ادب وفن

اسماعيل ابراهيم عبد*:ما يهمني طبيعة النص.. ونقدي يتنوع بإختلاف بصمته / شاكله حوارياً: هشام آل مصطفى

لنتقاسم المعاناة مع الآخرين, ولنوزّع السعادة على الكل,هكذا تبدو عملية النقد المعقدة, لأن ممارسة النقد تجعلك تخرج من "ذاتك" لتتفاعل مع أفكار الآخر, وتتقاسم معه جحيم الكتابة وربما لذة الكتابة!. في مجال النقد الحيوي المنشغل دائما بدراسة الإبداع وتحليله لابد أن يكون النقد ضرورة معرفية تشكل الوعي المطلوب لمعالجة النص كالطبيب, للحكم عليه, وكالقانوني ليكون عادلاً. القضية في النقد هي تشخيص ومعالجة وتحليل علامات الرؤية لأنماط حياة, وإمكانية وجود, وطريقة تغيير, لجعل الحياة أرقى وأسمى من واقعها.. الفن يبحث عن العلاقات الحيوية ويربطها برابطة عميقة بعمل يعلو على الحياة ليكون مزجاً تقنياً للعلامات بقيمتها النوعية والمعنوية بمظهر الكتابة المسمى طاقة تعبيرية لمحتوى البناء واللغة.
ولكي يكون النص بمستوى العملية النقدية, ضمن تواصلية التحولات الجديدة, ينبغي أن يفتح للنقد آفاقاً رحبة لتغيير آليات التفكير, ونظريات الدلالة والأخلاق والسلوك والجمال, لإيجاد أُطر لترشيق تقنية العمل الأدبي الثقافي.
على النقد تقييم النص بوضع محددات واضحة لإنتاج المعرفة وتطوير القابليات. إن نظرية المعرفة التواصلية بين المؤلف والمتلقي- عند يورغنهابرماس, المسماة "بعد تطويرها من قِبل هانس غادامير" بنظرية الفعل التواصلي, إنشغل بها الكثير من نُقّادنا المعاصرين, بطروحاتها وتطبيقاتها, ولتوضيح هذه النظرية وغيرها من هموم النقد, قمنا بإجراء مناقشة جدالية بطريقة تشبه المساجلة مع عدد من أولئك, لغرض إلقاء الضوء على النظريات النقدية لمعرفة إتجاهاتها المنهجية, فكان لنا تداخل جدالي مع الناقد اسماعيل ابراهيم عبد،للاطلاع على معطياته المعرفية وأسسه المنهجية ونظرته الثقافية, للكشف عن جملة من القضايا والقواعد "النقدية" لدينا في ظل التطورات المنهجية المعاصرة, والمتغيرات الفلسفية للحداثة وما بعدها.
سألناه:
 كيف يمكن للكاتب مراعاة التطورات اللسانية الحاصلة, والتغيرات النقدية في تطور المناهج؟
- مهم جداً أن نراعي التوزيع النصي في اللغة الأدائية, أو ما يماثل الأُفق السطحي للنص. بمثل هذا التفكير سيربط الكاتب بين القواعد الصارمة, وقواعد المعنى الأُحادي. ولكن قد يفقد النص ترابطه الداخلي وتماسكه الفني, أو قد يفقد قدرته على التحوّل الى خطاب تداولي, أو تفاعلي- على حد تعبير هابرماس.. على المؤلف العبور من النحو القوالبي السلفي الى قوانين اللغة الديناميكية, وهو بالطبع سيغيّر تركيب اللغة, ويحاول تطوير قواعد النحو بما يلائم بلاغة وفقه اللغة الجديدة.
الكاتب- وجوباً- يفهم بأن اللعب القواعدي ليس لهواً, وأن قانون الإقتضاء- تحوير الجملة بحسب مقتضى الحال- هو قانون شديد الخطورة, لأن اللجوء الى النحو التوليدي, كما يسميه لايكوف- والذي أُسميه أنا- النحو الديناميكي- يلخص بيانات الإستعمال المؤدية لنجاح تلك القواعد, القواعد المهتمة ببنى ثلاث "بنية سطحية لمظهر الكتابة, بنية عمقية, بنية منطقية".. اللجوء الى البناء السطحي يعيد النص الى البث السياقي بسبب غياب الجملة الأساس المشبعة للمعاني, ويمكن للمؤلف أن يطّور علائق الجملة ليجتذب أكبر عدد من المتابعين, عندما يجعل الجملة بنية عمقية مشبعة للمعاني ومسببة للقراءات المتعددة, ومنها وعليها يُشاد المنطق العام للجملة كقضية وإقتضاء جمالي ومنطقي. من هنا يأتي دور الناقد في الكشف والتدقيق وتبيان التوافق والتكامل المنطقي والجمالي المتمم لمهمة التذوق العام والخاص ومدى تطابق الإجراءات الشكلية مع الإشتراطات الفنية. تلك هي مؤديات العمل على وفق المرتسمات الجديدة للتطورات اللسانية بنى ونصوصأً.
 أجد عندك إهتماماً بالسرديات أكثر مما هو عليه في الشعر وشعريته, أهو بسبب كونك قاصاً في الأصل؟
- عملية السرد صُمّمت أساساً للقصة والرواية والحكاية, ولم تكن إلّا طارئة على الشعر, هذا من ناحية ,ومن ناحية أُخرى أني أميل الى الدراسات السردية المتعلقة بالقصة فأنا أعرف أسرارها جيداً, لكنني قمتُ بجهود مهمة أعتز بها تخص الشعر بحثاً وفحصاً وتصنيفاً وتحليلاً ضمن كتابي, الحداثات الأربع للشعرية في العراق. لا أجد تعارضا بين المهمتين.
 هل تتعمد المزج بين النقد النصي والنقد السياقي في دراساتك النقدية؟
- هذه عملية أُخرى, حيث أن الفكر القصصي عموما يتحمل النظرة المسبقة, النظرة الفلسفية, وهو ما يحتم عملية المزج أحيانا. إما النقد التحليلي الشامل فهو لم يفقد أهميته، إنه يكون موضوعياً حين يعتمد على طبيعة النص ونوعيته, لندرس النص كما هو, بآلية نصية أو سياقية, وعند توفر العوامل التأريخية أو النفسية أو حتى الاقتصادية, في النص فأننا نحتاج الى مناهج سياقية مساعدة وموجهة للكشف النقدي. وعندما تكون بناءات النص لغوية جوهرية فسيكون لموضوعنا النقدي آلية لسانية مساعدة وموجهة للكشف عن التكون النحوي وبلاغات الفقه اللغوي ومنسقات فعل الجمال, أي نميل الى تبني فكرة طبقات المعنى العام من حيث اللغة والسياق جامعين الآليتين معاً لأجل الربط بين جزئيات العمل بما يحايث النص ويحلل إحتمالات القراءة, وربما نحتاج الى آليات مرحّلة عن العلوم الآخرى, مما يفتح النقد على التحليل الثقافي.
 أنتَ تؤمن- والحالة هذه- بالنقد الثقافي الشامل, كالمدرسة الماركسية والاجتماعية, في النقد, بحسب فلسفة يورغنهابرماس في التداولية والتأويلية؟
- أنا أُؤمن بأن النقد يجب أن يتنوع في دراسته للنص الواحد, أو النصوص, لكي تُستَوْعَبَ قضاياه بمجملها, وهذا مدعاة لفهم كامل للنص, ولهذا مدى "ما"، ما أن يتجاوزه الناقد حتى يرتكب حماقة نقدية ويسبب خللاً. وفي ما يخص السؤال تحديداً, فأن ذلك يعني التوافق والتواؤم والربط بين أجزاء العمل النقدي والنصي لاستيعاب الثقافة الخاصة, بآليات مناسبة, ثم التواصل مع ثقافة المتلقي والتماحك معها لتوليد النقد الثقافي الساحر كفيض عن مُزاح إشتغالهما المتضافر بعيداً عن الأدلجة,أؤكد هذا لئلا يُسْتَغَل الإعلامَ الأدبي للتسويق السياسي.
 أين التأويلات في هذه النظرة الشمولية؟
- لتبيان فكرتي, يعترضني القص بالإستعارة وإنتاج المعنى البِكر الجديد, كما عند بول ريكور, وطروحات الدكتور جبار حسين صبري في الإبداع الدلالي. عن طريق الإستعارات والبلاغة يمكن لنا فهم التأويل , بحسب عقلية التلقي. وفي "السردي" خارج العالم والزمن والتخيل الإفتراضي, يمكن مجازاً, فهم الرموز والمثيولوجيا والسوسيولوجيا كتأريخ للاسطورة, والتأريخ الإجتماعي, بما يتيح فرصة لوجود طاقات مضافة للتأويل, الذي هو طريقة الناقد في التوضيح والتفسير وشحذ الفهم لتأويل التحول الدلالي من بدء التركيب الأُولي لمظهر العمل, وحتى تحقق فعل الجملة الخبرية, ومن ثم تحول "الخبرية" الى "إستفهامية" ثم الى "طلبية"وإنجازية حتى آخر طبقة لتأول جمل الخطاب. قد يتم هذا بتحوّل الإشتغال من الكينونة الفعلية الأولية الى الكينونة المركبة بقصد خلق سيرورة للتداول.. هذه السيرورة ذات الرؤية البعيدة تكثّف المعاني والدلالات بما يسمح بتعامد المكثوفات وتراكمها. أي تتهيىء للمتلقي مساحة صغيرة ذات قدر كبير, متعدد ومتعاظم من الفهم, بما يجعله أمام إنشغالات ولذائذ تبيح له التأويل والإنتاج التفسيري الخاص به, ضد أو مع, رؤى المؤلف, من ثم ينتج القارئ مؤلفه الخاص, الذي هو هدف كل تأليف أو كتابة.
 (المحاور مقاطعاً): لكنّي أشعر بتناقض إستعمالاتك النقدية على النصوص!
- لنا في ذلك شأن آخر يتأتى من كون السرد مبني على ثلاثة أعمدة هي: "جملة فلسفية مباشرة أو غير مباشرة, حدث متوازن, سرد حكائي نثري في غالبه".
لكن لا علاقة لذلك بالقيمة أو التفضيل, بل أن ممارستي كتابة القصة وقراءتي النقدية المبكرة, في هذا الإتجاه, صيّر فهمي لآليات القص وأنماطه ووسائل توصيله, بأكثر دقة وأقل تعباً مما لوكان النص شعراً, لكنني في الفترة اللاحقة طوّرت أدواتي النقدية مما وضبني للقول النقدي في الشعر, لقد غطيتُ نقدياً قصائد ل- "37" شاعراً من مختلف الأجيال والأنماط الفنية, درستُ قصيدة نموذجية واحدة لكل شاعر, أخترتها لتفسر وتبيّن أدوات الشاعر وطرائق إشتغاله, شبه الثابتة , ببصمة لا تتغير, بمقياس لن يتطور كثيراً في حياة الشاعر, ذلك ما شكّل كتابي "الحداثات الأربع للشعرية في العراق, الصادر 2012 من دار مديات/ الزيدي".
 تبلورت المدرسة "النصية" ضمن "الإسلوبية" في إطارها اللساني بعد إنفصالها عن "السياقية", فيما تعاكس "السرديات" من داخل السياق, أو من خارج السياق في التداولية, التشظي في السرد, أو الإنزياح في الشعر... السؤال هل تطبق نقدكَ على قصصكَ؟
- ليست الإسلوبية بذات تخصص يشمل السياقية دون غيرها, أو ضمن "اللسانية" فقط، بالعكس, ليست "السرديات"تخصصاً يتوقف عند التشظي, والإنزياح في "الإسلوبية" ليس عائدا للشعر فحسب, من المهم جداً أن نعي بأن شروط الإبداع تقتضي المهارة والجودة والإقناع, بالإضافة الى الموضوعية المعنيّة به... قد يكون لتشظي سبب سياقي, وقد يمكننا تحليله لسانياً, وهو ما يحدث دائماً. التداخل في الوسائل هو المبدأ العالمي للنقد الآن, وفي الإبداع الوصفي ليست من شروط مسبقة ولا إلتزام متزمت... القصة الواحدة تتحمل عدة أساليب وصياغات, كما أنها كنوع عقلاني, لا يمكنها تجاوز السياقية. ولأن للقص جوهراً لغوياً فلابد من إحتوائه على قدر من الشاعرية المتشظية في المكتوب النصي.
ــــــــــــــــــ
* ناقد عراقي