من باب المصادفة أن تلتقي أفكار المؤرّخ الدكتور طه حسين بأفكار المؤرخ الدكتور البصير، من نوابغ القرن العشرين. كيف؟
تكادُ تكون أدوارُ حياتهما متشابهة حد التطابق أحياناً وفيها بعض أوجه التضاد والتناقض حيناً آخر؛ فالولادةُ بعيداً عن المدينة الكبرى "العاصمة"، في مناطق أقرب ما تكون الى الريف والتعايش مع عامّة الناس البسطاء الفقراء؛ وأصيبا بذات العاهة منذ الصغر، وكانتِ النشأةُ في مجتمعٍ ديني، وثقافة دينيةٍ، وعانا من شظف العيش والحرمان، وكانت المدرسة الدينية هي الرائدة آنذاك وهي صاحبة الصوت والسطوة والقرار, وكانت السياسة تجري في عروقهما والإنتماءُ للأحزاب السياسية، فكان الدكتور طه حسين تاريخه السياسي في تاريخ الأحزاب المصرية?حيث كان متنقلاً بينها ومعها "حزب الوفد،حزب الأحرار، حزب الأمة"، والدكتور البصير ودوره في تأسيس الحركات والأحزاب منها حزب حركة الاستقلال وحزب الوطني، والمشاركة في التحريض والثورة على النظام السياسي والتعليمي والإداري، فكما كانت ثورة 1919م في مصر وتأثيراتها وما ألقت بظلالها على الشعب المصري، كانت ثورة 1920م في العراق حيثُ كان البصيرُ شاعرَها وخطيبها؛ ومعاناتهما في المطاردة، وقد كانت حصة البصير منها هي الأوفر في السجون والنفي الى جزيرة هنجام خارج العراق، والطرد من الوظيفة، وحرمانهما من حقوقهما.
كما تلقيا علومهما وحصلا على شهادتيهما العليا في فرنسا، مونبليه وباريس، فكانت سفرة الدكتور طه حسين الأولى الى فرنسا سنة 1913م، وبعدها سنة 1915م، وكان سفر الدكتور البصير سنة 1930م الى مصر أولاً ومن ثم فرنسا. ولكن المفارقة في تسجيل عنوان الإطروحة، فكانت أطروحة الدكتور طه حسين الأولى في مصر "ذكرى أبو العلاء" في الجامعة المصرية القديمة، وفي فرنسا كانت أطروحة الدكتوراه "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"؛ في حين واجه الدكتور البصير عاصفةً من الاعتراض على تسجيل الموضوع لكونه لا يتماشى مع أفكار وآراء وفلسفات الإستشراق ال?رنسي؛ لذلك سجّل موضوعه الآخر تحدياً في الأدب الفرنسي، وفي شخصيةٍ خطيرة وعلماً من أعلام العصر الذهبي لآداب فرنسا، "شعر كورني الغنائي" ونال أعلى درجة في جامعة مونبليه "درجة مشرف جدا".
إلتقاءٌ في أفكار واهتماماتِ المؤرخ الدكتور طه حسين بالمؤرّخ الدكتور البصير يصاحبه إلتقاءٌ بين كورني وديكارت أيضاً. بدءاً إختار المؤرخ الدكتور طه حسين الفيلسوف ديكارت في دراسته واعتنقَ أفكاره المتمثلة بفلسفة "مبدأ الشك في الشك" وعليهِ أسّس أطروحاته وأفكاره الخاصة بكتابه الشهير والخطير "في الشعر الجاهلي" الذي أحدثَ زوبعةً في عالم الفكر والأدب والتاريخ. واختار المؤرخ الدكتور البصير الشاعر والمسرحي الكبير "كورني". ومعلومٌ أنّ "كورني" و"ديكارت" هما من جيلٍ واحدٍ غُذّيَ بذكريات ماضٍ قاتم وهزّات حاضر قلق، وهكذا ت?دهما في نتاجهما الأدبي والفلسفي يمجّدان الإرادة.
وهكذا تجدُ الغرابةَ والمصادفة بين العملاقين "البصير" و"طه حسين"، فهما درسا في فرنسا وفي نفس البيئة ونهلا العلم من ذات المنهل ومن ذات الفكر والفلسفة ومن ذات المستشرقين وأفكار الإستشراق الفرنسي، وتزوجا من امرأتين فرنسيتين،وتأثرا بشخصيتين من ذات العصر "القرن السابع عشر" كورني وديكارت.
وجعلا من التعليم منبراً لإيصال رسالتهما وأفكارهما التنويرية، كما استوزر بل شرّفَ الدكتور طه حسين وزارة المعارف "سنة 1950م" حيث سعى فيها لتطبيق أفكاره وجعل التعليم مجاناً، وأن يكون التعليم مثل الهواء والماء لكل الناس؛ وتمّ انتداب الدكتور طه حسين في الجامعة العربية ليرأس اللجنة الثقافية سنة 1955م؛ ومن ثمّ أُنتُخِبَ سنة 1963م بالإجماع ليكون رئيساً لمجمع اللغة العربية.
واستخدما وسائل الإعلام والمحاضرات لطرح أفكارهما، فكانت الإذاعة وسيلةُ الدكتور البصير "كتابهُ نهضة العراق الأدبية"، وكانت الصحف وسيلة الدكتور طه حسين، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتاب حديث الأربعاء وكتاب من حديث الشعر والنثر، الذي كان زاوية في الصحف ومن ثم أصبحَ كتابا مطبوعاً بأجزائه الأربعة.
لديهما أيمانٌ قوي بالتاريخ حيث كانت قراءتهما قراءةً جديدةً، سواء في تاريخ الآداب أو التاريخ السياسي، فقد درس وبحثَ الدكتور طه حسين في التاريخ القديم والتاريخ الروماني ودعا إلى إدخال التاريخ اليوناني في منهج الجامعة المصرية. وكانا في صراعٍ بين القديم والجديد،فلم ينظرا الى القديم نظرة تقديس. وكانت متعة العقل والروح في النتاج التاريخي والفلسفي والفكري والأدبي "فلسفة أبي العلاء في الحياة والفكر والدين؛ فلسفة ابن خلدون الجديدة في قراءة وكتابة التاريخي بإطار فلسفي جديد عبر إطاره الإجتماعي؛ فلسفة كورني"؛ كما عبّر? الدكتور طه حسين عن أهمية التاريخ في فهم الفلسفة والأدب من خلال مقولته:"لن يفهم القارئ شعر كورني أو راسين أو جيته إلاّ إذا قرأ قبل ذلك هوميروس وسوفوكليس ويوربيدس، ولن يتعرّف على جوانب الفلسفات الحديثة ما لم يكن قد درسَ من قبل فلسفات اليونان".
أمّا التكريم للشخصيتين الخطيرتين المهمتين في الفكر والتأريخ والأدب العربي، فقد كرّمت الدولة المصرية الدكتور طه حسين مثالاً للمثقف فمنحتهُ قلادة النيل من الدرجة الأولى في احتفال عيد المعلم؛ وقبيل وفاته كرّمتهُ الأمم المتحدة بمنحه جائزتها فامتدت شهرتهُ وأعماله الى العالمية؛ بفضل توصية الحكومة المصرية والمؤسسات الثقافية المصرية.
أمّا الدكتور البصير، فقد كرّمتهُ الإرادة الملكية بوسام الرافدين المدني من الدرجة الثالثة عرفاناً بإنجازه الفكري والثقافي سنة 1938.
ولعل في هذه الذكرى تلتفت المؤسسات الثقافية ووزارة الثقافة ومنظمات المجتمع المدني لإحياء ذكرى هذا الرجل فيتم تكريمه وإعادة طبع جميع مؤلفاته ليطّلع عليها شباب اليوم.