- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 28 كانون1/ديسمبر 2015 20:49

الافصاح لغة واصطلاحا يعني الكشف والابانة. ومنها الفصيح والفصاحة بمعنى القدرة والقابلية على الكشف وبيان ما يعتمل في الفكر وانتقاله الى المستوى اللساني / اللغوي لتوضيح المراد.
وازاء هذا المفهوم فان الافصاح الشعري سيكون قدرة النص الشعري على الكشف وبيان حدود التجربة الشعرية المتصلة بموقف ما او قضية ما للتعبير عنها شعريا . واذا علمنا ان النص الادبي يتكون من مرسل ورسالة ومرسل اليه ..وبتعبير اخر مؤلف / نص/ متلقي ، فان هدف المؤلف هو ان تكون رسالة نصه قادرة على الافصاح عن تجربتها وفق المعطى الجمالي والمعرفي الذي ينهض بمسؤولية منح النص هويته الادبية /نوعه.
يقوم الكتاب الذي شكل قصيدة واحدة على طرفي المعادل الموضوعي الذي تم تخليقه على المستوى الادائي للغة ، اذ ان الطرف الاول المستوى الفصيح فيما مثّل المستوى العامي للغة المستوى الثاني وكلا المستويين نهضا بمسؤولية مقاربة الوقائع الحياتية بمعطياتها ، فتكوّن النص من مستويين لغويين ، الاول هو نص الشاعر المكتوب باللغة العربية الفصحى فيما تكوّن الثاني من الشعر المكتوب باللهجة العامية التي مثّلت الشعر المغنى للراحل سعدي الحلي الذي امتد على مساحات واسعة من جسد القصيدة ، وتتبدى أهمية وجدوى المزاوجة اللغوية بين الفصيح والعامي في تحفيز معرفة المتلقي بأغاني سعدي الحلي التي اختار منها الشاعر ما يثير الشجن واقتراب الحس الشعبي البسيط من الألم العراقي والمشكلات الاجتماعية والنفسية والوجودية التي شكلت معطيات للواقع العراقي الراهن التي اقترب منها الشاعر بل جعلها رسالة نصها الطويل هذا ، اذ ظهرت الوظيفة المرجعية على نحو واضح من بين الوظائف النصية عبر الكشف عن احداث وشخصيات وامكنة ليست بعيدة بل معاشة من قبل المتلقي ، فالقصيدة تبدأ من الكشف عن حيثيات احتلال مدينة الموصل:-
"والجنرالات الاسود على ابناء جلدتهم/ أصحاب السيوف المتقاطعة/ والتيجان الراجفة على الاكتاف/ يلبسون الدشاديش ويسوقون سياراتهم الرباعية الدفع/ منذ الطلقة الأولى / تاركين الجمل بما حمل ....".
فالمشهد الذي يرسمه الشاعر في النص المذكور آنفا متجاوز حدود الحادثة العيانية الراكزة في ذاكرة المتلقي للوصول الى النص الاخر/ صدى الواقع ، من وجهة نظر شعرية ترتفع بالمشهد العياني الى الايحائي لنرَ ما لا يرى عبر المجازات "القلوب التي تجلس، الارواح المغدورة التي تطرق الابواب".. فالإفصاح عن مجريات الحدث متجاوز الواقع التاريخي او التوثيقي الى ما وراء نص الواقع، باتجاه تخليق النص المستبطن لحالة انتظار الامهات لأبنائهن، ولإحداث المعادل الموضوعي فان الشاعر يلجأ الى المزاوجة بين المستوى اللغوي الفصيح والعامي فيورد موالات كان يغنيها الراحل سعدي الحلي وهي موالات مفعمة بالروح الشعرية الشعبية التي تصل عبر صوته الرائق الممزوج بحنان وألم ولوعة متجانسة مع ما ينتج من مصائب الواقع الموضوعي، ولإحكام العلاقة مع المتلقي فان النص يفصح عن اسماء اماكن في مدينة الحلة تؤشر الى اماكن حاضنة لفجائع سياسية واجتماعية "عكد المفتي ، كمرة ، ليله" وهي فروع في ازقة شعبية وسط مدينة الحلة واصفا حالة الدعة والهدوء والفرح التي تضج بها هذه الامكنة بروح شعبية بسيطة :-
"وأعني غيمتك التي تطير/ بآلاف الاجنحة / مبللة بدمع الفرح/ في عيون العمات والخالات القادمات/ من عكد المفتي وعكد البوس / وبينهما شجرة ناي تسرُّ الناظرين / ومن عكد اليهود وعكد العجم/ وبينهما قوس كمان/ "وجناب نزلو بالطرف يا يمه أحبهم".
فقد شكلت هذه الأماكن وما يضجُّ بها من عشق وفرح والتي صدحت بها حنجرة سعدي الحلي معادلا موضوعيا لحالة مضادة تنزف لها قلوب الامهات والخالات نتيجة ما يجري من انتهاكات وموت مجاني يطال الحياة اليومية العراقية ، ولعل هذا الطرف من المعادلة يدفع المتلقي الذي تصوَّر حجم المعاناة والمآسي التي ينتجها الواقع الموضوعي من خلال طرح الوضع المضاد ، وازاء هذا التزاوج في المستوى اللغوي للنص وتعدد مستويات تعالق النص بالمرجع مرة وبالميثولوجيا والشعر مرة اخرى فان النص حاز على جملة من الوظائف الشعرية تعايشت ضمن حركية النص كالوظيفة المرجعية والشعرية والخطابية ، وعلى الرغم من الحضور الواضح والفاعل للوظيفة المرجعية المشيرة الى الحوادث والامكنة والاسماء الراكزة في الواقع / المرجع فان الوظيفة الشعرية المركزة على تجربة الشاعر المستنطقة تفاصيل المرجع قد هيمنت ومن الممكن عدَّها الوظيفة المهيمنة للنص في الوقت الذي يؤكد النص حضورا ايضا للوظيفة الإفهامية / الخطابية :-
"فاندف يا سعدي/ اندف قلبك جبل الهم/ فلا احد غير صوتك/ بعينين عسليتين/ ورقته التي لا تنضب/ ويديه الواثقتين/ وصدره الرحب / يعيد للأشجار/ خمرتها".
فالنص المشار اليه آنفا يوجه خطابه الى "سعدي" مُحيلا الى صوته افعالا انسانية "رقّته، يديه، صدره" وعلى امتداد جسد القصيدة تظهر هذه الوظيفة الخطابية لتكون الخطاب الاجمالي وليكون "سعدي الحلي" المسهم فعلا في رصد الهم العراقي والتعبير عن معاناة الأمهات والاخوات اللواتي لم يتبق لهن غير اللهفة والخوف والنوح والبكاء ويتوزع الخطاب الإفهامي هذا حتى الى السماء :-
"قولي شيئا ايتها السماء/ فهل هي حرب بين الهين ام انه اله واحد/ قولي شيئا ليطمئن قلبي / فممَّ تخافين ايتها السماء".
فالخطاب هنا موجه الى الذات الالهية معبر عنها بالسماء وكيف ان الاخرين تلفعوا بعباءة الدين ليمرروا مصالحهم بقرينة ادعاء الجميع بالانتماء لله ودينه السماوي ، على ان الوظيفة الشعرية قد هيمنت على وظائف النص الاخرى ليتسم بالشعرية التي جعلت الوظائف الاخرى هامشية لتكريس خطابها ووظيفتها المتجاوزة ظاهر نص الواقع ، فقد تظافرت موجهات الوظيفة المرجعية والخطابية وكذلك المستوى اللغوي العامي المتضمن المادة الشعرية لأغاني الراحل سعدي الحلي لتقديم رؤية داخلية لما يحصل ويجري في الواقع المعاش ولعله هدف الرسالة التي اراد توصيلها الشاعر موفق محمد وبالإمكان ملاحظة التوصيف الشعري لجميع نصوص الشاعر منذ ديوانه الاول "عبديئيل" لذلك بدا الواقع النصي الذي كرسته القصيدة هو غير الواقع المعيّش المنظور والملموس فاكتسبت الاحداث والاسماء والامكنة خاصية شعرية مؤثرة متجاوزة الحدود المرئية والمكتشفة ليقدم نصا جديدا بتفاصيله الواقعية وفق رؤية شعرية فالإفصاح هنا ابتعد عن منح القصيدة صفتها التوثيقية ليكرس رؤية النص الشعرية "سعدي/ أيها الحلي/ المخبوز في تنانير سومر وأكد/ ومازال جمرها يتقد في جبينك...". فالنص يمتد بصوت سعدي الحلي الى امتداده الرافديني ليمنحه الكثير من الاصالة وامكانية ان يكون المعبر عن النواح العراقي منذ ذلك الوقت ، انعكاسا لحالة الحزن العراقي المعاصرة وليكون هذا الصوت محتدا في ميادين القتل والاقصاء الوجودي لشخصية الفرد العراقي وعلى المستوى الجمعي ايضا تعد تجربة هذه القصيدة "سعدي الحلي في جنائنه" استمرارا لأسلوب شعر موفق محمد في مقاربة الهم العراقي ومحايثة لواعج النفس العراقية المنتهكة منذ ديوانه الاول حتى الان.