- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 13 حزيران/يونيو 2015 22:23
"1"
معظم القراء، بكل ما لديهم من ذخائر أو براءة ـ إن لم يكن جميعهم ـ كثيرا ما يبحث عن مفتاح يسعفه في صناعة قراءة من الممكن أن توفر له لحظة كشف، أو اطلاع. ومن الممكن ـ وبشكل واضح ـ أن تكون صفحة الغلاف الأولى ـ بكل ما تحمل من رسوم وكلمات وتجنيس ـ هي الأكثر تأهلا لخلق هكذا مفتاح ـ قد لا يكون سريا ـ بسبب افتضاح الرموز والعنوانات ونصوص الفن التشكيلي التي تغمر صفحة الغلاف الأولى بغواية القراءة.
لديوان الشاعر خضر خميس الحامل لعنونة "طلاسم لزوال الخفوت" هناك أكثر من دعوة/ ثغرة في جدار القراءة.
من الممكن أن تكون الصفحة الأخيرة متضامنة مع الصفحة الأولى من الغلاف وتشكلان تواصلا ما بين نص الصورة المرسومة، ونص الكتابة إضافة لصورة الشاعر.
اذن هناك أكثر من دعوة، وأكثر من غواية، من أجل كشف المستور، والتوغل في غابة الشعر لتلمس دواخل النصوص.
بل إن ثريا الكتاب طلاسم لزوال الخفوت يمتلك أكثر من دعوة بسبب توفر البعض من منتجات الغموض والسحر والتي من الممكن أن يمسك بها القارئ جيدا ولن يفرط بها. إنها كلمة "طلاسم" ومفردها طلسم.
هناك أكثر من محاولة لدفع القارئ الى تفكيك العنوان، إذ إن القصدية في العنونة من الممكن أن تجعل الشاعر موجودا على شكل مجموعة فتن أو غوايات. أي إن صناعة الثريا لم تكن حالة عشوائية، أو فعلا بريئا خاليا من ممارسة سحب القارئ الى حقول أخرى غير التي بين يديه.
تلك الثريا التي جاءت وفق معمارية الخط المغربي الذي يقابله في العراق والمشرق العربي الخط الكوفي.
هل هي حالة جمالية اقترحها المصمم؟ أم هي حالة فكرية قصدها الشاعر؟ وفي كل من الحالتين على القارئ أن يتمعن في الكلمات الثلاث ودلالاتها ومعانيها، وما تكتنز من إيحاءات وإشارات قد تكون حاملة للشيء الكثير من الأنوثة.
لقد كانت قصدية الشاعر واضحة جدا في نظر القارئ المتمرس الذي بإمكانه وعبر مدلولات كل من الكلمات الثلاث التي تشكل عتبة الكتاب كعنوان مقروء فهناك طلاسم دلالة الغموض والسحر،
وزوال دلالة الانسحاب، والخفوت دلالة الدخول في الظل.
لقد كان التداخل واضحا ما بين الخط المغربي كشكل منتج للجمال والغرابة ومفروزات الرسم والغناء، ولحظة ما قبل الانطفاء. إلا إن الأنثى والموسيقى، والعزف على "الجوزة" ـ الآلة العراقية حصرا ـ والنعاس الذي يغطي ملامح المرأة الممتلئة بالترف. هذا النص التشكيلي لابد له من أن يشكل أكثر من غواية، حيث المرأة الريانة التي تضع ساقا على ساق. هذا الكسل والتراخي حيث يضيع الكرسي الذي تقتعد الأنثى ولن يبقى منه سوى ما يواجه القارئ. ولولا هذا لما كان لهذا الجسد الرخو سوى أن يكون محلقا.
"2"
إحدى وثلاثون قصيدة، هي كل ما تحمل الطلاسم. وما تحمل من خلاصات عمر لم يزل يغوي صاحبه بالذهاب بعيدا خارج الواقع. وهي كل ما تحمل الأغصان من زهو، وما تحمل من غرس مزروع. هذا الزهو، وهذا الغرس رمى بثقله على ثمان عشرة قصيدة عمودية، وما تبقى ـ الثلاث عشرة ـ تتوزع على قصيدة النثر والتفعيلة. وعلى تداخل الشكلين الأخيرين ـ ما بين العمود والتفعيلة ـ بل كان للبعض تشكيل ما بين قصيدة النثر والعمود.
الفعل الشعري هنا فعل غير تابع للتراتبية، اضطراب الموسيقى هنا اضطراب مقصود. أي إنه غير مشمول بالفوضى والعشوائية.
قد يشكل فعل الإهداء أكثر من مفتاح، وأكثر من محاولة لخنق القصيدة لحظة تحويلها الى حمالة فعل غير شعري. إذ إن إهداء كهذا لا يمكن أن ينتج شعرا، إضافة الى انه فعل ينتمي الى "أنا" الشاعر. إلا إن خضر خميس كان يعمل على تحويل الخاص الى عام رغم انف القصيدة. حتى القارئ سوف يجد نفسه مضطرا الى الدخول الى فضاء الطلاسم عبر بوابة ما يتملكه الشاعر لا سواه.
إن عملية التصفح من الممكن أن تشكل منفذا مهما من منافذ الشروع بصناعة القراءة. فهو الفعل الاستطلاعي الأول الذي من الممكن أن يسبق اجتياز جدران القصيدة. إنه اختبار القارئ للغلاف أو لأسيجة القصيدة. قد لا تكون أو القصائد أول أهداف الكشف. قد يكون التصفح حالة استعداد. ومن الممكن أن يكون النص الذي منح الكتاب عتبته أول النصوص التي ستكون في متناول فهم القارئ.
القارئ هذا وضمن عملية التصفح هذه، سيضع يده على مرتكز مهم، تحاول مجموعة من القصائد ـ تنتمي لهذا الشكل أو ذاك، لهذا الغرض أو القصد أو ذاك ـ أن ترتكز عليه، لا تتعكز عليه.
هذا المرتكز يشتغل على الهم الجمعي الطالع من علاقة الشعر بالفرد، الذي من الممكن أن يمثل جمعا.
حيث تتشكل الاهداءات، وتشكل بدورها ملمحا هاما يحاول الشاعر استغلاله. قد يُرجع البعض من القراء هذا المفصل/ الاهداءات، الى مبدأ الاخوانيات، أو الاحتفاء بالآخر. إلا إن عملية/ فعل ما يسمى بالرثاء، يأخذ الكثير، الكثير من جهد الشاعر.
"3"
لقد عمل خضر خميس كشاعر على تدمير صورة البيت الشعري في محاولة منه لإلغاء الصورة شبه المقدسة. صورة الثبات لقصيدة العمود الشعري؛ لا من أجل صناعة "غش" يدعي عبرها انه يكتب قصيدة التفعيلة، أو انه يكتب قصيدة النثر، أو نصا مفتوحا.
إن هكذا إزاحة صورية من الممكن أن لا يكتشفها القارئ الاعتيادي، وإن اكتشفها فهو ليس بحاجة ماسة الى تبرير فعلة كهذه.
إلا إن تشظية/ تمزيق البيت الشعري هنا، جاءت وفق صيغة قصدية/ متعمدة، هدفها إشاعة الاختلاف، وتخليص القارئ من التكرار الصوري/ رسم البيت الشعري المتفق عليه "الشطر والعجز" منذ ظهور قصيدة العمود الشعري منذ أكثر من خمسة عشر قرنا أو يزيد على ذلك.
*****
هكذا دعوات تشكيلية، ومحاولات مؤكد عليها، رافقتها دعوات للحياة. فالقصيدة ذاتها "طلاسم لزوال الخفوت"، هي فعل لهد جدران النهايات، بل هي حالة احتفاء بالحياة، وبما تبقى منها. فالشاعر قد لا تكفيه ساعات اليوم الأربع والعشرين، ولا أيام الأسبوع السبعة، ولا أيام الشهر الثلاثون، أو الواحد والثلاثون، أو التسعة والعشرون؛ ولا تسعده أن تكون السنة اثني عشر شهرا. إنه يعمل على أن يتحول الى قادر مقتدر، والى عامر معمر، يعمل على صناعة الإضافات؛ وبالتالي يعمل على الديمومة والاستمرارية، معتمدا على تدمير فعل السكون أو الخمول أو الخفوت. فالانسان ليس بحاجة الى أن يبرر وجوده على سطح الأرض، أو أن يجد مبررات للحب والحياة، وانتظار شروق الشمس أكثر من رغبته في انتظار غروبها.
انه يعمل على أن يقود القارئ ليعود به الى البدايات. الى حيث براءة الانسان الأول. وحيث براءة الانسان من مقتل أخيه الانسان. الى حيث يحتل الشاعر مفصل الوسيط ما بين الكائن البشري الأول وآلهته، ما بين الكائن الأول/ الانسان والمجهول.
حيث يتحول كلام الشاعر الى تعاويذ وطلاسم تدفع بالخوف بعيدا. الخوف من المجهول. الخوف من الغامض.
وعلى الرغم من إن قصائد الرثاء ـ أو بالأحرى الاحتفاء ـ تشكل أكثر من ثلث القصائد، إلا إن رائحة الموت لم يكن لها اثر داخل النصوص. القارئ لا يحس بغصة الموت، ولا بقسوة الفراق، رغم سلطة هذا وذاك. إذ إن الشاعر يعمل على إعادة ترتيب الحياة، أي انه يعيد تشكيل الماضي، وإحياء نقاط الضوء الصغيرة لكي تتحول الى مجموعة شموس. إذ إن الماضي لم يعد في ذاكرة القصيدة هو الزمن فحسب، بل إن الانسان وقدراته على صناعة الحياة هو الشاغل الأكثر وجودا في فضاءات التواريخ والوقائع. شعراء الشاعر ما كانوا حجرا أو جلاميد، بل هم من زمرة "محيي الدين بن عربي". ومن المؤكد إن الشاعر وفي العديد من قصائده "دائرة الشعراء" يعمل على تغيير موازين الحياة لصالحه. حيث يتصاعد الحس الشعري وسط كوكبة من الشعراء.