ادب وفن

في الذكرى الثانية والثلاثين لاستشهاد قنديل بعقوبة الأخضر / جاسم ملا ابراهيم

هناك.. في بستان خالهِ بالهويدر ما تزال قصائده ناطرةً تنتظرُ الغائب الذي لن يعود.. ولم تزل عند الغروب يسيسها نهر ديالى الحزين مواكبَ أقمارٍ ودموع إلى بهرزَ الشعرِ والشعراء التي بضياء فجرها الندي تحممَ ذاكَ الملاكُ المؤَنسنُ يوماً.
"شاعرٌ وإنسانٌ من طراز الكبار" كما قال عنه الشاعر ابراهيم الخياط و"قنديل يرسم بالمداد الأحمر ويُغني بصوتهِ الهادئ الرصين للغد الآتي" كما وصفه الراحل الكبير محي الدين زنكنة...
إنه لوركا العراق، حلمُ بعقوبةَ الذي لم يكتمل، فهل تعرف تلك اليد الغشوم جريمتها، كيف سرقت أيقونةً واستباحت قداحاً وطلع نخيل.
إنهُ بلسم الفقراء وجليسهم.. الشاعر الشهيد خليل المعاضيدي الذي ولد في بعقوبة سنة ١٩٤٩ حيث نشأ وترعرع.. تخرج في كلية الآداب جامعة بغداد مطلع سبعينيات القرن الماضي فعُين مدرساً للغة الانكليزية في متوسطة بعقوبة.. عمل في مجال الصحافة بجريدة "طريق الشعب" بعد أن تم فصله من التعليم عام ١٩٧٨ بسبب توجهاته السياسية والايديولوجية التي كان لخاله محمد الدفاعي الشخصية السياسية الديالية المعروفة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين دور كبير في بلورتها.. الدفاعي الذي كانت بستانه الساحرة الواقعة في ضاحية الهويدر عند انعطافة نهر ديالى بإتجاه مدينة بعقوبة جنة المعاضيدي وساقيته الفكرية.. إذ كانت تنعقد فيها أمسياتٌ ثقافية وفكرية بهيجة يحضرها كبار أدباء ومثقفي بعقوبة في ذلك الوقت.
لقد أُعجب المعاضيدي بأبي تمام كما شُغف بشعر عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف فكان أحد دواوينهما لا يكاد يفارقه أبداً في حله وترحاله.. ولإجادته اللغة الانجليزية فقد أطل على منجز كبار الشعراء الكاتبين بهذه اللغة أمثال والت وايتمان "١٨٩٢/١٨١٩" رائد الشعر الأمريكي كما يسمى، وعزرا باوند "١٩٧٢/١٨٨٥" أحد أهم شخصيات حركة الحداثة في الأدب العالمي أوائل وأواسط القرن العشرين، كما انبهر بتجربة الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو "١٨٩١/١٨٥٤".
أما قصائده فقد انطوت على سيرته وعكست شخصيته في أدق تفاصيلها، فلم يكن ينظر الى الحياة من نواحيها النظرية المجردة بل من نضح معاناة ومعايشة للإنسان في لهاثه لصنع الحياة مجسداً شخصية "المثقف العضوي" الذي عبر عنه غرامشي في دفاتره.
ويتماهى بطين العراق فينشد في قصيدته "هكذا نلبس الموت قبعة":
"يأخذنا سفح حمرين نحو التفرد والحبّ
نفضي الى هكذا وطن طيب، يصطفي العشبُ أبناءه
مثلما تستفيق البيوت المعراة عند احتدام الصراع المبارك
ذا وطن نرتوي نكهة الخبز منه ونجترع الموت بين أصابعه لذة"..
ولم يعرف المعاضيدي عن قرب سوى سعيد حسين عليوي "سعيد الشفتاوي" صديقه و"معادله الموضوعي" كما كان يدعوه حيث يقول:"سعيد وهند معادلي الموضوعي ليس في الشعر حسب بل في وجودي أيضاً".. وعندما سأله أحد الأصدقاء عن سبب حبه الطافح لسعيد، أجاب:"أتدري لِمَ أُحبّ سعيداً؟ سعيد يكسر رتابة هذا الواقع المخادع الكاذب.. واقع السفلة".
لينكشفَ عنه الغطاء في قصيدته "قصة":
"يسقط الكوكب المستباح
طلقةٌ بين ضلعي والرياح
أفنبوءةُ قديسٍ كانت أم ماذا"؟
فقد اختطفته تلك اليد الآثمة بعد خروجه من داره الذي كان يقع خلف مطعم عاشور الحالي أو ربما المطعم جزء منه، هو وكوكبة من البعقوبيين الشرفاء "مصطفى الديو، قيس الرحبي، كامل كلاز وشاكر الخشالي".. تقول شقيقته أم عادل:
"اختطفوه وأروه حوضاً رموا فيه قطعة من اللحم فذيبت ثم هددوه بأن يُرمى كتلك القطعة.. بعد ستة أيام أُختطف مرة أخرى فلم يُعرف له طريق سوى أنهم خصصوا له راتباً تقاعدياً رفضت الوالدة "رحمها الله" إستلامه".. ليُعلم فيما بعد إنه قد تم إعدامه بموجب قرار محكمة قرقوش رقم ٣٣٢ الصادر بتاريخ ١٧ نيسان ١٩٨٤.
فهل تذكرُ هندٌ خالها الذي أحبها كما لم يُحب أحداً؟
وهل عَرف خريسان إنّ الذي أحبه لا يُعرَف لهُ قبر فهو مسجى في مكان ما تحت ثرى هذا العراق الطافحُ بالدم.
نم سعيداً أنى كنت فبعقوبة لن تنسى فتاها..