يقول كريس بالي:»يجب أن تقرأ القصص القصيرة جدا على نحو مماثل للقصيدة، أي على نحو بطيء»، وأنا اتبعت ذلك في قراءتي للمجموعة القصصية القصيرة جدا «الخيانة العظمى» الصادرة عن دار الجواهري للقاص حنون مجيد عام 2014 ، بل وقرأتها عدة مرات على نحو بطيء، ذلك أن ما دار في ذهني حين قرأتها كثرة التساؤلات القائمة حول هذا النوع القصصي لدى الكتاب والقاصين بالذات،
والقليل جدا منهم من يعرف سبب شيوع هذا النوع القصصي، وهل هو موضة انترنت أم هل أنها قصيرة جدا نظرا لتقليص التلفاز والتيوتر والايباد، وهل ان هذه القصص حديثة العهد، فان جوليان كوف يعتقد أنها شيء جديد، وهو روائي ايرلندي مرموق الا أننا حين نبحث نجد أن كتّابا عظماء كتبوا القصة القصيرة جدا ربما قبل الرواية في أعمالهم وذلك بزمن طويل اذ كتب بترونيوس القصص القصيرة جدا في روما القديمة وكتبتها ماري دي فرانس في العصور القروسطية، أما على مستوى الولادة فتقول الدكتورة سعاد مسكين: ان هناك مواقف مختلفة حول نشأتها موقف يرى أ?ها منتج مستورد من أمريكا اللاتينية، وموقف يرى ان لها جذورا عربية قديمة تتمثل في الحكمة والمثل والنكتة والطرفة والخبر، وموقف يرى انها تطور طبيعي وراثي «جيني» للقصة القصيرة، ولكي أعود للحديث عن المجموعة القصصية «الخيانة العظمى» لابد من الإشارة إلى ان ما توحيه هو شيء رومانسي عذب عند افتتاح اول قصصها رغم مفارقتها مع عنوان المجموعة الذي يبث الخيانة مفزعا بهولها مسامعنا، فالقصص ببوحها العام تحمل الإثارة العاطفية الهادئة الحنون، تسرد بزخم متكافئ في قوته ودقة عباراته لتستكشف لنا تلك القصص كيف يمكن أن يمضي الناس في?مسارات الذاكرة أو يتوقفون ضمن بؤر حياتية يكون باعثها إما الإحباط أو الاندفاع بخيال رائق يسمو بالنفس إلى أعاليها وهذا ما يجعل القاص يكتب بما يعرف بالقصة السيكولوجية بكل ثقة واطمئنان بعدما سبر أغوار القلوب وما تعانيه النساء أو ما يعانيه الرجال على حد سواء وذلك في سياقات تحليل القيم والتعقيدات ضمن ظروف مختلفة من الحياة التي يمارسها الناس العاديين بيننا او من هم على مقربة منا نشعر بهمومهم ونتفحصها بعين خبيرة ثاقبة ونراهم يكافحون للتصالح مع ذواتهم الولهى بالماضي، وما مرّ به من شخوص ربما ماتت وهو الصديق في قصة «?لخيانة العظمى» و»موت عبد الستار ناصر»، أو شخوصا لازالت على قيد الحياة قريبة من الخيال بعيدة عن الواقع وذلك في «مشكلة النساء» وقصة «نساء» و«سوى قلبي» ان الرجوع للماضي كثير في هذه المجموعة القصصية كأنه بوح للنفس بما هو جميل خفي في قرارتها ففي قصة «صورته الآن» نرى البطل ينظر الى نفسه في المرآة ويتذكر ايام شبابه من خلال صورته المعلقة على الحائط فيتألم حد الجنون وهذا الألم نفسه يأخذه في قصة «تيه» اذ يجد نفسه حائرا في مكنون حياته وبوادر الوجود من حوله التي لا يشعر بها فيكثف المعنى كي يوصلنا الى ما مفاده ان لا ?عم للأشياء حولنا وربما أننا نيام ونعيش حلما وهذه غرائبية نجدها تغلف معظم قصص المجموعة ففي قصة «ولا الناس» نجد وحشة الوحدة حين يختفي عن المحب أهم أدواته وهي هنا الكتاب والقلم او الدفتر, هذا ولقد تحقق للقاص الوصول الى العمق الفني للقصة القصيرة جدا من خلال حساسيته المفرطة إزاء طريقة التعامل مع اللغة من اجل ان تنقل الإحساس العميق بالحياة بشكل مذهل على الصفحات حتى تبدو تلك الشخصيات في واقع الأمر نابضة بالحياة وتكاد تكون دائما حقيقية من خلال سعي القاص لخلق نوع من التماثل مع شخصيات قراءه المتوقعين كما في قصة «سؤا? القاص» و»فرحة القاص الشيخ» و»الهامش» و«نحن الكتاب» وذلك يتم بغض النظر عن المكان الذي ينتمون إليه فالشخصيات تعيش وتتنفس من خلالنا نحن، أو ربما نحن الذين نعيش ونتنفس من خلالها، أننا نقف مجردين من أي أقنعة زائفة فيما يكشف القاص بعمق عن مشاعر خفية ضمن سياقات او أحاسيس غريبة لأغوار علاقات الأزواج والزوجات والعشاق واعز الأصدقاء والناس المارين في الشارع وبائعي الحاجات المتجولين والفقراء وكبار السن والأطفال وربما الحيوانات أيضا وحين تتصرف تلك الشخصيات بصورة سوية تماما بطرق تثير فينا الاستغراب او النفور كما في «ل?مرة القادمة» الى درجة أننا نرتعش مذهولين بعد أن ندرك نقطة الكشف التي تتضح فيها حقيقة مشاعرنا الذاتية وهي تقودنا رويدا الى هذه البصيرة او تلك وذلك في قصص «قناعة متأخرة» و»اكبر» و»مسافر» و»المرأة الفاتنة» و»دعوة» و»توحد» و»ظنون» و»محاذاة» و»البلد الأجنبي» و»ثم يبكي» تظهر لنا قصص المجموعة أننا جميعا مرتبطون بعلاقة ما بكل الأشياء التي تجري في القصة وذلك بقدر تعلق الأمر بتجاربنا في استكشاف آفاق مستقبلنا الأخلاقي وعزلتنا عن المتغيرات التي تجري في الواقع الخارجي الشيء الذي يمكن ان يؤدي الى لحظات فريدة من الإلهام?والبوح بالأسرار والنضج وبذلك بذل القاص جهدأ في محاولة جادة كي يعيد صياغة أنماط حياتنا ومشاعرنا قبل حتى ان نتمكن من استيعاب ماالذي يحدث حولنا وهذا نراه في قصة «رهاب» و»فقراء» و»ظنون» و»ارتياح» و»صيفنا» و»دعه يغنّ» و»أنت مجنون» و»الله وحده» و»خفة احساس» و»نسيان» و»ارتواء» و»دعوة الى السعادة»؛ وتعنى بعض قصص المجموعة الى استثمار إمكانات القص عن طريق اقلاق الوعي القائم بإنشاء بنى افتراضية محاكية للواقع من خلال بناء الوهم وهدمه بأسلوب مباشر وغير مباشر في سردها القصصي لهذا انشغلت هذه النصوص بالذات واشتغلت على ?لذات في كيفية بناء الواقع الافتراضي او إبداعه لنفسها على الرغم من تمسكها بالتطابق الحرفي بين السرد والواقعية ومن ذلك قصة «من الأحداث العابرة» اذ يوحي القاص عند النظر من نقطة عليا للنص تقاطع الواقع المؤلم مع الوهم فيقوم السرد بتوجيه الصدمة المتدرجة لوعي القارئ في لحظة تجمع قسوة الخوف ومرارة السخرية في بوتقة واحدة حين يموت الزوج بين قدمي زوجته اثر رصاصة طائشة أطلقها رجل الشرطة كي يفك نزاعا حدث حينها،كان ذلك الزوج ذاهبا لشراء قنينة عطر لزوجته بذكرى زواجهما الأولى.
اما في قصة «هذه المرة» هناك بؤرة لعلائق متجاذبة متنافرة بين الشخصية والزمان يظهر ذلك التحدي الذي تقوم به الساعة حين تغمز للبطل وتقول له من منا سوف يتوقف أولا هذه المرة بعدما أبدل بطاريتها التالفة بأخرى جديدة وهذا الوهم يظهر مستوى جديدا من التعالق بين حركة أطراف «القلب البشري» وحركة عقارب الساعة ولكن بصيغة سؤال أرصادي تنبؤي.
وفي قصة «الخيال» يعمل الوهم على انسنة الغابة ثم البحر ثم يهدم ذلك كله يد المرأة التي يشبهها بالغابة تارة والبحر تارة أخرى، كذلك في قصة «في الليل» يزيح الوهم اشتياق البطل لحبيبته حين تأخذه الريح اليها فيخرج من وحدته
اما في قصة «دونك» فيوهمنا القاص بأشيائه الجميلة ويعددها لنا وما ان نصل الى حبيبته نجد ان كل ذلك وهم بدونها.
وفي قصة «ممازحة» أوهم البطل زوجته برؤية امرأة جميلة فترد عليه الوهم باليقين أنها رأت رجالا كثر أجمل منه.
دور الفاعل الدلالي
في «الخيانة العظمى»
ضمن الأنساق البنيوية للنص القصصي تجدر الإشارة الى ان فعل الفاعل هو ما ينجز من أفعال في زمن النص فالأحداث في النص القصصي تجري في زمن محدد وهو زمن الانجاز فالذات الفاعلة حتى على مستوى الأقطاب المتضادة تنجز «فعلا» لا «عملا» بعدّ العمل قد يمتد الى زمن قد يتجاوز زمن القص ففي قصة «قهر» ينهض السارد الذاتي بمهمة إيضاح ان العجوز قام سلفا بفعل طلب الشاي وقنينة الماء من زوجته العجوز الا انه لا يقوى بفعل ضعفه على فتح قنينة الماء وبالتالي آثر عدم شرب الماء على إزعاج زوجته بالطلبات حين يطلب منها فتح القنينة وفي ذلك ?يماء للكهولة وعدم القدرة والإنسانية كذلك.
اما في قصة «أشياء أهم» فان الفعل الدلالي في القصة نهوض العجوز من كرسيه واستلقاؤه على الفراش بعدما شعر بتعبه فاستحوذ الفعل نهض على بقية الأفعال التي هي ليست مهمة مقارنة بصحة الرجل العجوز والأفعال هي «يفرّش أسنانه، يسقي الحديقة، يفتت قطع الخبز للعصافير».
وفي قصة «تشكيل» نجد الأفعال «يجلس، يمارس، يتأمل» تقضي برسم لوحة تشكيلية معدّة كل صباح من يوميات ذلك البطل في القصة.
وفي قصة «قناعة متأخرة» يأخذ الفعل «ركض» على عاتقه مهام الفاعل ليفهمنا ان سعي الإنسان في أيام عمره وجهده فيها لايضاهي لحظة هدوء ينعم بها آخر العمر
في قصة «سقوط» يقوم الفاعل وهو البطل بالتأنق والنزول الى الشارع ثم يأتي بعد ذلك فعل «إحساسه بالألم» و»قصده المشفى» و»وقوفه في طابور الانتظار» و»اشتداد الألم ثم التهاوي على المقعد»، ثم «سقوط القامة» إيماء بالوفاة وبذلك غذت القصة المشهد عن طريق فعل الأفعال «تأنق، أحس، قصد، وقف، اشتد، سقطت».
وفي قصة «أرضنا» يكون هطول المطر وتلوث الأرض وسؤال الطفل لأبيه ثيمات تؤدي الى أدراك فقدان أهمية المطر حين لا تحتضنه الأرض بشكل صحيح.
وفي طريق القاص لبثَّ هموم الناس يوظف قصصه «كان، شيء قديم، كل شيء هادئ على الجسر، المشفى، صغير، إبراهيم، ماسح زجاج السيارات» لرسم صورة لأناس مهمومين بتوفير لقمة العيش وبعضهم يعاني المرض والبعض الأخر خسر أثمن الأشياء كالتعليم مثلا وبذلك تجسدت قدرة القاص عبر التشكلات اللفظية واللغوية المتمكنة من التورية باتجاه أيجاد المدلولات المناسبة بتقنية فنية مدهشة مغنيا ذلك كله بالمفارقة بين الموت والحياة والرخاء والشدة والعاطفة والخيال من اجل استيفاء الصورة الدرامية ضمن قصص المجموعة كلها بما فيها باقي القصص التي لم نتح?ث عنها بالتفصيل بل بالإشارة الموجزة فالقاص ضمن اقتناصه للأحداث مهتما بأدق العبارات صوّر لقطات قلما تحظى باهتمامنا ولاسيما عند أطفال هذه القصص والحيوانات والمواقف النبيلة ازاءهم.