ادب وفن

البريكان.. الشاعر الذي قال شعرا من تحت الأرض / داود سلمان الشويلي

"شاعر عظيم, لكنه مغمور بسبب نفوره من النشر. سأحاول بذل كل جهد لإخراجه من صمته ليتبوأ المكانة اللائقة به" - بدر شاكر السياب.
الشعر عندما يتوهج لا أحد يوقف توهجه، أو أن يستطيع ان يقف في طريقه لايقافه ، لهذا نجد ان هناك شعراء كباراً يمضون في طريق الشعر دون أن نعرف ذواتهم، أو انتماءاتهم، أو أي شيء من سيرتهم، أو من أي مورد يوردون، أمن وادي عبقر، أو من الجن الفلاني أو الجن العلاني.
محمود البريكان "1931 - 2002" هو واحد من هؤلاء الشعراء الذين ظل مختبئا وراء ستار من الغموض "الابيض"، فلا هو قد أعلن عن نفسه بنشر شعره، ولا الدراسات عن الشعر والشعراء قدمته لنا كشاعر يشار له بالبنان في خط الشعر العربي الحديث، ومن رواده الأوائل، فظل البريكان شاعرا غامضا مختبئا تحت اغلال كثيرة، كنهره الذي تحدث عنه في قصيدة نشرها في مجلة الاقلام العراقية عام 1993 في العدد المزدوج "3،4" بعنوان "النهر تحت الأرض" تلك القصيدة التي راحت تتحدث عن نهر تحت الارض يجري بهدوء وفي الظلمة، حيث لا صوت له، ولا شكل، هذا النهر الذي ظل يجري تحت صحراء محترقة، وبنفس الوقت تحت حقول وبساتين خضراء، تحت هذين الضدين، وظل يجري تحت قرى ومدن لا يوقفه شيء كشعر شاعره محمود البريكان الذي امتد لسنوات أكثر من أربعين عاما وهو يجري دون ان يحض به الاخرين أو يشعروا.
يقول في قصيدة "النهر تحت الأرض":
"النهر الغامض تحت الأرض
يجري بهدوء
يجري في الظلمة
لا صوت له
لا شكل له
يجري تحت الصحراء المحترقة
تحت حقول وبساتين
وتحت قرى ومدن
يجري.. يجري".
محمود البريكان الشاعر الصامت، وصمته هذا يأتي احتجاجا من السلطة وعليها، أي سلطة كانت منذ أن كتب الشعر، هذا الشاعر عده معظم النقاد - وهو كذلك - واحداً من رواد الشعر الحديث في العراق، حيث عرف بعزلته، وعزوفه عن النشر، كان يكتب دون ان ينشر سوى لخاصته، ظل شعره يتحدى كل شيء، واول ما يتحداه الزمن.
ظل شعره في دأب متواصل في طريق الانكفاء على الذات المتوحدة، مع اصراره المتواصل على العطاء الشعري، ففي قصيدة غياب الشاشة، يقول:
"مخزن الأمتعة
والأثاث القديم
يتنفس فيه السكون
يتساقط فيه الزمن
كغبار
هاهنا كانت الشاشة الساطعة
وسط هذا الجدار
وهناك كانت القاعة الواسعة
قاعة العرض مكتظة في الظلام
والشعاع الذي يتراقص بين الظلال
يموج عوالم للحب والسحر والخوف والانتصار
والمغامرة الرائعة".
فهو كمخزن الامتعة والاثاث القديم يتنفس فيه السكون، سكون عزوفه عن النشر والشهرة التي لم يطلبها أبدا، فكان شعره يتداول بين الاصدقاء والخاصة منهم وهو سعيد لذلك.
وحسب علمي لم ينشر كتاب نقدي عن شعره سوى كتاب الدكتور فهد محسن تحت عنوان "الابلاغ الشعري المحكم" الذي صدر عام 2000.
ولد محمود البريكان دون أن يشعر به أحد، ورحل دون أن يشعر به أحد، سوى الخاصة من المهتمين بشعره، فالراحة الأبدية للشاعر محمود البريكان، والرفعة والسمو لشعره الذي ظل مغيبا عن الدارسين.