لا أعرف مدى دقة مصطلح "شعراء الكراهية" الذي أطلقه الشاعر شاكر لعيبي على شعراء فرجة الدم العربي في فلسطين وفي العراق وليبيا ولبنان وسوريا والصومال واليمن وغيرها، لكن صدقية أن يكتسب هذا المصطلح فاعليته في السياق يبدأ من إثارة الحجاج حول علاقة الشاعر بوصفه مثقفا رائيا وصانعا للوجدان مع ما يجري من رعب عربي وخذلان عربي..
فهل بات هذا المثقف أكثر رعبا وأكثر خضوعا في استمراء مازوكيته عند لعبة الهروب الثقافي؟، وهل أن طغيان القوة أصبح مصدرا لصناعة المزيد من الاستلابات الثقافية التي تسحق المثقف تحت أوهامها؟، وهل انكشفت جبهة المثقف اليساري والقومي والاشتراكي والديني على عري فاضح افقده القدرة على المواجهة أو صناعة المشروع الثقافي الضد؟.
كل هذه الأسئلة تحتاج إلى مراجعة نقدية وأخلاقية، وربما إلى مراجعة سسيوثقافية، قبل أية مراجعة للايديولوجيا التي تركت لنا الكثير من صناديق العدم، إذ لم يعد أمام هذا العدم الثقافي سوى الإفضاء للتوهان، والاعتراف بالخطيئة أو الهزيمة، أو حتى الاعتراف بأن طرق الحرير القديمة لم تعد صالحة سوى لطرق الجحيم..
كتابة المراثي والأسى لم تعد نافعة لأننا بدأنا نرثي أنفسنا بإفراط قبل طقوس موتنا وبعد عزاءات موتنا، ونتأسى دائما على شيوع العطب والفقد الذي نعيشه قبل مجاورة الفقدانات الأكثر رعبا، إذ بات البعض من مثقفينا المؤدلجين والمتفرجين أكثر ورطة في "صناعة حروب الفقدان الانطولوجية" وأكثر تشفيا بالخراب الذي يحدث!، وطبعا هذا التموضع ليس تعبيرا عن موقف ثقافي وإنساني وسياسي خالص، بقدر ما يكشف عن ادلجة ضيقة الأفق، وعن هشاشة في الاستعمال الثقافي، وفي صناعة السوق وترويج البضاعة الثقافية، وحتى التفكير العقلاني في "دوزنة" العلاقة مع الآخر الغربي واللغوي، مثلما كشفت عن الكثير من الكراهية التي لم تزل خبيئة تحت القميص العائلي والوطني، والراكزة في اللاوعي النكوصي، وصولا إلى التماهي مع تمظهرات النزق الطائفي، والاستعانة بقاموس الفقهيات لتبرير عصابيات الموت العلني والمذابح العلنية..
لا أريد أن أحدد صورة رسولية للمثقف، او اصطنع له وظيفة عابرة لـ "القومنة او الطيفنة" او حتى للمثقف الذي كثيرا ما يتورط بأمراض اليسار الطفولي التي قال عنها لينين بأنها أخطر على الثورة من الأعداء أنفسهم، لكني انحاز لحضور المثقف بوصفه صاحب الوعي الشقي بمسؤوليته وبأسئلته، وبحدوسه التي تتلمس ما يجري عند العتبات من فجائع ومن خرابات..
- هذا المثقف الافتراضي أو المتخيل، هو نموذج للبطل الأخلاقي، بطل مابعد الثورة، وما بعد الايديولوجيا، إذ ستكون صورته خارج الحائط العائلي، وخارج المتحف الوطني أو خارج "جميعة الشعراء الموتى"، كما أعلنها وليامز روبن!.
- هذا المثقف الشاعر والرائي يقودنا فعلا للكشف عن حجم الكراهية،وحجم العطالة، وحجم الأوهام التي نركض في سرابها، إذ تتحول مغامرة هذا الكشف الى ما يقابل الكشف عن الخديعة اللغوية التي تورطنا بها منذ قرون، خديعة النص والفقه والتأويل، والتي عطلتنا عن الرؤيا، واكتشاف الحقل المجاور والمرأة المجاورة والاستعارة المجاورة، مثلما عطلتنا ان نكتشف شفرة الجورنيكا التي نعيش طقوسها كل يوم في زماننا العربي..الجورنيكا التي الهمت بيكاسو، لأن يخلّد موتاه.. فهل لموتانا من يخلدهم من مثقفينا المكدسين أمام المحنة والتائهين في طريق الجحيم؟ وهل لنا ببطل ثقافي سريالي او فنطازي أو ثوري ليصنع لنا جورنيكا عربية، تعرّف العالم على الأعداد المرعبة لموتنا، وعلى خراب مدننا، وعلى توحش حكامنا الذين اشتروا الاوطان بفرمانات عثمانية او بانقلابات عسكرية او حتى بهبات عائلية..
- الجورنيكا العربية هي أقسى دروس التعبير عن ممارسة الكراهية، وهي أقسى دروس الفرجة، وأقسى مستويات الفضح عن عطالة الانتلجنسيا العربية التي لم تستطع ان تتخلص من فوبيا الحكومات القديمة، ومن لزوجة الوعي القديم، وعي الدكان ووعي الفقيه والشرطي ورجل الامن والمطارات..
محنة المدينة والثورة والهوية هي محن اشكالوية لضيق افق المثقف المحشو بقاموس الكراهية، وتعرية لعطالة دوره، ورعب استلابه ازاء التاريخ والسلطة والجماعة، وان اي شروع باتجاه المكاشفة لا يعني بالضرورة ان يظل هذا المثقف عند طقسه المازوكي في تأنيب النفس دائما، وكأنه حامل الخطيئة، او انه يتعالى على الاخرين متهما "الناس اللي تحت"، كما يسميهم نعمان عاشور بكل ما نتعرض له من هزائم قومية وثقافية وتنموية وحداثية، حتى بات البعض يقول ان الحداثة تعني دائما مجتمع الرفاهية، وان الفقراء كائنات "زائدة عن الحاجة"، لذلك هم غير صالحين للاندماج في العولمة والميتا حداثة، هم يعيشون دائما وهم الضحية، أو وهم التابع الذي يتحدث عنه هومي بابا وايميه سيزار وفرانز فانون وسبيفلاك كثيرا حول استلاب الشخصية مابعدالكولنيالية..
هذه الشخصية تعيش مركّب هذا الاستلاب، فهي لاتملك القدرة على التحرر من ذاكرة المستعمر السياسي والاقتصادي واللغوي، مثلما لا تستطيع انثربولوجيا ان تصنع انساقا للقرابات المتجاوزة لمحنة شخصيتها اللاواعية، اذ هي تعيش استيهامات الرهاب الداخلي، تبحث عن التعويض بوصفه اشباعا، وتلذذا بالحوار مع الاخر بوصفه شكلا للوجود او حتى السيطرة..واحسب ان استعادة شفرة الجورنيكا تعني الحديث عربيا عن رفض القوة الغاشمة التي يصنعها المستعمر والجنرال، والافصاح عن احتجاج الضحية على فكرة الموت العلني الذي نتفرج عليه ثقافيا عبر الميديا وعبر الصورة والقصيدة والرواية في المدينة العربية المذبوحة..
- السؤال هنا لا يكمن في الحديث عن نموذج العربي المنقرض كما يتهمه ادونيس، ولا في الحديث عن نموذج الهوية المقتولة والقاتلة كما تحدث امين معلوف، بل يتمثل في ضرورات الحديث عن الدعوة الى حوار ثقافي عربي، حوار ما بعد أوهام الثورات، حوار مؤسسات وجمعيات ثقافية بعيدا عن أوهام التخوين والتطييف، وبعيدا عن إعادة إنتاج مثقف السلطة ومثقف النقابة او مثقف المقهى او مثقف الكراهية، وباتجاه الحديث عن ضرورة المثقف المسؤول، الملتزم، العضوي، المثقف الذي يعرف اسرار شفرة الجورنيكا