- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 22 شباط/فبراير 2015 18:56

"1"
قد يكون "الآخر" في "خيول بلا أعنة" لـ "علي نوير" هو الكائن الشاغل لمعظم جغرافيات القصائد. والآخر الذي قد لا يكون الخصم، بل قد يكون من مفروزات الشاعر نفسه. وعلى القارئ أن يثق بنفسه، وبقدرته على استقراء القصيدة، وقدرته على أن يستل هذا أو ذاك "الآخر".
القارئ الباحث عن فضاء المشاكسة، الباحث عما يكتب "علي نوير" سوف يجد بيت القصيدة مسكونا بالآخرين. قد يجد لنفسه موضع قدم يتمكن من خلاله رصد حركات الشاعر وكائناته.
القارئ المشاكس/ القلق هذا، أو القارئ البريء/ البسيط، بإمكان أي منهما أن يقول: إن الشاعر لا يشتغل على هلامية النص، على اللاموضوع، على الرغم من إن القصيدة الحديثة قد تعتمد اللاموضوع موضوعا لها، تدخل من خلال هموم وطموحات وأفكار القارئ أو مجموعة القراء.
***
عند الصفحة الأولى، وتحت عنوان "خيول بلا أعنة" سيجد القارئ نصا تشكيليا لفرسين بلا أعنة في لحظة جماح/ حراك ـ عراك ـ وأسفل هذا التشكيل عنوان "قصائد".
الشاعر، قد يكون منتجا لعنوان آخر. قد يكون العنوان على شاكلة "قصائد بلا أعنة". عند هذه النقطة من الممكن أن يمسك القارئ بمفتاح للقراءة، أو بمجموعة مفاتيح حاول الشاعر أن يموه عنها بسواها. إذ هنا يكمن الاختلاف حيث يستعير الشاعر أعنة الأفراس لقصائده، وليلحق من ثم رؤية ثانية قد تمتلك من الكوامن ما لا يمتلك العنوان الأصلي.
ووفق هكذا رؤية/ زاوية نظر ستربح القصائد قارئا متميزا قادرا على إطلاق خيول المخيلة بعيدا عن ساحات السباقات. وبعيدا عن تحويل الأفراس الى كائنات مدجنة لا تصلح إلا لجر عربات النفط أو قناني الغاز السائل أو قوالب الثلج.
القصيدة وكما يطمح "علي نوير" ورغم وقوعها تحت سلطة قوانين الكتابة تحاول أن تقف خارج ما يتوقعه القارئ، وانه يحاول أن لا يضع أعنة تنتمي للقراءة القاصرة/ التي لم تبلغ سن الرشد، أو القراءة ذات النسق الواحد البعيدة عن تعدد المستويات.
"2"
قصيدة "علي نوير" قصيدة الجملة الطويلة، أو السطر/ الشطر الواحد الذي قد يحتوي معظم القصيدة. أي إن الشاعر يعمل على محاذاة المنجز الإبداعي الستيني ـ حسب الشيخ جعفر حصرا ـ حيث سيادة القصيدة المدورة.
في قصيدة "حربة" حيث تتجلى الكتابة/ كتابة الجملة المركبة المتواصلة والتي تشكل القصيدة بأكملها. وإذا ما تعددت الجمل فكل هذا من أجل أن يكتمل المعنى. المعنى هنا في قصائد "علي نوير" هو الذي يحدد هيكلية القصيدة. فالشاعر يحاول أن يقول ما لديه دفعة واحدة. لذلك نجد القصيدة متدفقة.
القصيدة المدورة/ قصيدة الجملة، قصيدة اكتمال المعنى. هذا الشكل من الكتابة الشعرية لا يمكن الركون إليه؛ من غير استعارة مفصل إبداعي قد يقف خارج الجنس الشعري ألا وهو الجنس السردي.
لذلك سيجد القارئ إن الشاعر استطاع أن يمارس الفعل السردي مضطرا أو مجبرا، من أجل صناعة قصيدة قادرة على امتلاك مبرر الكتابة. القصيدة المعاصرة لا يمكنها اليوم أن تقف بقامة مرفوعة من غير أن تستمد بعض شروطها من أجناس إبداعية محاذية معها، أو متداخلة وإياها. بعد أن أصبحت المعارف بتعدد اتجاهاتها هي التي تتشكل بموجبها القصيدة، ووفق مفاهيمها يتحرك الشعراء. أي إن القصيدة اليوم قصيدة معرفية، قد يجد فيها القارئ ما لا يتوقع من أفعال ووقائع، من أحداث وتواريخ. إذ أصبح العالم بأجمعه مادة من الممكن أن يستفيد منها الشاعر من أي من خزائنها في كتابة نصوصه.
لقد استطاعت معرفة الشاعر بأمور السرد ـ إذا ما عرف القارئ إن معظم الشعراء قد خرج من معطف السرديات قراءة ـ هذه المعرفة استطاعت أن تمنح القصيدة هواء غير راكد، هواء خالٍ مما تنفثه العوادم، وأبراج معامل الطابوق من دخان وأبخرة وغازات سامة، لتتخلص من خمول الكتابة، ولحاء الجذوع التي من الممكن أن تتحول إلى مجموعة من قرى النمل الأبيض.
إن صناعة النص فعل قد لا يتوفر للجميع، فهي بحاجة إلى معرفة ثرة، والى مخيلة شجاعة من أجل إنتاج نص طموح.
***
قصائد "علي نوير" ـ وبسبب اختلافاتها مع بعضها ـ من الممكن أن تنتمي إلى أي من التصانيف، وذلك بفعل انتمائها لتعدد المعاني، على الرغم من إن العنوان الفرعي الأول كان "في الذي لا معنى له". وعبر هكذا استفزاز يقوم به الشاعر لمواجهة الفعل القراءاتي، مع عدم تحديد نوعية القارئ المنتج لفعل القراءة. فالاختلاف ركن مهم من أركان الكتابة لدى الشاعر، بل إن الحياة بكافة اتجاهاتها غير ميالة إلى المواءمة. حيث يسود خفوت الأشياء، وتصاعد الحياة الأميبية.
الحياة بالأساس ومنذ لحظاتها الأولى تعتمد على المتغير، تعتمد على صناعة إزاحة السابق من قبل اللاحق. ومن غير هكذا ملامح/ أسس لا يمكن أن تتشكل الحياة. وإذا ما تشكلت خارج هكذا قانون متحرك غير قامع ولا يمكن أن تنتمي إلا إلى الركود والانقراض.
قد يعود الشاعر بالقصيدة إلى مهامها الأولية، حيث الإشارة والإيحاء، حيث الوضوح لا التماهي خلف اللغة. حيث التحريض على صناعة الفعل الحياتي على مغادرة سكونية الواقع، والدخول إلى فضاء الإطاحة بهلامية الآخر.
"3"
نوح بلا طوفان:
أول قصائد القسم الثاني، وبعنونة "خمر بلون الحداد". في هذا النص والذي هو جزء من مجموعة حالات الرصد المهتمة بالوجه الآخر للحياة والذي هو الموت حكما، هذا الكابوس الطالع من المجهول/ الكائن الهلامي.
في "خمر بلون الحداد" تتحول الكتابة/ الحياة إلى مجموعة ضغوطات، حيث يحاول الآخر/ الخصم استنساخ الإنسان وصناعة التحويل الوراثي وإقامة الإنسان/ الريبوت.
ورغم عدم وجود الشاعر وحيدا، إذ هناك القوة الكبرى ـ هناك ـ الله، حيث يحاول الشاعر أن يستنجد ـ حيث تغيب الحلول ـ ليحتل السؤال جميع المساحات التي من الممكن أن يلجأ إليها الكائن الإنساني، الباحث عن منفذ وسط هذا الجدار الذي اسمه القلق. ليتمكن من خلاله اختراق قشرة الشك. ليجد نفسه بعد هذا وذاك وسط مزرعة من الشكوك. من الممكن أن تدفع هذه القصيدة القارئ الى فضاء الرثاء ـ رثاء الأنا ـ حيث يرثي الشاعر ما يدور حوله ـ نفسه والعالم ـ .
***
ورغم وجود "الأنا" أنا الشاعر وبكثافة، فإن الآخر موجود بما يعادل فعل الشاعر نفسه. ولكي لا يبخس الآخر حقه، ومن أجل أن لا يتهم بالنرجسية، سيجد القارئ أن الآخر الذي قد يكون المخلوق، أو قد يكون الخالق، يتحرك وبحرية تامة. فليس هناك قوة قادرة على إيقاف حركة النص المعتمدة بالأساس على وجود أكثر من صوت/ أكثر من شخصية. لذلك فإن معظم القصائد/ معظم الخيول ـ اعني خيول "علي نوير" ـ الشاعر غير معنية بالتحجيم، سواء تحجيم الذات أم تحجيم الآخر. ولتتخذ القصيدة هنا بنية تركيبية، حيث يتداول الجميع، الشاعر والقصيدة، بكل تأثيثاتها، ومفروزاتها. والقارئ وقدرته على صناعة قراءة متميزة، حيث يتداول الجميع مفردات النص بعيدا عن تدمير الآخر، أو محاولة التعتيم عبر المعرفة، معرفة ماذا يريد النص، ماذا يريد الشاعر. وبالتالي هناك حالة من الدوزنة/ انضباط روحي، لابد من توافرها من أجل أن لا ينفرط العقد.
تركيبة النص الذي أوجب تعدد الشخصيات، أوجبت على الشاعر أن يكون أحد منتجي تصاعد الفعل الشعري.
قد يشعر القارئ وبقوة بوجود حس ينتمي الى الدراما. أي إن القصائد تحاول أن تحاذي الفعل المسرحي، وبالتالي فإن الشاعر من الممكن أن يكون أحد شخصيات خشبة المسرح. هذا المكان الذي على القارئ أن يصاحبه وان يؤثثه، وان يتحول إلى شخصية ثنائية، شخصية القارئ وشخصية المتفرج. أي إن قصائد كهذه من الممكن أن تكون منتمية إلى نص الفرجة إضافة إلى نص المدونة.
"4"
في خضم هكذا حالات شعرية مركبة يعثر الشاعر على ضالته، حيث يتسع شكل الشعر/ القصيدة للكثير من تناقضات الحياة. بل إن القصيدة ذاتها سواء التي يكتبها "علي نوير" أم سواه من غير هكذا تناقضات تنتمي للحياة لا يمكن أن تنتمي الى جنس الشعر.
وحيث يتحول النص الى فضاء للجدل والحوار والأخذ والرد والصراعات ـ هكذا كان الشعر الأول وهذا ما يجب أن يكون عليه ـ ويتحول كذلك الى صانع للجغرافيات الجديدة، حيث يتحول التاريخ/ أزمنة وهواجس الى مصدر مهم يتمكن الشاعر عبره من أن يستل/ وأن ينتقي ما يشاء.
شكل القصيدة التي تنفتح على الأجناس الإبداعية الأخرى يؤهل الشاعر من أجل كتابة نص ينتمي للحداثة. وذلك بفعل ما تضخه الأجناس الأخرى/ الأدبية الحديثة والمحايثة للشعر من قدرات ومساحات إبداعية تطلق قدرات الشاعر من أجل صناعة مناطق متداخلة تمتلك مفصل تهجين الفعل اللاحق بما يؤهله لأن يكوّن شكلا يقف خارج قدرة النسق السابق على التدمير.
فالمعطيات الأولية لقراءة هذا النص أو ذاك كثيرا ما تشير ـ ضمن حالة من الإيهام ـ الى أن هناك تشابها، أو تماثلا ما بين النصوص تلك. إلا إن تعدد الأفعال القراءاتية من الممكن أن تكشف اختلاف المخبوءات. فالمواضيع والثيم بقوة تعددها، لابد لها من صناعة استقبالات مختلفة واختلاف التداخل الاجناسي والمعرفي، حيث يعمل الشاعر على الاستفادة من المنجزات الإبداعية التي لا تنتمي لجنس الشعر بقدر انتمائها للحراك. هذه الاستفادات تمنح النص الملامح الخاصة به.
***
القصيدة الطويلة/ المركبة لدى "علي نوير" رغم ما تحمل من غواية ومغامرة وقدرة على صناعة المغايرة، إلا أنها لم تستطع أن تضرب الشاعر على يده، أن تمنعه من تحقيق ما يدور في ذهنه. أن تشكل مانعا/ عازلا بينه والقصيدة الثمانينية، القصيدة المقتصدة، والتي أقامت قواعدها على الاقتصاد باللغة/ الاختزال. وعلى صناعة التناقض المعتمد على مفاجأة المتلقي وعلى قدرة الشاعر على صناعة الدهشة وسط لحظة الترقب، لاعتمادها على اللامتوقع. هذه الخصائص/ القواعد المتحركة كانت تشكل أكثر من عنصر، أكثر من لعبة؛ من أجل استحضار الشاعر لقدراته في إقامة بنية النص القصير، فكانت له "أقواس":
خمسة عشر نصا توزعت على خمس عشرة صفحة. لم تكن هذه الأقواس محطة استراحة للقارئ، بل كانت لحظات استرجاع، كانت فعلا شعريا، يضع بين يدي القارئ مجموعة تساؤلات تدور حول جدوى الاختلاف وعن مبررات الكتابة وفق هذه الصيغة أو تلك. وهل هو فعل تابع لمنتج النص؟ أم هو مفصل يمنح النص هذي الصفة أو تلك إلا إن فعل الشعر قد يشكل أكثر المبررات والأسباب التي تدفع بالمبدع إلى أن يسلك السبل التي يرتئيها، أو أن تعمل على إقامة بنية مختلفة.
"5"
"ثمانية وأربعون" نزيفا من الخيول، أطلقها "علي نوير" لا في مضامير السباقات، بل في ضمائر القراء، على الرغم من إن القارئ اليوم كثيرا ما يذهب إلى صناعة المخيال والفكر واللاواقع، هذا القارئ لا يغيب عن تشكيلات النص الشعري الذي يكتبه الشاعر. فـ "علي نوير" رجل مهموم، قد لا تزيح الكتابة ـ رغم أهميتها ـ غبار السنين عن زجاج الواقع. إلا إن عين الشاعر، سواء كان بصيرا أم مبصرا، ستظل هي الأقدر على الإمساك بالأشياء. حيث تكون الذاكرة خزينا للصفاء الذي لا يمكن أن تعبث به الأيام.