ادب وفن

شاكر مجيد سيفو وقصيدة النثر «اللا نسق» / حميد حسن جعفر

ان وجود المقدس كقوة مانعة أو عدم وجوده ، يقابله أو يماثله وجود التابواهات أو عدم وجودها، وجود الممنوعات أو عدم وجودها، وجود الخطوط الحمراء عدم وجودها، وجود سلطة الأب/ البطرياركية أو عدم وجودها، وجود الناسخ والمنسوخ أو عدم وجودهما، هذا الوجود وهذا عدم الوجود كثيرا ما يدفع بالشاعر أو الأديب أو المثقف إلى البحث عن الازاحات ضمن عملية التمويه، أو التقنع/ استخدام الأقنعة، إلى البحث عما يوفر له تفردا في القول واختلافا في التجربة الكتابية.
وإذا ما كان القرآن الكريم كنص مقدس/ نص منزل، وديوان العرب/ الشعر كتراث ينتمي إلى المقدس "ولكن ألارضي"، إذا ما كان لكل منهما من سلطة التوجيهات مالا يمتلكه سواهما من "تصوف وزهد ومنثورات، كالخطب والوصايا والأحاديث والابتهالات والتراتيل والأدعية" أن ما ينتمي إلى المقدس أو ما يشبه المقدس دفعا بالنصوص النثرية البعيدة عن الدين وطقوسه إلى فضاء الاهمال، وبذلك لم يستطع المختلف من تصدر الحراك الإبداعي.
أن النصوص المسيحية "الأناجيل الأربعة، ونشيد الإنشاد وسفر التكوين وسواها والمكتوبة بالسريانية أو المترجمة إلى العربية والتي ﻻ تمتلك الكثير الكثير من القدسية خارج
الفكر الديني المسيحي وذلك بسبب المعلومة التي تقول: ان المتوفر من الكتب المقدسة هي مدونات شخصانية تمت وفق تعدد المصادر وتعدد الارساليات، إلا الشيء القليل.
وليس بمقدورها "لعدم تحولها إلى تابواهات/ قوة شاطبة" أن تحد من نشاطات الأدباء المسيحيين مثلا.
لقد كان للشعراء السريان/ المسيحيين أكثر من مساهمة وأكثر من محاولة ناجحة في تجاوز قدسية النص الديني "الأناجيل، نشيد الانشاد، سفر التكوين" وسواها من المرويات الدينية، والخروج عليها لا عبر الاهمال بل عبر الاستفادة منها والوصول إلى فضاءات أخرى أكثر اتساعا.
فقد كان الشعر/ روح الشعر أكثر من مصدر لتقريب النص الديني/ القزاني، من الإنسان/ انسان الجزيرة العربية الداعي إلى ترك الوثنية والاتجاه نحو عبادة الواحد الأحد، وقد كان للنص المسيحي، أكثر من دعوة للكتابة، وأكثر من دعوة لاستثمار حرية الكتابة في الاستفادة مما تنتجه التعاليم المسيحية من الوصول إلى المختلف من العلاقات التي من خلالها يتشكل العالم أن قراءة واضحة لكتابات -سركون بولص -أو -جان دمو -أو - شاكر مجيد سيفو -أو -زهير بهنام بردى -سوف تفتح آفاقا في جدران القراءات الشعرية.
فقصيدة النثر العراقية، أو قصيدة النثر عامة، كثيرا ما تعتمد على الموسيقى الداخلية للكلمة أو العبارة أو الجملة، أو تعتمد على الإيقاع أو على ما يسمى النبرة -علما أن جميع مفردات اللغة العربية لا يمكن أن تكون خارج الأوزان "لان البعض من المهتمين بالشأن اللغوي استطاع أن يثبت مؤكدا على ان لغة القرآن الكريم-جميعها تقريبا-تنتمي موازينها إلى مكتشفات الخليل بن أحمد، إلا أن ما تكتبه هذه الزمرة "سركون ورهطه" من الشعراء يكاد يخرج على جميع الاتفاقات، على ما كتب من تنظيرات عن ملامح القصيدة/ قصيدة النثر ،بل إنهم ينزعون إلى كتابة قصيدة النثر المختلفة عما يكتبه الآخرون من شعراء قصيدة النثر. إنها الكتابة التي تمتاز بشعرية الصورة، وانتقاء الكلمة، الذي يمتاز بالاختلاف، والمغايرة وتدمير المتعارف عليه.
إذ تبدو على هكذا كتابات وبشكل واضح وبين تأثيرات اللغة الدينية، في تشكيل بنية العبارة الهندسية.
أنهم لا يعملون على إعادة صياغة النص الأدبي ،بل إنهم يؤكدون وبشدة على إعادة بنية الحياة بعيدا عن الممنوعات، قد يشكل المسكوت عنه أو المخبوء، أو ما ينتمي إلى الممنوعات والذي ما عاد كذلك، وسط معمار القصيدة/ قصيدة سركون بولص وزمرته المتمردة على الأشكال المتداولة واللغة السائدة، وسط هكذا مفاصل قد تنتمي إلى الإحساس بالتفرد لم تعد التعاليم الدينية لديهم "الشعراء السريان" حالة أداء لطقوسهم خاصة، قد تمارس أو لا تمارس، بل تم تحويلها إلى ممارسات حياتية في الواقع الكتابي، أو واقع الحياة -شاكر مجيد سيفو - في كتابه الشعري - اسمه السعيد بنقاطه - غير معني بسوق سعادة الآخر ،وسط الآخر هنا هو مفروزاته في القراءة والكتابة، وسعادته كذلك علق الآخرين في رقبته من كليات وأسماء.
قصيدة النثر عامة ،وما يكتب -شاكر مجيد سيفو - خاصة تتشكل عبر أنسجة الحياة نفسها، على أساس أن الحياة كل لا يتجزأ،
قد لا تشكل ثلاثية - متحف ايمي - أو - أوراق الدراسة الوحيدة إلا الجزء اليسير مما لدى الشاعر من منجز ينتمي إلى قصيدة النثر، حيث القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر المتعارف عليها، والتي تعتمد في لحظة الإلقاء على أوليات الإيقاع أو النبرة أو الموسيقى التي تصنعها توافق الحروف وتشغيلها علامات رفع أو نصب أوجر السكون، إذ أن هذه المفاصل ما زالت - وضمن هكذا كتابات - قادرة على أن ترمي بثقلها على الشاعر المعاصر/ شاعر قصيدة النثر، عندما يكون بمواجهة الجمهور المستمع، كل هذا من أجل صناعة محاولة للاقتراب من القصيدة المنبرية/ الصوتية، قصيدة النثر هذه -قصيدة -بولص ودمو وسيفو وبردى وسواهم - لا تعتمد على قوة يأتي بها الشاعر من خارج تكويناتها، من الخبرة أو الإيقاع آو الموسيقى الداخلية ،حيث يتخذ الشاعر دور الحادي -والتي يعتمد عليها الشعراء من كتاب قصيدة النثر الذين يقفون ضمن الخط الآخر، فقصيدة-شاكر مجيد سيفو - قصيدة غير ميالة إلى الاتكاء على تاريخ شعرية القصيدة التي يكتبها سواه، أنه يحاول ان يبدأ تاريخ قصيدته من بين يديه، ما يكتبه الشاعر من حالة تنتمي إلى -الارابسك -/ فن التجميع أو فن التطعيم هذه المعمارية القديمة / الحديثة ، كانت هي الأقوى في صناعة الأشكال الشعرية.
وإذا ما كانت الحياة هي مجموعة مفاصل -بقدر ما تحمل من عملية التفريق/ التمزق -فإنها تحمل الكثير من التوحيد / الالتحام.
الشاعر يتخذ من هكذا قانون نابع من التشظي وسيلة لتجميع مفردات حياته الخاصة، والخاضعة رغم تفردها إلى كتلة الحياة المتشكلة من خلال التجاذب والتنافر.
قد يعمل الشاعر على تدمير مفردات الحياة التي تتشكل من خلالها الكتلة الأكبر و الاقسى، أن أم تكن قد دمرت فعلا من خلال سلطات تقف خارج الشعر، الشظايا، المزق، هي المادة الأساسية التي ينتجها الدمار ،والشاعر من أجل أن يكتب الشعر/ قصيدة النثر، عليه الاعتماد على عملية الاختيار والانتقاء، فالحياة بحاجة إلى من يعيد تشييدها، عند لحظة الدمار/ الخراب على الشاعر أن يكون متأهبا لاستلام زمام الأمور، وإعادة تشكيل كتابة القصيدة/ الحياة، وإعادة أن يقتنص لحظة الاتقاد.
-شاكر مجيد سيفو - في قصائده الثلاث من -اسمي سعيد بنقاطه - لا يشتغل على صناعة القصيدة المركبة، قصيدة الأحداث والأصوات و والصراعات، أو قصيدة تعدد الشخصيات والتي كثيرا ما تمد أصابعها إلى حقول النثر/ السرد، حيث يتحول الشاعر إلى ناثر/ سارد، إلى مصمم، إلى مهندس عمارة، إلى قائد عمليات تكوين النص، الشعري أو النثري، وربما يمد يديه ليرصف الشظية إلى الشظية، ليعيد تشكيل زجاج مرآة حياته، ليستدل من خلالها على سعادة اسمه، وعلى ملامح الحياة.
الحياة هنا في القصيدة هي غير التي خارجها، فإذا ما كان هناك قبل الكتابة حياة لا تمتلك مرجعية بشرية، فإنها ليس كذلك عندما أصبحت بين يدي الشاعر، تتنفس هواء آخر غير الغبار والدخان وما ينتج من التلوث، والتلوث هنا قد يكون حالة اضطراب أو ارتباك أو ضياع. حرية الكتابة التي تمنحها اياه المرجعية الفكرية والثقافية التي يستند عليها الشاعر، تلك التي قد تغازل بعض الفوضى التي تحيط بالنص، لا فوضى الأشياء، هذه المرجعية التي تتشكل من خلال الوعي بالوجود وادراك الأغراض/ الأهداف من صناعة الوجود ذاته، ومن حسن استخدام الحرية في ربط التناقضات، لتفقد الأجزاء بعض خصائصها، في محاولة للشاعر من أجل اكسابها خصائص أخرى تنتمي إلى المعتقد أو الدين، أو زاوية النظر التي من خلالها تتم السيطرة على حركة مفردات الحياة.
**
الكتل الصغيرة - قصائد البيت الواحد/ السطر الواحد، قصائد الكلمات المعدودة، التي تعتمد بالأساس على وجود هدف محدد، أو على صناعة إثارة المتلقي، سواء كان قارئا أم مستمعا، والتي ترتكز على غرض معلوم تنتظر المستقبل، النص الذي لا يتطلب من شخص متكلم، ومن مخاطب، ومن شخص ثالث قد يكون القارئ أو الشاعر ذاته، شخصيات لا تتشكل القصيدة من دونها رغم الأدوار الهامشية المسنودة اليها، إلا أن شكل القصيدة يتطلب وجود كائنات كهذه، كائنات تنتمي إلى الخمول لا إلى صناعة القصيدة ،فافعل الشعري وتأثيثاته هي صنعة تنتمي إلى الشاعر فقط ،أما ما تبقى فهي لملء الفراغات أو لشيء مرجعية الزخرفة والتزيين أو من أجل تبيان حسن إدارة شؤون القصيدة، إنها المادة الخام التي تكون بحاجة إلى صقل وتهذيب ودربة.
شاكر مجيد سيفو يعتمد الكتابة عن شخصيات جاهزة/ لابطال أصحاب تاريخ، كائنات بشرية ذات سمعة عريضة، يتمكن من خلالها كتابة القصيدة، بأقل جهد ممكن، إضافة إلى أن الشاعر هنا ليس بحاجة إلى وسط ناقل، وسط يقول من خلال قنواته بعض ما يريد قوله، انه يقول ما لديه بعيدا عن التماهي خلف سواه.
قوة المكاشفة التي يتمتع بها النص/ القصيدة ليست بحاجة إلى قناع، ليس بحاجة إلى كائن بشري غير الشاعر ذاته.
فلحظة إحساس الشاعر بعدم أداء ما عليه، أو عدم قدرته على أن يقول ما لديه ،أوان النص الشعري الذي يكتبه -المقتصد حد البخل -لم يستطع أن يستوعب الفكرة، عند ذاك يعمل على الاستعانة بنص آخر يتماثل بالرؤية ويختلف بالمبنى، أي أن هناك تكرار المعنى مع وجود اختلاف بالمبنى.
القصيدة المركبة التي بإمكانها أن تستدين، أن تأخذ من كل حقل أو من بعض الحقول المنتمية إلى الابداع "سينما، مسرح، سرد، تشكيل، دين، سحر، أسطورة، خرافة، تاريخ، جغرافية، ميثولوجيات، على أساس انتماء هذه الحقول إلى مصطلح السرديات" أن تستدين أو تستدعي طرقا تعبيرية لا تنتمي الي النص الشعري فحسب بل ربما تتقاطع معه ولكنها تنتمي إلى الإبداع - أي أنها لا تتقاطع مع النص الشعري.
ولأن توجهات شاكر مجيد سيفو تقف خارج هكذا قصدية، ولأن ما في دواخله لا ينتمي الى بنية القصيدة الطويلة/ المركبة، بل إنها مجرد نفثات، حالات طلق، وأشياء تنتمي إلى الحرائق، أو أنه لا يريد أن يقول كل ما لديه، لذلك كانت نصوصه تظهر على شكل دقات، حيث تعتمد على الاقتصاد بالكلام والاباحة بالغرض.