- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 08 آذار/مارس 2015 17:51

تمكن الدكتور طه باقر أن يضع بين أيدينا الترجمة شبه الكاملة لأسطورة الإنسان العراقي الذي عاش فوق تراب هذه الأرض منذ ما يقرب من خمسة آلاف سنة «ملحمة كلكامش» تلك الوثيقة من التاريخ والمعرفة والفن والأدب والحضارة الأصيلة... وقد استطاعت تلك الترجمة الرصينة أن تقدم للقارئ العربي حصيلة معرفية نادرة.. من خلال تلك الصور الإبداعية والجمالية والفنية لتلك الحضارة الموغلة في القدم "بحدود الألف الرابع قبل الميلاد ".
ان حضارة وادي الرافدين وتراث الإنسان الذي استوطن على ضفاف نهري دجلة والفرات «ما بين النهرين» قبل ما يزيد على خمسة آلاف عام قدمت للإنسانية معالم وآفاقاً حضارية ومعرفية تاريخية باذخة الألق ومنحت الإنسان العراقي مرتبة جعلته في قمة الهرم الحضاري ويعتلي سلم التاريخ البشري بقامة مستطيلة القوام.
وقد إستطاع علم الآثار «الاركيولوجيا» ان يحدث انقلابا خطيرا في معرفة الإنسان بتأريخه وحضارته وعلومه وتراثه المعرفي والأدبي والفني حيث قدم هذا العلم دراسات واسعة في مجال الحضارات والمدنيات القديمة وتمكن أن يجعلنا أمام حضارة سبقت كل الحضارات، حيث كان الباحثون في الغرب يعتبرون ان أولى الحضارات وليس فوقها معارف أو مدنيات وهي حضارة الرومان واليونان.. التي كان الغرب يراهن عليها أنها هي أقدم حضارة في التاريخ . وقد تأكد العلماء ان حضارة وادي الرافدين قد وضعت البشرية أمام تحد حضاري لا يرقى إليه الشك. حيث ان تلك الحضارة وتلك الانجازات المدنية والمعرفية والفنية والسياسية والأدبية التي شهدتها الرقعة الجغرافية الممتدة من منبع النهرين الى مصبهما.. كانت واحة واسعة للعديد من الحضارات «السومرية، الآشورية/ الأكدية، والبابلية»، مما دفع بالكثير من «مؤرخي الحضارات عن أصول التمدن البشري وجذوره» لتغيير آرائهم حيث ان المجتمع الغربي ورجال الآثار والباحثين في علم الآثار كانوا الى وقت ليس بعيدا يعتقدون ان حضارة الرومان واليونان هي الحضارة الأولى في تاريخ البشرية.
-1 ملحمة كلكامش: طه باقر
ان هذا التحول في موقف الباحثين ومؤرخي تاريخ الحضارات القديمة لم يأت من فراغ، بل انه حصيلة علمية واضحة وبعد ان تمكن الباحثون من فك رموز الخط المسماري في حضارة وادي الرافدين، ومن خلال هذا الاكتشاف حصلت طفرة نوعية في علم ألآثار الذي عززته التنقيبات الأثرية والحفريات في مناطق معروفة في وادي الرافدين.
وهكذا حصل الإجماع تقريبا لدى الباحثين ومؤرخي الحضارات القديمة.
ان حضارة وادي الرافدين ووادي النيل من أقدم الحضارات وتم إطلاق مصطلح « الحضارة الأصيلة او الأصلية « على هاتين الحضارتين.
وبهذا يتأكد لنا ان حضارة وادي الرافدين وآدابها ومعالمها التراثية تعتبر من أرقى وأقدم واسبق جميع الحضارات في العالم بما فيها حضارة وادي النيل.
ويؤكد ذلك الدكتور طه باقر» وهناك ميزة أخرى تميز أدب العراق القديم على الآداب العالمية القديمة تلك هي ان كلا من الآداب التي أوردناها للمقارنة به قد عانى الكثير من التحوير والإضافة على أيدي الجامعين والنساخ والشراح، في حين ان الأدب السومري والبابلي قد جاء إلينا على هيئته ونصوصه الأصلية تقريبا، كما مدون بأقلام كتبة العراق القديم على ألواح الطين قبل أربعة آلاف عام «.
ومن أتيحت له الفرصة لقراءة هذه الملحمة العراقية كاملة كما ترجمها الدكتور طه باقر فسيرى أنها قد ألمت بكل الحوادث والأعمال والانجازات العلمية والأدبية والعمرانية والحربية والسياسية فهي عبارة عن انسكلوبيديا تحكي للتاريخ ملفات كلكامش المتعددة، حروبه وسياسته وظلمه و وحشيته وغضبه وجبروته، وتسلطه وعنفوانه، وقوته، «ولعل ملحمة كلكامش الخالدة خير ما يعبر عن الاتجاه الإبداعي الثوري الذي اتسمت به حضارة وادي الرافدين في مختلف عصورها، فهي كافية وحدها لان تبوىء هذه الحضارة أسمى مكانة في تاريخ الفكر العالمي والحضارة البشرية».
ونقرأ في الفصل الأول من الملحمة هذه المقاطع:
من ذا الذي يضارعه في الملوكية؟
من غير كلكامش، من يستطيع أن يقول: «أنا الملك»!
ومن غيره من سمي كلكامش من ساعة ولادته؟ ثلثاه إله وثلثه الباقي بشر
لقد صممت هيئة جسمه الآلهة العظيمة
وفي العمود الثاني:
لم يترك كلكامش ابنا طليقا لأبيه
لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
لم يترك كلكامش عذراء طليقة لأمها
ولا ابنة مقاتل ولا خطيبة البطل
إن هذا يؤكد للباحث والقارئ اللبيب... ان الملحمة قد كتبت في زمن غير الزمان الذي عاشه كلكامش.. لأن ما ورد فيها من إشارات واضحة ولا غموض فيها عن المظالم التي كان يستعين بها كلكامش لبسط نفوذه وسلطته.
ان تلك الإشارات أو بالأحرى ذلك التأكيد على قسوة كلكامش وعنفه وصلابته وتهوره واستبداده وجوره... إنما تدلل على ما أوردناه من ان الملحمة قد كتبت في وقت لاحق وبعد كلكامش. أما إذا كانت الملحمة قد صيغت سطورها وسطرت حروفها في زمن وسلطة كلكامش فهذا دليل آخر على عظمة كلكامش لأنه كان «ديمقراطيا» ويقبل بالرأي الآخر. لأننا نعرف ان الملوك والسلاطين والأباطرة والأمراء لا يقبلون بأي رأي يخالفهم.. ولا يرغبون ان يتحدث أي لسان عن مساوئهم وظلمهم وطغيانهم. لأنهم يعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة.. أو كما ورد في النص أعلاه ثلثي الاله.
ومع إن الأدب الذي أبرزته الملحمة.. كان يمثل إبداعا معرفيا «وعلى الرغم من أن هذه كانت أولى المحاولات في تاريخ تطور الإنسان الأدبي بيد أن مما يدهش الفاحص لأدب وادي الرافدين هو انه، مع إيغاله في القدم وسبقه جميع الآداب العالمية، يتميز بالصفات الأساسية التي تميز الآداب العالمية الناضجة، سواء كان ذلك من حيث الأساليب وطرق التعبير، أم من ناحية المحتوى والموضوعات التي تناولها، أم ناحية الأخيلة والصور الفنية والعرض القصصي والروائي.
إن المضمون الإنساني الذي اشتملت عليه الملحمة والمحتوى الإبداعي الذي أعطى هذه الوثيقة التاريخية.. هذا المسار الخالد عبر القرون لاشك يدل على عمق المعايير الإنسانية التي أطرتها هذه الملحمة ومضمونها الحضاري وأسلوبها المتقن في سياقات الأداء الأدبي والمعرفي والروائي والقص في إطار فني متألق «فالملحمة عبارة عن نص أدبي اجتماعي فكري جمع في طياته كل المعاني الجميلة للحب والصداقة وفعل الخير وانتصار الإنسان للروح الإنسانية».
أسرار وأحداث الطوفان في حضارة وادي الرافدين
المصادر التاريخية التي تناولت أحداث الطوفان العظيم تكاد تنحصر في الكتب المقدسة «التوراة، الإنجيل، القرآن»، لكن الملفت أن ملحمة كلكامش وأسطورة الخليقة والكثير من النصوص المسمارية التي عثر عليها في جنوب العراق استقطبت انتباه الدارسين والمهتمين بتراث الحضارات القديمة، وخاصة الحضارة الإنسانية المتميزة في بلاد وادي الرافدين ونتعرف من خلال العديد من البحوث والدراسات في هذا الجانب على ان الطوفان موطنه العراق وجنوب العراق بشكل خاص، وفي الوركاء تحديدا.
ويذكر الدكتور طه باقر، الباحث القدير في حضارات وادي الرافدين والنصوص المسمارية وعلم «الاريكيولوجيا» في كتابه «ملحمة كلكامش».. القصص والأساطير والمدونات المسمارية حيث يؤكد في الملحق الرابع من كتابه «ملحمة كلكامش» وفي طبعته الرابعة «لم يصل إلينا عن الطوفان في اللغة السومرية سوى نص واحد مدون في لوح طيني يرجح كثيرا انه عثر عليه في المدينة المشهورة «نفر» القريبة من عفك. ومع ان هذا اللوح غفل من التاريخ، بيد ان لغته وشكل خطه المسماري، يشيران إلى انه يرقى في تاريخه الى ما يسمى في تاريخ العراق القديم بـ «العصر البابلي القديم».
ثم إن الدكتور طه باقر يورد القصص والأساطير التي تحدثت وذكرت وتناولت الطوفان، ومن تلك المصادر التي ذكرها الدكتور باقر:
1 - رواية الطوفان السومرية «زيو سدرا».
2 - رواية «بيرو سس» عن الطوفان.
3 - ملحمة «اترا حاسس».. عن الطوفان.
4 - خبر الطوفان كما جاء في التوراة «سفر التكوين: الصحاح السادس التاسع.
الرواية الأولى: رواية الطوفان السومرية «زيو سدرا»:
هذه الرواية التي وردت في مؤلف الدكتور طه باقر «ملحمة كلكامش» تشير إلى أنها جاءت ضمن لوح سومري بنص واحد «مدون في لوح طيني يرجح كثيرا انه عثر عليه في المدينة الشهيرة - نفر ».
ويؤكد الدكتور باقر أن اللوح كان فارغا من أي معلومات تاريخية إلا أن «لغته وشكل خطه المسماري يشيران الى انه يرقى في تاريخه الى ما يسمى في تاريخ العراق القديم بالعصر البابلي القديم مطلع الألف الثاني ق.م «.
وفي الوقت نفسه يذكر الدكتور باقر بأن الباحث الشهير «أرنو يوبيل» كان أول من نشر ذلك اللوح عام 1914م. ثم أعقبه باحثون آخرون أشهرهم «كرامر».
ونفهم من خلاصة هذه الرواية، حول أحداث الطوفان، بأن «زيو سدرا» تعني بلغة العراق القديم «الخالد، السرمدي، الأبدي» وهي مفردة معادلة للاسم البابلي لبطل الطوفان «اوتو نبشتم». وخلاصتها أن «زيو سدرا» الملك الخالد والذي يخاف الإله ويقدم له القرابين، ويسير بتوجيهاته. كان يحكم مدينة - شروباك وهي من المدن الجنوبية وقريبة على - الوركاء.
هذه الملحمة التاريخية تشير بشكل واضح الى إن بلاد ما بين النهرين كانت مهدا لحضارة عريقة، وفي الوقت نفسه هي أقدم حضارة إنسانية ساهمت بتقديم صورة مشرقة لإنسان وادي الرافدين وعظمته وإبداعاته، كما منحت مساهماتها في الحضارة الإنسانية من خلال هذه الملحمة، حيث قدمت باقة إبداع ونموذج حضارة ورقي بلاد اسمها «بلاد ما بين النهرين».