ادب وفن

قصيدة المجرشة : بين مرجعية الكرخي.. والمرجعيات الفراتية / لفته عبد النبي الخزرجي

قصيدة المجرشة المشهورة من أكثر القصائد في التراث الشعبي العراقي شهرة، حظيت باهتمام كبير وبحث وتنقيب ومساجلات ومحاورات، وما زالت تحظى بالمزيد من الاهتمام، لأنها تمثل جزءاً من تراثنا الشعبي وحاضنة لأوجاع المرأة العاملة وهمومها ومعاناتها. لكنها في المقابل أيضا، قطعة من جسد الأدب الشعبي العراقي، وتمثل مرحلة اجتماعية وتاريخية عاشتها المرأة الريفية في ظل الانسحاق الإنساني والتهميش والمحرومية، والازدراء لدور المرأة في المجتمع وما يمكنها أن تقدم من اسهامات في هذا الإطار ضمن ما تشعر به من تهميش لدورها وغمط لحقوقها، في ظل مجتمع ذكوري يرفض أن يكون للمرأة اسهام أو نشاط أو مكانة في?صناعة الحياة الإنسانية في وسط تسيطر عليه نظرة أحادية الجانب.. وهي النظرة الذكورية.
يقول السيد محمد علي محيي الدين "أثارت قصيدة المجرشة المشهورة الكثير من الخلافات والاجتهادات بين المعنيين بالأدب الشعبي ودارسيه، ونسبت إلى أكثر من شاعر وشاعرة وظلت مثار نقاشات تثار بين فترة وأخرى"1، وفي بداية القرن العشرين، وقد تكون تلك النقاشات قد سبقت هذا التاريخ لان عمر القصيدة وتاريخ نظمها والشاعر الذي فاضت قريحته في إنشادها، لم نتمكن من معرفته على الوجه الصائب حتى هذه الساعة، رغم تعدد الباحثين والدارسين والمعنيين بهذا التراث،كانت المجارش والمطاحن، البيئة التي ولدت من رحمها هذه القصيدة.
ما تنسمع رحـاي... بـس ايدي أدير
اطحن بگايه الروح... موش اطحن أشعير
هذا البيت من الدار مي، هو من يضع حجر الأساس لمنبت القصيدة ومنبعها والطينة التي عجنتها وصاغتها وألبستها ثوبها الذي يليق ببيئتها ويتسق مع محيطها.
إنها بلا شك طينة فراتية، وتأسيسا على ذلك فان الباحث محمد على محيي الدين يقول "وكما روي لي من نسب القصيدة الخريدة المجرشة لشاعرها الأصيل وهو من طويريج الحلة الفيحاء، وعلى نسقها نظم الكرخي".
ساعة واكسر المجرشة... وأنعل أبو ألسـواها
اشچم سفينة البل بحر... يمشي بعكسها اهواها
ايصـير اظلن يا خلگ... متگابلة انه وياهـا
كلما يجيـرها النذل... بحيلي انه ابريهـا
إن المقطع المثبت أعلاه من القصيدة "لا يمكن نسبته للكرخي، لابتعاده عن روحية الكرخي، وبروز الكثير من السمات الفراتية فيه، مما يدل على أن الكرخي اقتبسه من القصيدة الأصلية دون الإشارة إليه."2
وبمجرش ابن غلام... لأزرعلي خوخه
فيَ للگضاه الشوگ... هم دوه الدوخة
هذا هو المنبع الذي وردت من شواطئه وخرجت من أفنانه، قصيدة المجرشة "مجرشة ابن اغلام". ويورد الباحث: أن الشاعر الملا عبود الكرخي، زار كبر أبو دانيال في لواء المنتفك "الناصرية حاليا" وهو تاجر يهودي، وتعمل في مجرشته مجموعة من العاملات باجر زهيد جدا، وقد كان الكرخي يسأل عن إحدى تلك العاملات والتي كانت تردد هذا المقطع من القصيدة:
ذبيت روحي على الجرش... وادري الجرش يا ذيها
ساعة واكسر المجرشة... وأنعل أبو راعيها
هسه يجي راعي الجرش ويملش براسي ملـش
فكان الجواب إن من قال هذه الأبيات من القصيدة هي امرأة من العماريات في تلك المنطقة، كانت تدخل المآتم والفواتح، وتلقي الشعر في تلك المناسبات واسمها " أم خزعل"، وأنها غير موجودة، وطالبوه بإكمال القصيدة.
وفي هذا المقطع من المجرشة، تبرز واضحة المفردات الفراتية، بشكل لا يمكن إغفاله أبدا، كما لا يمكن أن ننسبها لغير أهل الفرات:
ساعة واكسـر المجرشة... بحرگة واشد احزامي
واركض ورى الذبها الوكت... وانشـد على جسامي
لأم عطب بالچمچة يغـرف... وآنه إلگـطب جدامي
عشره يشـاركها برحل... ووحـده مطي يطيها؟
وللتوضيح و تعضيد رأي الباحث محمد علي محيي الدين في ضرورة التريث في نسبة القصيدة إلى الملا عبود الكرخي، نتواصل مع هذه المقاطع من القصيدة ومفرداتها الفراتية:
ساعة واكسر المجرشة... وأنعل أبو راعي الجرش
گعدت يداده أم البخت... خلخالها يدوي ويدش
وآني إستادي لو زعل... يمعش شعر راسي معش
هم هاي دنيا وتنگضي... وحساب اكو تاليها ؟؟
الأستاذ إبراهيم الخياط، هو الآخر كتب عن المجرشة ونسبها إلى الملا عبود الكرخي، كما يؤكد ذلك الباحث محمد علي محيي الدين، حيث يقول "طالعت ما كتبه أستاذي الفاضل إبراهيم الخياط عن المجرشة العراقية التي اشترك في النظم على غرارها الكثير من الشعراء العراقيين"، ويضيف الباحث أيضا "إن التفرد بنسبتها للكرخي خطأ مشهور".
ويضيف "والأجدى أن ابدأ من جديد، فأول المآخذ على أستاذي الفاضل وهو المطلع على ما ينشر في الصحافة الورقية والالكترونية أن لا يجزم بنسبتها للشاعر الكرخي، فما زالت القصيدة مثار تساؤلات وخلافات بين الباحثين والدارسين للآداب الشعبية."
إن هذه السجالات والحوارات والنقاشات كانت وستظل لفترة لاحقة، تعطينا الدليل على أن المجرشة، والقصيدة المشهورة عنها، ستبقى تثير مزيدا من الشجون وتملأ الأسماع وتغطي صفحات الجرائد والمجلات لان قائلها ما زال لم يحسم الموقف حوله حتى هذه الساعة، فما زال الفراتيون "شعراء وباحثون وغيرهم" يؤكدون أو يزعمون أن قصيدة المجرشة، من صناعة شاعرات الطواحين في المجارش الحلية في طويريج. ويستشهد الباحث محمد علي محيي الدين تأكيدا لهذا الزعم، بأن العمل في المجرشة (وفقا للسأم والملل من العملية المتكررة التي تأكل الروح، يهزجن ويغنين?، وهذا توصيف يمكن الركون إليه في نسب المجرشة لأولئك العاملات الكادحات في تلك المجارش والطواحين، إلا أن القصيدة كاملة كما نشرها الملا عبود الكرخي في ديوانه، ليست هي القصيدة التي يرددها النسوة العاملات في المجارش والطواحين، بل انه قد أضاف إليها الكثير، إلا أن تلك الإضافات قد جعلت من القصيدة، وكأنها مقطعة الأوصال، فهناك مقاطع يشم فيها رائحة وعطر الفرات من خلال المفردات المتداولة في منطقة الفرات، والتي نراها بارزة في مقاطع بعينها، كما أننا نرى مقاطع أخرى لا تمت بصلة للواقع الذي انطلقت منه قصيدة المجرشة لان فيه? من المفردات ما لا ينسجم مع قائلتها التي كانت تتغنى بمفردات مفهومة في بيئتها، وهاكم هذه المفردات من قصيدة الكرخي:
ساعة واكسر المجر شه... والعن أبو اليجرش بعد
حظي يهل ودي نزل... والجا يفه حظها صعد
سلمت أمري وأسكتت... للي وعدني بها لوعد
نصبر على الدنيا غصب... للّحـد ونباريها
والآن نقرأها بمفردات الشاعرة العاملة الفراتية:
ساعة واكسر المجرشة... وأنعل أبو اليجرش بعد
حظي يها الـوادم نزل... والجـايفة حظها گعد
سـلمت أمري وأسكتت... يل واعدتني بهالوعد
نصبر على الدنيا غصب... ل" اللحد" ونبـاريها
وفي المقطع الآتي يتأكد لنا أن الشاعر الملا عبود الكرخي، له بصمة فيها من خلال الإضافات التي تعتبر غير مفهومة عند نساء وشاعرات الفرات آنذاك:
ساعة واكسر المجرشة... وأنحر على النمسا ومجر
هناك أنكر تبع وقحطان... والطـائي ومضـر
الباحث محمد علي محيي الدين، ومن خلال تنقيبه ومتابعته لهذا الموضوع، كونه يميل للاعتقاد أن المجرشة صناعة فراتية، فإنه يقدم لنا الكثير من الأسانيد التي يمكن التعويل عليها، ويذكر كذلك:
1 - إن قصيدة المجرشة خرجت من مطحنة (أبو دانيال) وصاحبتها أم خزعل. وهذا واضح من خلال المفردات التي تضمنتها تلك القصيدة، وهي مفردات فراتية، مما يدلل على أن تلك القصيدة، نبتة فراتية، ومن معدن نسوي، لأنها صورت بشكل دقيق عمق المعاناة وصدق المشاعر ونقلت صورة فنية عن المحرومية والظلم الاجتماعي الذي ترزح تحت وطأته المرأة العاملة.
2 - كما أن زيارة الكرخي إلى لواء المنتفگ وسؤاله عن المرأة التي قالت مقطعا من القصيدة، يثبت أن من قالها ابتداء هي امرأة من الفرات الأوسط.
3 -مجارش طويريج كانت ملتقى لنساء ريفيات يتحدثن الشعر ويهزجن ويغنين. ولأنهن يتعاملن مباشرة مع المجرشة، فلا يبعد أن تكون القصيدة قد تناقلتها الألسن لتصبح جزءاً من المعاناة اليومية مع الجرش وللتعبير عن الهم والتعب والجهد والأجر الزهيد.
4 - إن نور الملا شبيب، قد نظمها في ذلك المكان "مجارش طويريج "ومن خلال الاحتكاك المباشر في العمل بمجارش طويريج، فقد كانت النساء يرددنها أوقات ذروة المعاناة والشعور بالجهد والإرهاق. وقد أورد الباحث محمد علي محيي الدين أن " عبد الكريم العلاف نسبها إلى الملا نور الحاج شبيب، والشيخ علي ألخاقاني كذلك، والأستاذ عبد الرزاق الحسني أيضا في كتابه الأغاني الشعبية والعلامة انستاس ماري الكر ملي ايضا نسبها لنفس الشاعر."
5 - لون المفردات الشعبية التي تضمنتها القصيدة، تعتبر دليلا واضحا على نسبة القصيدة إلى مجارش الفرات، والى عاملات في تلك المجارش "ومما يدلل على أن قائلها امرأة، دقة التصوير لمعاناة المرأة العاملة، وصدق مشاعرها في التعبير عن معاناتها، وهو ما لا يستطيع الرجل إدراكه أو التوصل إليه."2
6 - وبضيف الباحث محمد علي محيي الدين، مصادر أخرى للتدليل على صحة نسب قصيدة المجرشة شعراء وشاعرات في منطقة الفرات، وان العديد من الباحثين والمهتمين بالأدب الشعبي قد نسبوها استنادا إلى معرفتهم ودرايتهم ومتابعاتهم (عبد الحميد الكنين نسبها للشاعر ناجي الحلاوي، عطا رفعت نسبها لشاعرة عمارية مجهولة، محمود العبطة نسبها إلى امرأة من الديوانية، الشاعر محمد بسيم الذويب ينسبها لشاعرة مجهولة وان الكرخي انتحلها وأضاف إليها، جريدة "صدى الحقائق" نشرت القصيدة ونسبتها إلى الشاعر حسن الحلي.) كما يورد كذلك المصادر التي تنسبها?للشاعر الملا عبود الكرخي:
1) تم طبعها بكراس مستقل عام 1924 ونشرت في الجزء الأول من ديوانه.
2) نشرها الشيخ علي ألخاقاني في الحلقة 9 من موسوعته "فنون الأدب الشعبي" ونسبها للكرخي. ويبدو من خلال ما أورده الباحث محمد علي محيي الدين، أن ألخاقاني قد نسبها مرتين: أولا للشاعر الملا نور الحاج شبيب، ثم تمت نسبتها إلى الشاعر الملا عبود الكرخي، مما يعد تناقضا وضياعا للنسبة الحقيقية، وفي نفس الحلقة التاسعة من موسوعته.
3) غناها المطرب محمد القبانجي من دار الإذاعة العراقية على أنها من تأليف الكرخي.
4) إضافة إلى لمحات لا يشكل ذكرها دليلا. باستثناء ما قاله الشاعر الرصافي في قصيدة ضمها ديوانه:
الشعر ما قلت ياعبـود فانح به... مدح الصناديد أو هجو الرعاديد
وصف أنيسة بؤس ذات مجرشة... تقطع الليل فـي هم وتسـهيد
ويذكر الباحث في آخر مقالته عن "قصيدة المجرشة "، جزء من القصيدة والتي كتبها الكرخي في ديوانه، حيث يقول:
ترضه يلمسير سفينة... نوح يا رب البـشر
عبيات أبوها الكحيلة... وحصان الچرد يشبيها
ولغرض تصويب مفردات القصيدة يذكر الباحث محمد علي محيي الدين (والصواب "عبيان أبوها كحيلته إحصان الجرد يشبيها " والمقصود عنها عملية تلقيح الخيول الضامرة عندما / تشبى / الفرس الضامر بحصان أصيل.)
نعود للبيت الأخير من القصيدة:
عييان أبوها كحيلته... إحصان الجرد يشبيها
إنا نعتقد أن التصويب كان في غير محله، حيث أن الحصان هو الضامر والفرس هي الأصيلة ولا يجوز أن تلقح الفرس الأصيلة من حصان النواعير لأنه حصان " كديش "بالمعنى الشعبي. لان" الكحيلة" هي الفرس الأصيلة ولا" يشبيها الكديش" وهو حصان الچرد "الناعور".
وختاما لابد أن نشير إلى أن الملا عبود الكرخي، كانت له لمسات واضحة وبصمة لا يمكن إغفالها، كما لايمكننا ان ننكر الدور الكبير للكرخي في الشهرة التي حصلت عليها القصيدة وانه كان متابعا بارعا، وبذل جهدا تكلل بهذه القصيدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1،2) محيي الدين: محمد علي / محطات في التراث الشعبي العراقي / دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة 2012