ادب وفن

«الدكتاتور فنانا» للكاتب رياض رمزي : بوصلة لتحديد ما جرى / جمال العتابي

أستطيع القول ان الكاتب رياض رمزي قدم للمكتبة العربية واحدا من أهم الإصدارات الرصينة في العقد الأخير من الزمن، وهو كتابه "الدكتاتور فنانا"، الصادر عن دار الساقي في لندن عام 2007، إلا ان المؤسف حقا أن الكتاب لم ينل ما يستحقه من متابعة واهتمام من قبل المثقف والباحث والمتابع والمتخصص في دراسات من هذا النوع، سوى بعض الكتابات النقدية المتواضعة القليلة، ولعل ضعف الإنتباه يعود لأسباب لا تتعلق بماهية الكتاب وموضوعه المثير والجديد، إنما تتدخل أسباب أخرى هي ذاتها التي تشكل أزمة المطبوع العربي في سوء تسويقه وترويجه من قبل دور النشر، والمعايير والشروط التي تفرضها هذه الدور، وهي غالبا لا تأتي بصالح المؤلف.
أجد من المناسب أن أقدم الكاتب للقارئ العراقي بتعريفات موجزة عن سيرته الثقافية، إذ بدأ منذ ستينيات القرن الماضي قارئا مثابرا يلاحق الجديد من الكتب العراقية والعربية، درس الاقتصاد وأكمل الدكتوراه في هذا الاختصاص، إلاّ انه تحرك صوب القيم الإبداعية في الأدب، فقرأ الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح، ودرس الفلسفة والتأريخ بعقلية تحليلية متأنية، ظل يستشف من خلالها، المواقف والتجارب، ولم يتجرأ على الكتابة طيلة ربع قرن أو أكثر من القراءات، وظل يتمعن بها، وما تنطوي عليه من قيم جمالية ورسائل وإشارات سياسية واجتماعية، فقدم في عام 2007 كتابه "الدكتاتور فنانا"، واتبعها برواية "التيس الذي انتظر طويلا"، يكتب بتأن شديد، وحذر مبالغ فيه، فشحت كتاباته، بالرغم من إتساع معرفته كرمز ثقافي، له رصيده من الإبداع الذي يدعم هويته، وهوية الثقافة العراقية.
"الدكتاتور فنانا" خلاصة لتأمل معرفي في الأدب والفن والتاريخ والموروث والاقتصاد والسياسة، بأسئلة متلاحقة عن معنى اتجاه البلاد نحو الكارثة، لماذا عوقب مواطنوها بهذه الدرجة من القسوة؟، أية لعنة حلت عليهم، وأية جريمة اقترفوها؟، كي تسير الحياة السياسية لديهم يدا بيد مع القاتل؟، أسئلة مريرة يطرحها رياض، وهو يروح بعيدا في الأعماق باحثا عن أسباب ظاهرة الدكتاتور، لكنه يستدرك القول، ليؤكد أن عمله هذا ليس من شأنه الإجابة عن الأسئلة كلها، ليس لأن هذه الأسئلة لا تتمتع بقدر كبير من الأهمية، بل لأنه عمل يحتاج الى الكثير لإنجازه، والسؤال الأساس الذي يحاول رياض الإجابة عنه، ذو طبيعة إسبارطية ومتقشفة، إذ جهد لجمع طائفة من الأسئلة الأخرى، بالطريقة نفسها التي تتجمع فيها مجموعة من الغدران كي تملأ مجرى النهر الرئيس، بغية تعميق المقصد الأصلي للسؤال: ترى من هو هذا الشخص؟ وماهي مؤهلاته؟
يحاول هذا الكتاب كشف تلك الرحلة، الإبحار في دراسة الطغاة، ليست هناك من جملة واحدة، من تصرف منفرد من إيماءة عابرة، لا شيء يجري تجاهله، إذ لا شيء خاليا من المعنى.
بدأ رياض البحث في هذه الموضوعة منذ عام 1982 وهو يتابع الحرب العراقية - الإيرانية، بدأ اهتمامه يتجه عفوا، ليس نحو الحرب، بل نحو من كان يقودها فرد واحد جعل منها ساحة لإظهار مواهبه الشخصية، باتت الحرب نسخة من طباعه الشخصية، وكان مستمتعا بذلك الامتياز، سلامته أغلى ثمنا من دم رجاله.
غالبا ما يقدم رياض أسئلة تقترح مداخل متعدة وتقارب احتمالات متنوعة على نحو يظهر إحاطته بهذه الظاهرة، وتكون هذه الأسئلة مفاتيح أساسية للولوج إليها، هي جزء من حواره مع نفسه ومع موضوعه ومع متلقيه، وهي دليل على سعة أفق قراءاته وحيوية منظوره النقدي، وعمق تحليله السسيولوجي والنفسي للشخصيات.
إن أبرز ملامح لغة رياض، هذا الإندماج بين أجنحة المعرفة، بين السياسة والأدب والاقتصاد والفن فنجح في توظيف لغة الشعر والتوصيف القصصي والروائي، ولغة اللوحة التشكيلية، فاشتغل عليها بمواظبة وتوازن دقيقين فيقول:
كنت أرى أداء لا أجده إلاّ في أشد الروايات إمعانا في الخيال، مئات الآلاف من القتلى، جموع جائعة، دولة معزولة من دون حلفاء، وهو يركب حصانا فحلا مخصصا للاستيلاد، مشيرا بيده إشارة النصر لجموع تضع أيديها أسفل بطونها درئا لآلام الجوع، صارخا تباً للمستحيل. كنت أتشمم وجوده مثل سماع ترددات مبهمة لنغم بعيد لا يستطيع المرء أن يتعرف على ايقاعه، إلا بإيقاظ لحنه الغافي في الذاكرة، كنت التمس الوصول الى السر مهتديا بأضواء تتحرك متأرجحة وراء ستارة سميكة لأدائه الرسمي.
ويستطرد رمزي بلغته العذبة الجميلة بالوصف ليكشف عن مهارته الروائية، وهو يزعم انه لم يقم إلا بتغيير زاوية النظر إلى تلك الحقائق، عن طريق استخدام رؤية جديدة لاستخراج المعنى. مرتكزا على قول لبيكاسوحين يتعين دراسة "الدكتاتور" بالطريقة التي ينظر فيها لوحة فنية "إنني ارى الطاغية على نحو مغاير، إذ يمكن الدكتاتور أن يستحيل فنانا لدي"، بمعنى، إن كان هناك لغز يقف وراء سلوك الدكتاتور، فعلينا فض احجية ذلك السلوك بإيجاد طريقة جديدة للنظر، وبتغيير زاوية النظر إلى أفعاله، يجب درس ليس ما فعله، بل لماذا فعل ذلك وبتلك الطريقة عاش حياته مختنقا بوهم قدرته على إخضاع كل شيء لشبق السيطرة المحموم الممسك بتلابيبه، عندما يخفق في السيطرة أو يمتنع عليه ممتنع، يسطر عليه عنوة، يغتصبه بالطريقة نفسها التي اغتصبت بها "تيمبل" على يد بوبيه أحد أبطال رواية "الملاذ" لوليم فوكنر.
ويأخذ رمزي بالمتلقي الى أن يفحص قناعاته في ضوء تحسسه بهذا الصدق والحرارة في التجربة والأسئلة، والحوار بأوسع مدى متاح مع المنجز الروائي والتشكيلي والتاريخي بمستوى فني يشعر القارئ انه غير لغة السياسة الدارجة،تحت ضغط الأسئلة عن معنى الدكتاتور في التراث الإنساني.
من هو هذا الرجل الذي اسلمت له البلاد نفسها، فأنتهكها ثم عفّر وجهها بالتراب؟ ماذا اعتمد نجاحه؟ هل على القسوة أم على الحظ أم على سذاجة خصومه؟ هل هو بطل شكسبيري ذكي لكنه غارق بالدماء؟ هل هو بطرس الكبير الذي وجد في القسوة سبيلا لتأسيس بلاد قوية؟، هل هو ستالين المهموم بالدور التاريخي لروسيا؟، هل هو بطل قومي صاحب رسالة؟، هل هو بطل جاء من غيوم الميثولوجيا لا يعرف أين يبدأ الممكن ومتى ينتهي المستحيل؟ هل هو لويس نابليون الذي قال عنه ماركس: إن الصراع الطبقي في فرنسا أوجد الظروف التي مكنت شخصا سخيفا متوسط الموهبة من أن يؤدي دور البطل... هل هو إذن ميكافيلي قاس؟
إن الاستنتاج المهم الذي يتوصل اليه الكاتب في بحثه المضيء هذا، هو ان القانون الذي يحكم سلطة الطغاة: إنه قانون التمتع بممارسة السلطة، لامجال للأحكام الأخلاقية. هي لذة تشبه الفعل الجنسي. إصدار حكم اخلاقي على لذة هذا الفعل عمل باطل لأنها قيمة بذاتها. لم يكن لأحد أن يعرف كاليغولا معرفة عميقة قبل أن يكتب عنه البير كامو مسرحيته الشهيرة "كاليغولا"، التي قدم فيها شكل الطغيان بالاستناد الى فكرتي العبث والعدمية، هوى يتحول الى رغبة ثم الى إرادة:أريد الوصول الى القمر، اغرق السماء في البحر، امزج الجمال بالقبح، اصدر مرسوما اعين فيه حصاني رئيسا. هذه هي إذن خلفية المتعة بالسلطة.
حقا استطاع رياض رمزي أن يرسم صورة الحزن والضياع، ببراعة فعل ذلك، الإمساك بخيوط كوميديا العبث والخراب في صورة الرجل وهو في صيرورة تحوله الى صورة، ليس الظل وهو يتحول الى شخصية منحولة إليه، الدكتاتور الذي ظل يلاحق صورة ظله، البطل الذي يرى نفسه في مرآة بطولته، فتكف شخصيته الفعلية عن النمو فاسحة المجال لشخصيته الثانية بالحلول محلها. عندما يهزم جيشه يجد الجميع فجأة أن ما يحدث ليس سوى نكتة غير قابلة التصديق هزم البطل لأن الصورة لم تعد متطابقة مع شخصيته، لم يعد بطل العرب، لكن هؤلاء الأبطال، الهزيمة هي أفضل الحلول لهم.
إني أدعو المثقف، والقراء عموما، لمجرد وقفة مع هذا الأثر البعيد الدلالة العمق في تحليل الظاهرة والشخصية، لأنه بوصلة لوجهة ما جرى من عبثية ضاعت فيها الأهداف والمعاني، وتعددت فيها الصور والزوايا حد الغرق.