ادب وفن

ما رآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي / جمعة اللامي

إمتلأت الحافلة الهرمة بأجساد الحجاج، عند تمام الساعة الرابعة بعد الزوال، ولم يتبقّ أمام الحاج شايع الشرقي، سوى ظهور الأبجر على ظهر راحلته وضحاء، ليبخّر الحافلة بشميم العود الكمبودي، ويقرأ عليها دعاء السفر الشهير، ثم يرشّ خشبها اليابس " هي باص قجماء موديل 1943" بنثار من حُق يخرجه من عبّه يطلق رائحة حامضة، لتنهض وضحاء، ويتجه وجهها شطر كربلاء، فتتبعها قافلة الحجيج والمودعون يرفعون الرايات الخضر ويضربون على الطبول حتى رأس جسر الكحلاء.
كان عدد من الحجاج يؤدون ركعتي صلاة نافلة على عشب الحديقة المدورة المقابلة لمقهى هليّل الحداد. وإنشغل قسم آخر بوداع عياله وأصحابه وجيرانه، بينما إنطلق أنفار آخرون إتخذوا المقهى روضة مؤقتة في موجات من نحيب يمزق أنياط القلوب، حين كان صوت الشيخ أحمد الوائلي ينطلق من جهاز تسجيل يقضّ عليهم النهاية الفاجعة لقمر بني هاشم، وهو مقطوع الكفين عند حافة شاطئ نهر العلقمي.
وكانت ريح الخريف الصفراء تجرف في طريقها نحو النهر الكبير، أوراق أشجار الغَرَب والسيسبان والكالبتوس، وبقايا المزبلة غير البعيدة بجوار المقهى حيث الغربان السود النافقة، وأزبال سوق "العم مزبان" المطل على موقف الحافلة العجوزة في الجانب الشرقي من النهر الكبير.
كان كل حاج، ومثله كل مودّع، يمنّي نفسه بالنظر إلى وجه السيد الأبجر. لكن أكثرهم شوقاً إلى ذلك الظهور هو الفتي محمد المشَرّح، مساعد شايع الشرقي وكاتم أسراره، لأنه عرف في هذه اللحظات أن معلمه ترك الحافلة والحجاج والمودعين والريح الصفراء، ليبحث عن الأبجر الذي يظهر في مثل هذه المناسبات ثم يختفي حتى اليوم العاشر من شهر محرم الحرام.
وكان أول من تبادر إلى ذهن شايع الشرقي ليسأله عن الأبجر، هو الميرزا زيارة أبو السلاسل في دكانه بالسوق الكبير، الذي يلتقي عنده الناس المغادرون إلى البلدات والقرى البعيدة في الأهوار، أو القادمون من دساكر الكُرد وبغداد ومدن الكوت وشيخ سعد وعلي الغربي وعلي الشرقي والكُمَيت. وحين وصل شايع الى دكان الميرزا، لم يجد سوى زيارة ابو إسفنديار بلحمه ودمه، وهو يقرأ في دفتر بين يديه.
" اسال عن الأبجر يا ميرزا".
"" كان هنا قبل أن تصل".
ألم يذكرني عندك؟".
" قال انه سوف يغتسل قبل أن يمرّ على قافلة الحجاج".
" في النهر؟".
" لا، في حمّام عجيل الراشد".
" بارك الله فيك يا ابو إسفنديار".
وفي طريقه إلى الحمام الشعبي في محلة المحمودية، مرّ على دار روبين اليهودي المغلق بابها على مرّ الفصول، المجاورة لدكان الصائغ حسن أبو فلاح الصبّي المشرع بابه نهاراً وليلاً، على شارع بغداد الذي يشطر مدينة العمارة إلى قسمين، وتوقف برهة عند بوابة صيدلية الدكتور عيسى سرسم، بينما إزدحمت الأسئلة المحتارة في رأسه بصدد سيارته القديمة ذات اللون البنّي والنوافذ الزجاجية الثمان والأبواب الثلاثة، ورحلاتها بين المدن القصية والقريبة من أقصى الموصل حتى العمارة. وكان شايع الشرقي يفرح كثيراً حين يسمع أحد أبناء بلدته يذكر بالخير سيارته البريطانية ذات الثلاثين مقعدا التي كساها بخشب الزان الهندي في معمل بمدينة النجف الأشرف، وأجرى تعديلات دقيقة على محركها في شارع الشيخ عمر ببغداد".
" صارت رقيّة تحتوي على حاجة من كل حاجة". يقول أحد الركاب ساخراً.
" الحمد لله على بلواه .هذه حال الدنيا". يردّ الشرقي كاظماً غضبه.
وفي نهاية هذه السنة أي "سنة 1973" حيث أكملت رقيّة السنة الثلاثين من عمرها، وبعد ترحالها الدائم بين المدن القصية والقريبة في جنوب البلاد وشمالها وشرقها وغربها، ثم سفرها الموسمي بركابها المنذورين الى الشام ومشهد الخراسانية، لعب الدهر على رفيّة، وأخذت تفتقد الليونة والنعومة في حركتها، وصار محركها الذي إستبدله الشرقي ثلاث مرات بمحركات المانية وإيطالية وسويدية نصف حيّة، يصدر نخيراً عاليا كأنه صوت فصيل يتعرض للذبح، فكان يزعل على نفسه كثيرا ويقول يا ليتني لم أقتنِِ هذا النوع من السيارات التي جاء بها الينا البريطانيون في مثل هذا الزمان المتقلب والمتغير والمتجدد في كل شيء.
وعندما عرض أمر حافلته في حضرة الأبجر ذات لقاء نادر بينهما، تبسم مولانا "كما يسميه العامة من أهل مدينة العمارة" بوجه شايع، ثم قصّ عليه حكاية العفريت الذي جاء بعرش بلقيس الى قصر سليمان في طرفة عين .
" ولكن سليمان نبيّ يا مولانا؟".
" من قال ذلك ؟".
" الله وسليمان والناس".
" وأنت يا شايع، ماذا ينقصك لتجرّ ذيل ذلك العفريت؟"..
" ماذا تقول مولانا؟".
" اقول إنك تعرف ان هناك قوة أقوى فوق كل قوة"
" بلى يا مولانا".
" فلماذا لا تتحرك نحو هذه القوة الأقوى؟".
" بسيارتي؟".
" بها أو بغيرها يا شايع . في الحركة بركة".
" هذا شغل الأنبياء".
" وأنت نبيّ نفسك ".
" وإذا أنكرني الناس؟".
" انكروا قبلك الأنبياء والرسل".
" لا طاقة لي على هذا يا مولاي".
" يا شايع . جئت اليها وحيداً، وستغادرها وحيداً".
" يا ويلي".
كان ذلك في أحد ايام شهر شعبان. وتلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها شايع، كلاماً مفهوما وواضحاً تمام الوضوح من الأبجر، فقد كان مولانا يتكلم مع الناس من طرف لسانه بكلمات قلّ من يحفظها أو يعرف مغازيها، لكنه عندما يتلو شيئا من الذكر الحكيم، يستوي صوته عذباً وواضحاً وجلياً فيردد خلفه الناس: صدق الله العلي العظيم . صلوات على محمد وآل محمد.
"صلّّوا على النبي العدناني، شايع عندنا اليوم".
بادره عجيل الحمامجي، ثم نزل من دكته العالية قليلاً التي تتصدر بهو الحمّام وتوجه نحوه " سايق عليك دم الحسين، إلاّ تغتسل ثم تذهب الى رقيّة، كما فعل مولانا قبل قليل".
" كان الأبجر هنا.؟".
"إغتسل، وشرب من منقوع التوت المخصوص الذي أعدّه لنفسي، ثم بخّرالحمّام ودعا له أن يبقى مَطْهرا للساهرين والعارفين والمسافرين".
"يا ويلي" قال شايع الشرقي" اين اجده الساعة؟".
" إغتسل أولاً، وسوف ادلك على مكانه. أقسم على ذلك بصليب ميثم التمّار".
" آمنت بالله". قال شايع الشرقي.
وحين كان الشرقي في حوض المياه الحارة بحمّام عجيل الذي ورثه عن جده وأبيه، شعر بخفة في جسده، وشفافية في روحه، فرأى في ومضة خاطفة نوارسََ عملاقة تهبط على جسر الكحلاء، وسفناً ضخمة تمخر مياه نهر العلقمي، وقافلة من النوق العصافير تتقدمها ناقته وضحاء التي يسميها اهل الوجدان بمدينة العمارة بالقصواء، تطوف بضريح سيدنا الحسين، فقال محدثاً نفسه " أسكرني عجيل الله يغربله"، ثم مضى كأنه يمشي على الماء نحو دكان روبين اليهودي في السوق الكبير.
" حضرت في وقتك".
" روبين، أنا ابحث عن الأبجر".
أمسك اليهودي بكف شايع اليمنى، وسحب جسده الى داخل دكانه، وسار ثلاث خطوات، ثم فتح بوابة صغيرة وضيقة بالجدار، ودفع بجسد الشرقي عبرها الى غُريفة مضاءة بثلاث شموع صغيرة ." هذا مولانا الأبجر".
" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" .
رد الأبجر على تحية شايع الشرقي، ثم أخذ بيده اليمنى، واجلسه على كرسي صغير من الخيزران " كنت على الطريق اليك . لكن خطر لي أن أمرّ على روبين، فأنا لا أزال عطشاناً الى نبيذ الشِفَلَّح". قال الأبجر.
بدت الغُُريفة مزدحمة ببكرات من حبال القنّب ومساحي وأكراك وجواني واقفاص وقناني زجاجية وبلاستيكية ملونة مليئة بزيت الشيرج وعصير الأترج والكركم والحبة السوداء وعظام الهدهد ومنيّ الصلال، تحيط بطاولة مربعة وصغيرة توزعت على محيطها أربعة كراسٍ صغيرة وواطئة.
" ليست ضيقة يا شايع. الدنيا هي الضيقة".
ودفع أبو علي بكفه اليمنى فضاء الغُريفة، فآستدار الفراغ على روحه وتمدد، ثم تمدد، ثم إمتد وتمدد حتى جاوز سهولاً وغابات ومسطحات مائية، وتوقف عند جدار شاهق ذي لون أبيض، ثبتت في وسطه زجاجة نورانية ضخمة، يتوسطها رسم لأبي علي الأبجر وعن يميله وشماله جلس الميرزا زيارة وعجيل الراشد وروبين اليهودي وشايع وحسن الصبّي وعيسى سرسم. النصراني، وأمامهم مائدة طعام من كل ما لذّ وطاب تفوح رائحتها الزكية، وكان الفتى محمد المشرّح يقف خلف الأبجر ويبدو مثل عمود نوراني شاهق . عاين شايع الشرقي الفضاء النوراني الأشهب الممتد في كل الجهات، ورأى سماوات لا حصر لها وشهباً تولد وأخرى تموت وحيوات تبعث من جديد، وسمع اصواتاً تتقدم نحو مجلسهم من دهور ابيدة، بينها صوت رخيم كان يقول:" مرحبا بأ أولادي".
إرتجّ الأمر على الشرقي فناوله الأبجر كاساً يشع منه نور أخضر .
" هذا خمر الشِفَلّح. وهذا كأس لن تظمأ بعده أبدا".
تناول الشرقي من كاسه شربة قليلة، فشعر بعدها انه يطوف في آفاق وكواكب ومجرات، ثم راى عجيل الحمامجي والميرزا زيارة ينزلان من الصورة التي في صدر الفضاء، ويتقدمان إلى الطاولة المربعة ويجلسان، بينما أطل روبين عليهم وإتخذ مجلسه على كرسي مقابل الأبجر، الذي وقف بجانبه الفتى محمد المشرّح.
" إشرب يا شايع".
تناول شايع مجّة ثانية أتبعها بثالثة من كأسه، ثم نظر الى اللوحة الزجاجية في نهاية الفضاء فرأى أشخاصها كما هم في أمكنتهم .
" نحن هكذا . هنا وهناك يا شايع "
" لا أزال عطشاً يا مولانا".
" نعم يا شايع، من شرب من خمرتي لن يرتوي ما دام في هذه الدنيا". قال الأبجر.
"كيف الإصطبار على هذه الدنيا من دون خمر" قال روبين.
" هي ترياقي" قال عيسى سرسم.
"لولا هذه الخمرة ومولانا الأبجر لكنا في سقر". قال زيارة ابو السلاسل.
وجاءهم صوت الفتى محمد المشرّح من أقصى الصورة :" سبحاني ما أعظم شأني".
وسمع الشرقي بعد ذلك كلاماً عجيباً من أفواه هذه العصبة السكرى الآن برحيق الشِفَلَّح، فاقبل يتناول الكأس بعد الكاس، ثم قام على حيله في ذلك الفضاء اللامتناهي وأخذ يحرك جسده ذات اليمين وذات الشمال، ويطير الى فوق، ويحطّ إلى تحت، ويمرغ جسده بعشب الفضاء الأشهب، ويردد في سره سبحان من عصر هذه الخمرة بيديه. وكان الشرقي شعر بنعاس لذيذ فاسند حنكه إلى كفه اليمنى وأغمض عينيه، ورأى محمد المِشرّح شاباً في الخامسة والعشرين من عمره، يقود طائرا عملاقا بجناحين لا يتحركان مملوءاً بمئات الحجاج، في طريقه السماوي إلى المدينة المنورة، قادماً من القدس وبيت لحم والكوفة..
وعندما أفاق الحاج شايع الشرقي من سِنَةِ النوم التي أخذته في دكان روبين اليهودي، لم يجد سوى صورة شمسية معلقة على حائط الغُريقة، تظهره مع روبين اليهودي وزيارة أبو السلاسل ومولانا الأبجر، ولم يكن الأبجر معه في الغُريفة، بينما سمع صوت روبين اليهودي يصل إليه مع صوت أبي علي الأبجر:" إشرب يا شايع، فليس بعد هذا الكأس ظمأ".
سجن نقرة السلمان
1963 ـ 1964