقي".
لغة شيّقة وتصوير متقن تتخلله كلمات لا تأتي إلا على بال الشعراء مثل "لغة مهرّبة"، "غموضها الشرقي".
وهكذا ننتقل من نص شعري منثور إلى نص آخر لا يقل عن سابقه في علو كعبه وإمتزاجه التام مع الحبكة القصصية وكأنها مساحة للتنفس من تتابع النص لكن الكاتبة وضعت لنا وبذكاء لافتة في كل محطة إستراحة لكي ننتقل من حدث إلى حدث أو من حوار فيه سؤال إلى جواب السؤال:"
من أغوار الأسرار القديمة نمد دروبنا
نسير خلال ظلال من ضباب
كي نكشف المجهول
ونعبر إلى سنين الحضارات".
وتبقى الكاتبة تسأل السؤال الأبدي الأزلي:"من سيجمع أشلائنا عبر أزمان آدم".
والسؤال المهم الآخر الذي سأله آدم:"من أنا"؟.
وهكذا كانت رحلة الكتابة عن "النفس الشعري في رواية الدكتورة خولة الرومي آدم عبر الأزمان"، رحلة ممتعة إقتنصنا فيها على عجل ما وجدنا أنه باب مسحور من أبواب الأدب الرفيع فدلفنا منه إلى عالمها الغريب الملون بالصور والأفكار والمتاهات الأسطورية والشعروآثرنا أن يشاركنا القارئ هذه الرحلة الممتعة.