- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 30 آب/أغسطس 2015 20:25

يتيح كتاب «خورخي لويس بورخيس: صورته في التلقي العربي»، الصادر حديثا للباحث المغربي الشريف أيت البشير استقصاء الإمكانات التعبيرية لدى بورخيس في مجالات الفكر والقصة والشعر والترجمة، للوقوف على خريطة الذوق لدى ذلك الكاتب الشامل في الخطاب، كما في الوجود، باعتبارها شرفات تكشف عن صورته وعن وجوهه الإبداعية والجمالية في الترجمة والتفكير.
يتعقب أيت البشير صدى نصوص وأفكار الكاتب الأرجنتيني الشهير لدى عدد من النقاد والمفكرين المغاربة والعرب ممن درسوا كتاباته أو ترجموها إلى لغة الضاد: إبراهيم الخطيب، محمد أيت العميم، حسن ناصر، محمد أبو العطا، سعيد الغانمي، صالح علماني، بالإضافة إلى تحليل حوارين، أولهما أجراه محمد أيت العميم مع ماريا كوداما أرملة بورخيس، والثاني أجراه إبراهيم أولحيان مع خورخي لويس بورخيس نفسه.
نوافذ اللغة وسحر العزلة
ما هي التأثيرات التي اسهمت في تكوين شخصية بورخيس؟ إنها ـ بحسب الكتاب الذي بين أيدينا ـ تتجلى أولا في علاقته باللغة، حين عـدّ الإنكليزية «لغة القراءة» و»لغة الأدب»، واعتبر الإسبانية «لغة المنزل» و»لغة الملحمة» باعتبار تاريخ الأسرة في علاقته بالحرب. ولم يتوقف عند حدّ إتقان هاتين اللغتين كتابة وقراءة، بل تعلم لغات أخرى كالألمانية والفرنسية، نتيجة رغبته في معرفة ذوق وجمال الإبداع المنتج الخاص بهما.
أما التأثير الثاني فيتمثل في حياة بورخيس الخاصة، حين وجد نفسه يعيش حياة مسكونة بالعزلة في منزل أريد له ذلك عندما سكنه أناس خضعوا للمصير ذاته هو الفقدان التاريخي للبصر أو ضعفه، وارتيادهم في الآن نفسه لعوالم الحماسة، من حيث كونهم شاركوا في الحروب بهدف الاستقلال، وهي الحروب التي أُنجزت لفائدة القارة الأمريكية، من هنا تشرب روح المغامرة والرغبة في الاندفاع لاكتشاف المجهول. إنما السفر هنا يكون موقوفا على الفكر والجمال والذوق والمتخيل، لأن بورخيس سيكون نموذج الوريث لشيئين مُنحا له في عبثية ميتافيزيقية: هما الشجاعة، وهو الأكثر ارتعادا من المرآة التي مارست عليه كثيرا من فوبيا الرعب المجرورة إلى الوحشية والالتحام والاختراق.
وبذلك، كان لحياة بورخيس الخاصة تأثير على كتاباته، حينما جعل من علاقته بالمنزل نافذة يطل منها على الذات، ويعمل على بنائها نصيا، محتفيا بعلامات شكلت ثوابت في مسيرته الإبداعية، بالنظر إلى ما في فضائه من عناصر ترعرع فيها وفتح عينيه عليها، حيث العزلة، الكتب، الأقنعة، المرايا، النمور، الحلم
من التجاهل إلى الانتصار
تعدّ قصص بورخيس صميمية في انتقادها للواقع، مضيفة إلى القارئ الإحساس بالإنسان في نسغه الدافئ باعتباره كذلك، الشيء الذي جعل منتجه في عمق معضلات الوجود وفي قضايا الأرجنتين، متأثرا ـ في رهافة بالغة ـ بالتحولات التي شهدها عصره، كما هو الأمر بالنسبة لثقل الأزمة الاقتصادية والسياسية على الأرجنتين، بدءا من ثلاثينيات القرن العشرين التي حوّلت البلاد من الاستقرار إلى الفوضى ومن الرخاء إلى الشدة. من هنا، عكف في تقص بالغ على ماهية الهوية الأرجنتينية، مستقرئا أحوالها بغية تشوّف الآتي والحلم بالمستقبل
وهي مواقف جذرية في إحساسه الإنساني وفي رقّته الأكثر رهافة، التي ألقت به في أقبية مظلمة لدهاليز الواقع السياسي آنذاك، والمترجم في حرمانه من جائزة كان قد ترشح لها سنة 1941 بمجموعة «حديقة الطرق المشعبة». وفي الإمعان بعدم الرضى عليه، وفي الرؤية المريبة تجاهه من قبل حاكم الوقت، مُنحت الجائزة إلى كاتب مغمور، وكان رد فعل بورخيس إزاء هذا الحدث هو السخرية والتهكم بأسلوب مسكون بالدعابة ضمّنه قصته «الألف»، فكانت الاستجابة الفورية من قبل كتّاب الأرجنتين الذين كرّسوا كثيرا من المنابر الثقافية الأرجنتينية للتعريف بمنتجه والاشتغال على فكره وأعماله، ليتوج على إثرها بـ «جائزة الشرف»، ويعيّن رئيسا على هيئة كتاب الأرجنتين. كما تمّ التدخل لرفع أجره الذي كان خجولا وهو يشتغل مساعدا لأمين مكتبة متواضعة.
وقد توالت الانتصارات في حياة بورخيس، لأن الزمن علّمه كيف يحول الإخفاق إلى نصر، وليتوج في آخر سنوات عمره مديراً على المكتبة الوطنية في بوينس آيريس، الشيء الذي كان له الأثر البالغ على جلّ أعماله من حيث استلهامها الكثير من خصائصها الجمالية والثيماتية، أي من فضاء المكتبة، الموصول باكتشافه لها منذ وقت مبكر بفضاء منزله، حيث كانت في القبو مكتبة أسعفته في اكتشاف «الألف» متوجا ذلك بقصة «البرلمان» خاصة، وتضمينها عوالم المكتبة، بالنظر إلى وظيفته بها، وبالنظر إلى هباتها له، حين علمته اللغات القديمة، وتمجيده لبوينس آيريس في حالة عري، وصل في بداياته مع ديوانه الأول «دفء بوينس آيريس» إلى حد الغوغائية.
أما الانتصار الثاني الذي تحقق في حياته، والذي يعتبر هبة من الهبات الإلهية، فهو إصابته بالعمى بشكل كلي منذ سنة 1955، مشيرا في كثير من حواراته إلى أن ضعف البصر، بشكل ملحوظ، بدأ يعرفه وهو لم يكمل اعوامه الأربعين، لكنه فقده بشكل كلي قبيل سن السبعين، كان له حضوره النصي في أعماله التي بصم بها مساره الإبداعي، مودعا إياها ذوقه وفكره ورؤيته للعالم، ومن بينها على الخصوص قصة «الآخر» و»مكتبة بابل» وقصيدة «الهبات» وغيرها.
نصوص منذورة للمستقبل
إن الصفة العامة للمنتج القصصي «البورخيسي» ـ كما يوضح أيت البشير ـ هو كونه يتخلّق من معطف الكتب ومن معطف القراءة، ذلك أن قصصه خرجت من رحم الفكر ومن رحم الكتب المراكمة حضورها والممتدة في ذاكرة بورخيس، جراء القراءات المتواصلة الناتجة عما استحصله منها، حيث تصبح كتابته مجرد قراءات تمت صياغتها مرة ثانية أو أكثر. لذلك، تكون القصدية دامغة ومكينة في عملية التعبير أي في عملية صناعة الدال، عبرها يحدد الوظيفة المثلى للأدب في تصوره هو، والمتمثلة في عملية الإمتاع والتسرية الذهنية.
وعلى اعتبار أن بورخيس مترحّل معرفيا وذوقيا، وكأنه ذلك «التروبادور» على مستوى الحس الإبداعي، فإنه عانق التشكيك والريبة في الجاهزية الفكرية، وعانق كل المستقبل في نزعة تنبؤية، خصوصا في طرحه لـ «مكتبة بابل»، حيث تظل كونية النص البورخيسي إنسانية ودافئة ومتألقة في عشق الحيوات والجوارات والسفر في النفس كما في الفراسخ. كان بورخيس عدوا للنمذجة والقالبية التي تفرغ البشرية في حالة من التشابه الخالي من أي لون من الحياة والاختلاف. لقد كان يكتب بكل العصب وبكل دورة دموية في جسمه وبكل رفة عين أعياها التحديق إلى داخله، ما جعل منتجه الأدبي منذورا للمستقبل، وقابلا للتحول والمصالحة مع مستحدثات المدنية في عالم التحديث والعصرنة. الشيء الذي فتح الباب أمام الإبداع المحلي المنتمي إلى أمريكا اللاتينية قاريا، كي يسجل حضوره في مسار الكتابة الإنسانية قاطبة، حيث عمل بورخيس على إيصال الزمن بالزمن، أي عمل على تجسير العلاقة بين الماضي والمستقبل، من خلال استثمار التراث وجعله مادة يحقق بها النص كيمياءه. على مستوى التقنية، يلاحظ أن بورخيس بقدر ما استظل بكثير من العوالم «الكافكاوية» «نسبة إلى كافكا»، بقدر ما ابتعد عنها في ارتياد مجال القصة، وكان أكثر قربا من إدغار ألان بو، بالتزام مبدأ الإيجاز والتكثيف، وكأنه أراد للقصة أن تكون خلاسية أو نقطة تقاطع بين الشعر والرواية، باعتبار القصة جسدا إبداعيا مسكونا بثمار الرواية، كما هو مسكون بثمار الشعر، لكونها تميل إلى التكثيف المرتاد لآفاق الشعرية والمدغدغ لحساسية الاستعاري والرمزي والإيحائي في العبارة. وبالنظر إلى تتبع أعمال بورخيس، بدءا من سنة 1935، وهي السنة التي تصادف صدور مجموعته القصصية «تاريخ العار العالمي»، وصولا إلى «كتاب الرمل» سنة 1975، ومرورا بـ «حديقة الطرق المتشعبة» سنة 1941 و»الألف» سنة 1949، ثم «تقرير برودي» سنة 1970 و»البرلمان» سنة 1971، يُستنتَج أن الطابع العام لكتابته هو الأصالة والتفرد، من دون الانتصار لصفاء النوع باعتباره إقامة جزئية، أو هو مكر الشجرة في حجبها للغابة، ذلك أن بعضا من قصصه تمنح الانطباع للمتلقي، كما لو أنها دراسات علمية خالصة، أو فكرة فلسفية، أو طرح جدلي، أو اعتراف يتحقق بضمير المتكلم، هدفه من ذلك خلق حالة جديدة وتجريبية تنتج الخارق وغير المألوف، عاملة على تخييب أفق انتظار المتلقي لتدربه على خلخلة الجاهز والازورار عنه، وكشف المحجوب وتعرية المنطوي والمدسوس في البنيات كالتبر من التراب.. به يعمل على إعادة كتابة نصه بصيغة جديدة، تكون للقارئ بصمته الخاصة، ما دام الإبداع تاريخا من الكتابة المستعادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*ناقد مغربي