- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الخميس, 12 شباط/فبراير 2015 09:47

كان كريم العين قصيرا شديد السمرة..... حوله سخام (الدوغ) أي معامل الطابوق كما يسميها سكان تلك المنطقة التي تمتد على مسافة 150 كم على الطريق الرابط بين البصرة والعمارة الى رجل مسربل بالسواد حتى راح صحبه الذين كانوا اقل اصطباغا بالاسود يصفونه (بزرزور الدوغ).. وهي كناية عن الزرازير التي تحط على و بالقرب من هذه المعامل التي تكسر الأفق بعتمتها فتفقد لونها الطبيعي وتتحول تدريجيا الى عصافير سوداء كأنها غربان صغيرة... حريبي هذا رجل مسحوق لم يقتنص لحظة فرح أو راحة او رفاهية في حياته.. وجد نفسه هناك حيث دوغ الطابوق تبعث دخانها كالمراكب القديمة الهرمة أو كقطار فحم منهك يدور في دائرة مفرغة من العتمة دون حلم بالخروج.. سبقه أبوه الى السكن هنا بعد أن هربوا وطحنهم جور الإقطاع وسياطه.... فتحولوا مجبرين من فلاحين يعيشون بين الحقول والمروج وتأثيثات الطبيعة الخضراء إلى عمال مياومين يخوضون صراعا مريرا مع السخام والدخان والأمراض والحر الذي يحمص أجسادهم بضراوة وخصوصا في أوقات الصيف منذ صباحهم الباكر وحتى ليلهم الأكثر حلكة.... يدورون في هذه المتاهة من الدخان الأسود والطين والعوز والأجواء الخانقة،.. احريبي هذا انفق شبابه في معامل الطابوق هذه التي يسمونها (الدوغه).. ولم يجد نفسه خارجها أبدا.. بل أن زياراته الاضطرارية إلى المدينة لغرض العلاج او التبضع لا تعد على أصابع اليد الواحد.. كان لا يعرف شيئا سوى هذه الدوغ التي ترزح تحت مواسم من العذاب الذي لا ينقضي..وسماوات ملبدة لا ينقشع سخامها.... يعيش هو ومجموعة من أقاربه ومعارفه من العشيرة الذين نزحوا من قراهم لنفس الأسباب... يسكنون في مجموعة من الأخصاص والقصب القريبة من مكان عملهم... يسمونها بيوتاً للتورية..فهي مفتوحة لا تستر الظل.... تعزف فيها الريح صيفا وشتاء مناخات موحشة للفقر والفاقة والجهل والمرض وفقدان الأمل... وفي هذه البيئة التي لا يحسدهم عليها احد وضمن مجريات الحياة اللازمة والروتينية تزوج ابنة عمه كما جرت العادة والعرف.... المرأة التي حولتها ظروف العمل القاسي و الدائم هي الأخرى إلى معنى رمزي وافتراضي لكلمة المرأة.... فقد خسرت تماما ما تيسر لها من ملاحة الشباب وطراوته التي كانت تتباهى بها بين صويحباتها مقتبل صباها... وراحت تذوي كشجرة هجرها الماء تماما ولوحتها الشمس والريح حتى تهالكت وتحولت ركاما... فهي تشاركه العناء والمعاناة إضافة إلى واجباتها البيتية من طبخ وغسل وتربية ولد واحد وبنتين.. كانوا ثلاثة أحلام سرقاهما من غفلة كوابيسهما المستمرة، صغيرهم كان ملتصقاً بثديها حتى وهي تحمل صفا بعلو نصف قامتها من اللبن الذي تنقله إلى قلب الكورة لغرض يوم الإحراق...
اقتسمت معه حتى السخام اليومي وحينما كان يطارحها الحب الذي لم تمنحهما ظروفهما ممارسته إلا بالصدفة أو في أوقات متباعدة جدا...لم يكن متطلبا أبدا... فقد علمته هذه الظروف على أقصى حدود القناعة في كل شيء بما فيها الحب.. كان يمارس شوطه بكل ميكانيكية وأحيانا وهو نصف نائم..... كان لا يعنيه إن يحظى أو لا يحظى بشيء من الرفاهية حتى في الحب.. علمته الحياة على التقتير.... فقط كان يريد الاستمرار على نحو ما... ألف وتآلف مع سلطة هذا الروتين.... ولكن وفي يوم وكان ليس كل الأيام كان كنقطة فاصلة في حياته إذ ان جاسم طفله الصغير الذي كانت وسامته غير مألوفة في عائلته الصغيرة والتي جعلته يحبه كثيرا..... توفي بين يديه بعد مرض لم يمهله طويلا، وبعد أن حاول كثيرا أخذه إلى المدينة ليعرضه على طبيب ولكن كل محاولاته باءت بالفشل..فهو لا يملك مالا.. ويعرف تماما أن حال صحبه مثل حاله.... وصاحب الكورة أو رب عملهم هو ابخل من البخل نفسه... فهو لا يعطي ولا يقرض ولا يتصدق ولا يزكي.. بل كان حتى في حالة إغواء النساء العاملات بسطوته وسلطته وترغيبهن بالمال او ان يوعد من يتمكن منها أن يعطيها درهما.. ولكنه طالما نكث بوعده وتنصل عنه بل يذهب بعيدا فيشدد من قبضته على ضحيته لإجبارها القبول بربع هذا المبلغ أو التلويح بطردها من العمل.... كان موت ابن احريبي فاصلة مهمة في حياته..جعلته يتوقف عن حالة الدوران المستمرة كحيوان في ناعور..جعلته يقف متفكرا.. ويطرح الأسئلة على نفسه... لماذا استمر هكذا.. وما الغاية.. وما الذي اجنيه..؟ ها نحن حالنا كحال حيوانات.. بل أن حياة بعضها أفضل من حياتنا... نكدح ليلا ونهارا. ولا نحصل على شيء حصتنا الجوع والمرض وهم يأخذون كل شيء يسرقون جهدنا ويعبثون حتى بأعراضنا..؟ سيطرت عليه فكرة الشعور بالاضطهاد بقوة... واستحوذ عليه هاجس ضرورة انتزاع حقوقهم المهدورة وكرامتهم الضائعة. كان موت صغيره حافزا كبيرا لان يستعيد إحساسه بإنسانيته المنتهكة.. فراح يتحدث مع أصحابه نساء ورجالا ويكشف لهم ظلم أصحاب المعامل وسرقتهم لجهدهم... وكشف المستور والمسكوت عنه اضطرار في استغلال النساء والاعتداء على أعراضهن... وعلى فطرته وشعوره بالقهر راح يشحذ فيهم الوعي باضطهادهم واستغلالهم ويشحنهم ضد مستغليهم ومنتهكيهم أصحاب المعامل... حتى تمكن في النهاية الى كسب الجميع إلى صفه... قالوا له ما العمل....؟ قال نطالب بزيادة أجورنا.. والدرهم هو قليل بحقنا..كما نمنعهم من انتهاك نسائنا... وبعد لقاءات ومداولات كثيرة اتفقوا أن يطالبوا بزيادة اجورهم والحصول علىدرهم فقط زيادة على اجرهم الذي يبلغ 100 فلس فقط.. وان يراقبوا انفراد أصحاب الكور بأية امرأة ولكنه قال لهم بلغة العارف والحكيم...قال لهم وحدنا لا نستطيع فعل هذا.. يجب كسب العمال الآخرين إلى صفنا.. يجب كسب جميع عمال الكور طولا وعرضا... وكان استجابة هائلة لطروحات احريبي.. وبطريقة قطع الدومينيو انتشرت دعوته في كل الكور المجاورة واحدة اثر أخرى، كأنه حريق في غابة من القصب... وكان يوما مشهودا لإعلان العصيان على أصحاب معامل الطابوق ومطالبتهم بزيادة درهم على أجورهم...فتوقفت جميع الكور وراح عمالها وعاملاتها يطالبون بهذه الزيادة... وحصل البعض عليها بعد ان رضخ اصحابها فيما لم يحصل عليها اخرون... ولكن نار العصيان امتدت شمالا لتشمل معامل الطابوق بين ميسان وواسط والبصرة...والجميع يطالبون برفع أجورهم درهما كما اقترح احريبي.. وكما قلنا تنازل بعض أصحاب المعامل وسلموا بالأمر الواقع فيما امتنع آخرون... وأدت دعوة جريبي اغلب مهمتها.. وبسبب الوشاة والخونة اللذين لا تخلو منهم ارض أو سماء....عرف أصحاب المعامل ان المحرض هو احريبي" فهذا الأعور هو الذي قاد هذا العصيان" كما راحوا يقولون... والذي قيل بعد ذلك هو أول عصيان على أرباب العمل و لم تسجله الذاكرة النقابية على ما اعتقد.... فاستنجدوا بالشرطة حليفهم الطبيعي في تلك الفترة من عمر العراق حيث بسط الاستعمار البريطاني سلطته المطلقة على البلد بواسطة عملائه ووكلائه وحلفائه الطبيعيين من الطبقات العليا كما يقولون فضلا عن الأجهزة القمعية التي تشكلت بضراوة وورثت كل التاريخ الحافل بالقمع والاضطهاد والاستبداد والاستغلال لما يسمى وقتها ببريطانيا العظمى او دول الكومنولث... اقتادوا حريبي الى السجن مكتوفا والعصي الظالمة تعزف على ظهره النحيل الذي يبرز منه عموده الفقري كحد السيف سمفونية التسلط والاستبداد والفتك بالضعفاء...لكنه صمد صمودا ظل يتفاخر به أهله وزملاؤه من العمال وكأن ظهره الذاوي قطعة من حديد أو حجر.. لم يتأوه او يتظلم او يمنحهم الفرصة للاستهزاء و للتشفي.. بل تحمل سياطهم بصمت عجيب لا تكسره إلا شتائم تنهمر بين الفينة والأخرى بأقذع السباب والتعريض بهم وبمهنتهم وشرفهم... أودعوه السجن لشهور وظلت عائلته الصغيرة تكافح الجوع.. فزوجته هي الأخرى طردها صاحب المعمل بجريرة زوجها حريبي... ولكن بعض صحبه ورفاقه تناخوا ما بينهم وراحوا يجمعون بعض الإفلاس من أجورهم البسيطة جدا والتي لا تسد رمقهم ولكن زوجته كانت شديدة الفخر بحريبي بل تحول إلى بطل شعبي بنظر الجميع وراحت تنسج حوله الأغاني والأشعار وتتغزل به (الحديثات).... الصبايا.... دون ان يعرفنه...
فمنهن من راحت تغني له الاغاني التي تمجد بطولته وصموده امام سجانيه وكانت اقرب الى العشق
فتقول
ول غاد يا بو الكوره حريبي سبع وبزوره
فنك تلزم طيوره خل الدرهم بجيبك
او من تقول
حريبي لو ورث سبيله يهيض فوك السلف هيله
حجايته للشين جيله
... غير ان بعض المترددين وضعاف النفوس والإرادة كانوا يرون في موقفه رعونة وسوء تقدير وشكل من إشكال البطر و (العفه) والمناطحة التي ليس لها مبرر... وكانوا يرددون دائما مع أنفسهم ومع الآخرين (ايد الماتشابجها بوسها) وبعد أن سجن لثلاثة اشهر وأطلق سراحه.. وكان يدور في المنطقة بدون عمل غير ان شعوره بالقوة والاعتداد والفخر كان لا يفارقنه أبدا.. بل كان مترفعا دون أي شعور بالذنب أو الندم..فقد حصل الكثير من عمال الكور على مطلبهم في زيادة أجورهم والدرهم الذي طالب به فضلا عن عدم ملاحقة نسائهم.... وهو في طريقه التقى احد هؤلاء المتعاونين مع مستغليهم الذي بادره وهو يتظاهر بالحزن عليه
قال له هازجا ومتشفيا
احريبي الدرهم ما يسوه طلابه
فاجابه حريبي بكل شموخ ودراية وإصرار وتساءل مرير
جم شيله بدرهم باعوها....؟
في إشارة الى ديدن هؤلاء المستغلين أصحاب الكور ومعامل الطابوق في الاعتداء على النساء واغتصابهن او ترغيبهن بالمال..ونزع (شيلهن) التي هي رمز الشرف والحشمة عند اهالي الريف في تلك السنين
فأرسل الرجل بصره إلى الأرض خجلا ومضى في سبيله مدحورا.. في الحين مشى احريبي في الاتجاه الآخر شامخا.. رافعا رأسه في هالة من شمس الضحى وكأنه احد أبطال الأساطير.