ادب وفن

سماء في آخر شعلة.. خيارات في اليأس / د. فيصل هادي الدنيناوي

غالبا ما تكون العناوين في المؤلفات بصورة عامة، والنصوص الأدبية بصورة خاصة عاملا مساعدا في اعطاء المتلقي صورة مجملة عن معنى ما يأتي بعدها، فتسهل عليه مهمة الاكتشاف؛ كونها العتبة التي لا يمكن للمتلقي تجاوزها عند الدخول الى حجراته الخفية، وهي بمثابة كشافات تسلط الضوء على ممراته المتعرجة، وأبعاده المترامية الأطراف، ومن باب آخر وفرت عليه الكثير من الجهد، وأتاحت له - كما في البطاقات التعريفية- فرصة المعرفة والاطلاع، ومنحته القدرة على تحديد السمات والملامح الجمالية للنص، واستجلاء حقائقه الفنية الكامنة فيه فيما بعد.
ولمعرفة صحة هذه الافتراضات من عدمها ولغرض التحقق من وقوع مصادقيها نتوقف عند عنوان المجموعة أولا ومن ثم النص الانموذج ثانيا.
تضم المجموعة الشعرية للشاعر ثلاثة عشر عنوانا هي كما يلي:"سماء في آخر شعلة، سيف يتنفس العواصف، شبابيك الانتظار، شرق الجرح، جنوب الغسق، صوت للجسد، صوت للعويل، ضفة اخرى للهروب، ايماضة، ضوء تحت غيوم الدموع، عاصفة القلق، على انقاض الوقت، غربة في كنف الاصابع، غمامة الدم، فناء بحجم الأجداث"، والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن جميع عنوانات النصوص قد مثلت عنوان المجموعة تمثيلا معنويا صادقا كدلالة الاسم على مسماه ؛فهي بأجمعها غارقة في ضباب الرومانسية المتشائمة مما يجعلها حقا تبحث عن نافذة القمر.
وأول ما يطالعنا فيها النص الأول: سماء في آخر شعلة أن الشاعر قد تجاوز البدايات وقرر الوقوف عند نهاياتها، كون البدايات ربما باتت معروفة عند الشاعر من خلال التجربة والمعايشة، فهي من قبيل قول الشاعر الآخر ما أشبه الليلة بالبارحة، فآثر عدم التكرار، وقامت دلالة النص على وجود أرضية قلقة، أسس لها الشاعر، وطغى عليها عنصر التوتر، ولذلك برز على سطحها وبصورة واضحة عنصر اليأس، مما جعل الرحلة محفوفة بالمخاطر، وهي بلا شك لا تسير الى عالم مجهول فحسب، بل هي محسوبة العواقب، الا ان وقوعها لا يعدو غير مسألة وقت لا غير، فالسماء التي تمثل أفق الشاعر وغده المشرق يقترن بقاؤها ببقاء هذه الشعلة الأخيرة، وانطفاء هذه الشعلة يعني تحول الأشياء الى عدم، ليبقى أمام مرأى الشاعر ظلام دامس مهد الطريق الى فهم ما يحتويه النص من مشاهد وصور جزئية، وكأنه بانوراما كبيرة يشترك كل مشهد من مشاهدها بإنتاج جزء مهم من دلالتها الكبرى، لذا نرى أن كل مقاطع النص قد دخلت تحت مفهوم تعبيري واحد.. لنقرأ ما قاله الشاعر في المقطع الأول من نصه:
آخر سنبلة من الريح
طردت خيال الأضاحي
هذا المشهد بلا شك يمثل صورة انعكاسية للواقع الذي يحيط بالشاعر وكأنه لوحة سريالية اختلطت فيها الألوان وتشابكت فيها الخطوط، وهي لعبثتيها تحتاج الى من يعيد اليها توازنها بعد أن يعطيها معنى يجعل وجودها متحققا، فالسنابل حينما تكون ممتلئة تعبر في أبسط دلالاتها عن معنى الوجود، فهي اكسير الحياة، لكنها عند العقابي لا تمثل سوى الخواء والفراغ، وعلى الرغم من خلوها من مبدأ الغائية، فأنها قد مثلت الاقتراب من العدم أصدق تعبير، كونها ذهبت جميعا ولم يبق منها الا الأخيرة، وعلى افتراض وجودها الذي لا يحقق شيئا على صعيد الواقع فان هذه السنبلة الأخيرة الممتلئة بالريح لم تسمح حتى لخيال الأضاحي بالاقتراب منها، ناهيك عن اقترابهم هم الى الحقيقة، لذا أبقتهم في المنافي البعيدة كي يظل المستحيل قائما.
في المقطع الثاني يقول حيدر:
سويت هذا الحزن على مقاسي
أنا الخريطة التي كانت وجهي
وميلاد سري لحصان اشتهى الليل
فصادف الزهور في عز القضية..
نرى ان العقابي كأنما قد تخلى عن اعلانه الثورة على واقعه، فرضي بالاستسلام للقدر وأبدى خضوعه لمشيئته - وهذا الأثر من بقايا الرومانسية التي لم يهجرها الشاعر دون أن تكون هناك أي نية مبيتة للتغيير ولكنه يحاول جاهدا أن يقاوم هذا الانكسار الداخلي بجمع قواه الخائرة، ومحاولته التوحد من جديد بين فعله وما ينوي القيام به فهو لم يزل يضطرب في داخله بركان من الحماس والغضب يدفع به للتمرد والثورة، فعل الحصان الجموح، واختار الليل لذلك منطلقا وعادة ما تكون الصباحات لا تأتي الا بعد الليل والغريب.. ان ايقاع هذه الصورة قد تشكل من خلال تغيير مجرى الأحداث الثائر الذي وجد ما يشغله عن متابعة المسيرة لتحقيق مهمته الكبرى في التغيير والبعث وكأنه قد وجد حالة من الدعة والخمول فظل مستلقيا بين الزهور مؤثرا السلامة على التضحية.. حدث هذا الفتور والخمول بينما من المفترض ان يكون في آوج نشاطه فلذا ظل الواقع راكدا، اذ انه لم يستطع اكمال مشواره الذي ينبغي عليه الوصول اليه ليتحقق التغيير المطلوب لصالحه.
لننتقل الى المقطع الثالث حيث يقول العقابي :
ما من أحد
في الأرض يتسع صدره ان يتحمل البشاعة
وليس هناك قوادم للرأس
كي يتعطل التهدم بين يديك..
في هذا المقطع نجد أن الشاعر يبوح بمهمته باعتبار أن الشاعر هو رسول سلام في هذه الحياة، مهمته تحقيق الصلاح، فلذا نجده ينشد الجمال والخير اينما وجد، مجالا للبوح، وهو ضد القبح اينما وجد، وانه يحاول دائما اعادة رسم الواقع واعادة تشكيله من جديد، ولا يوجد في قاموسه شيء اسمه اليأس، لذا ينبغي أن لا تتعطل هذه القدرة بفعل معاكس، لأن مهمة الأدب والفن هي تجميل الواقع واعادة صياغته وفق تصور خاص، مع ابقاء شعلة التفاؤل متوهجة والمحافظة على بريقها لتدوم اشراقة الحياة، وعلى هذه الشاكلة يظل العقابي يعرض علينا صورا كما في المقطع الآتي، كلها تعبر عن احساسه الفاجع وعدم رضاه عن واقعه، وأنه مازال يسبح بالضد من التيار ولا يبالي بأن يغرد خارج سربه مازال الشاعر يفتقد الأمل المنشود ويؤكد عدم تحققه على صعيد الفعل الانساني، وكذلك الغيبي، ويدرك ان أمامه الكثير من المجهول وعليه المغامرة في قطعه، ومادام لا يعرف مداه فان الرحلة سوف تطول وتستمر:
يا حارس النهر
الباب مهدم
بين سجدتين
أو ضريحين
الوقت افق ،لغيم يتيم
والغيوم بجع ، يحب الاختباء مرارا،
كي لا يصطاده الصمت
ويكسر نشيده
الذي لا ينطفئ..
وفي المقطع الخامس يقول حيدر:
ليس لي القدرة
على الضحك على ذقوني
أنا أول خليفة
يأسره النور
ويبرمج اختفاءه
كي لاتضع اوزاره حملا
يفسد عليه مكوثه..
في هذا المقطع يعيد الشاعر ذكر مهمته الانسانية التي أنيطت به ولكن بصياغة جديدة، الشاعر جزء فعال في هذا الكون الواسع يحيا الواقع ويتفاعل معه ولا يمكن له تجاهل ما يحيط به كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمل عند احساسها بالخطر، وكذلك لا يمكن له ان ينأى بنفسه عن واقعه أو أن يتخذ منه موقفا حياديا بل ان له الدور الكبير في توجيه حركته وامتلاك قدراته التسخيرية التي وجدت أساسا لخدمة الانسان، وان اختياره لموقف الاستسلام والسكون سوف يكون باعثا على مضاعفة معاناته، وحينئذ يجد من اللازم ان التضحية تظل هي خياره الوحيد كما يقول الشاعر:"حنانيك بعض الشر أهون من بعض"..
الشاعر هنا قدم لنا رؤية استشرافية كونية عما يحيط به وما ينبغي عليه فعله، وفي المقطع الأخير من نصه نلمس هذا الموقف، ولكن موقفه هذا ظل سلبيا لا يرقى الى ما شرعه موقفه هذا، ولم يصل الى ما وصلت اليه الواقعية الاشتراكية واقتراحها الحلول المناسبة لإصلاح الخلل، بل ظل موقف العقابي عبثيا تشخيصيا ليس غير، فقد وضع الشاعر يده على الجرح ولكن دون ان يسعفه بعلاج ناجح يوقف نزفه، هذا ما حصل بالضبط:
شيء يشبه الملح، أو هو أكثر بياضاً
يتجمع في صبغة الصدغ
ويتلو آيات من دم جامد
قل للسماء،
ان هذه الارض افسد فيها الرعاع،
والقتلة
والزنادقة، والنازلون من اغصان تعبدهم،
قل ان الارض ملأها الكذابون ،بالتستر والمواربة،
قل ان وجهي لا يملك الحمى ابدا
ولهذا داسوه بلا خجل..