ادب وفن

في "الثقافة الجديدة": فاضل ثامر: عبد الرحمن منيف ومساءلة وهم التاريخ

الحزب الشيوعي العراقي
( ماتع )
ناقد، بكالوريوس لغة انجليزية جامعة بغداد، دبلوم الدراسات العليا في اللغة الإنكليزية من ليبيا 2001 وأعد أطروحة الماجستير في اللغة الإنكليزية تحت عنوان: "مقاربة لسانية لتدريس السرد في ظروف ما بعد الكولونيالية" وينتظر فرصة مناقشتها، شارك في العشرات من المؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية العراقية والعربية والعالمية.
أولى مقالاته المنشورة كانت عام 1965 في مجلة "الآداب" البيروتية، اصبح عضوا في الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء في السبعينات وعضوا في هيئة تحرير مجلة "الأديب المعاصر".
من مؤلفاته: "قصص عراقية معاصرة" مع الناقد ياسين النصير، بغداد 1970، "معالم جديدة في أدبنا المعاصر"، بغداد 1975، "مدارات نقدية: في إشكالية الحداثة والنقد والإبداع"، بغداد 1987، "الصوت الآخر": "الجوهر الحواري للخطاب الأدبي"، بغداد 1992، "اللغة الثانية: في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث"، بيروت 1994، رواية مترجمة بعنوان "الحديقة" للفرنسية ماركريت دورا، دار الشؤون الثقافية عام 1986ببغداد، "المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي"، دار المدى في دمشق 2003.
حاليا رئيس اتحاد أدباء العراق.

روايتا عبد الرحمن منيف "مدن الملح" (1) بأجزائها الخمسة و"أرض السواد" (2) بأجزائها الثلاثة تضعنا وجها لوجه أمام مقولة جورج لوكاش التي يرى فيها ان الرواية, جنسا أدبيا جديدا – تمثل ملحمة العصر البورجوازي, وذلك لانطوائها على الكثير من الملامح الاجناسية التي ورثتها من الملحمة الكلاسيكية ومنها هذا الاتساع البانورامي للإحداث والشخصيات والأماكن والأزمنة.
فالقارئ يحس بالدهشة والانبهار وهو يلاحق الروائي الذي يمسك ببراعة هذا الحشد الهائل من الشخصيات والأحداث والحبكات والفضاءات والأزمنة الروائية و يحرك كل الخيوط السردية التي نسج منها هذا الفضاء الروائي الضاج بالحياة والصيرورة والتحول.
واذا ما كان الفضاء الروائي العريض لخماسية "مدن الملح" هو الصحراء والرمل والبادية, وهي عوالم ألفها وعاش فيها المؤلف, فهو يفاجئنا بقدرته على قراءة التاريخ العراقي في العهد العثماني وإعادة صياغته سرديا وتخييليا في ثلاثيته "ارض السواد" حيث تتشكل الرواية في فضاء روائي مديني وحضري, دون ان تغيب صورة الصحراء والبادية والريف عن الحضور أيضا.
وهذا النفس الملحمي في روايتي عبد الرحمن منيف يذكرنا بعدد من الأعمال الروائية الكلاسيكية الكبرى التي كشفت عن مثل هذه الملامح الملحمية ومنها مثلا رواية "الحرب والسلام" للروائي الروسي ليو تولستوي.
لكننا, من الناحية الأخرى, علينا ان لا نستسلم كليا لإغراء القبول بملحمية هاتين الروايتين, لأننا في واقع الأمر, أمام مظهر أجناسي مستقل هو فن الرواية, له مقوماته السردية والرؤيوية الخاصة وحتى وان ألتهم أثناء تشكله الكثير من مقومات ومكونات وملامح أجناس ادبية وفنية واجتماعية أخرى, لذا علينا التعامل مع هاتين الروايتين بوصفهما تنتميان إلى اجناسية السرد الروائي, لأن الرواية الحديثة تخلت إلى حد كبير عن هذا الاتساع الملحمي العريض ومالت إلى التكثيف والقصر, وان حاولت أحيانا, ان تعوض هذا الاتساع الملحمي بالاشتغال على رواية الأجيال أو رواية النهر والتي وجدنا لها مثالا مرموقا في الرواية العربية الحديثة يتمثل في ثلاثية نجيب محفوظ.
وفي الحقيقة تنطوي روايتا عبد الرحمن منيف هاتين على الكثير من ملامح رواية الأجيال, حيث التعاقب الملحوظ في الفعل الروائي لأفراد أسرة معينة على امتداد سلسلة زمنية محددة.
كما ان اشتباك الروائي مع التاريخي له خصوصيته، فإذا ما كان يقترب إلى حد كبير من وقائع السجلات التاريخية المدونة لفترة حكم داود باشا في العراق في "ارض السواد" ويضع النقاط على الحروف فهو يميل في "ارض الملح" إلى لون من التمويه الرمزي للوقائع والسجلات التاريخية, حتى تكاد الرواية ان تتحول إلى اليغوريا allegory رمزية تقوم بتفكيك الوقائع التاريخية وإعادة تركيبها أو صياغتها عبر منظور تخييلي وافتراضي, لايخلو من غائية رؤيوية.
فالوقائع التاريخية في هذين العملين ليست للتوثيق التاريخي أو لتأكيد مدى مطابقة الواقعة التاريخية للواقعة السردية, بل تهدف إلى استخلاص دلالات سيميائية معينة وانساق ثقافية عمد المؤلف بمهارة لإخفائها أو طمسها لأسباب فنية أو إيديولوجية, حيث تزيد كثافة المسكوت عنه أحيانا عن كثافة المنطوق والمدون في السرد التخييلي الروائي، ولكي لا نقع في افتراض ان الروائي قد استسلم لمركزية التاريخي فنحن نذهب إلى كفاءة وكثافة ما هو تخييلي وافتراضي وتلفيقي في تحريك الوقائع التاريخية، فالمؤلف أنما يكتب تاريخا بديلا لأنه لم يقتصر على تدوين التاريخ الأعلى للحكام والقادة والعسكريين وإنما دون تاريخا افتراضيا للمقهورين والبسطاء والمنسيين الذين يقبعون في قعر التاريخ, والذين غالبا ما يتجاهلهم المؤرخون الرسميون مع انهم الصناع الحقيقيون للتاريخ ويمتلكون القدرة وكما كشفت هاتين الروايتين على ان يقلبوا الطاولة في لحظات معينة, ويحولوا عجزهم وقهرهم إلى فعل ثوري مغيّر ينسجم مع مقولة الناقد الفرنسي لوسيان غولدمان بإمكانية تحويل "الوعي القائم" – وهو في الغائب وعي سكوني ومتخلف إلى "الوعي الممكن" وهي وعي متمرد ورافض وثوري أحيانا.
وعبد الرحمن منيف لم يكن غائبا عن إشكالية الدخول في لعبة إعادة صياغة تاريخ بديل اذ وجدنا في مستهل الجزء الثالث من "مدن الملح" إشارة إلى انه في "وقت الهزائم وفي المنافي, يطيب الحديث عن التاريخ أو وهم التاريخ" هذا الوعي لمساءلة "التاريخ أو وهم التاريخ" هو الذي دفعه إلى استقراء الوضع التاريخي في مطلع القرن العشرين وتحديدا بالتزامن مع الحرب العالمية الأولى: "في ذلك الزمن كل شئ مطروح لإعادة النظر, لإعادة القسمة : الأفكار, المناطق والدول وحتى الملوك والسلاطين والأمراء الصغار، دول تنهض فجأة وأخرى تغيب" (3) انه يكتشف بحدس الروائي صورة العالم آنذاك "هكذا كان العالم في مطلع هذا القرن" (4) وهو ما سبق وان تحدث عنه في مقدمة كتبها لإحدى طبعات مدن الملح حول مهمة الرواية:
"مهمة الرواية, أية رواية, رصد التحولات التي تأتي نتيجة حدث كبير وقراءة انعكاسات هذا الحدث على البشر سواء في المركز أو المحيط، ولان هذه هي مهمة الرواية , فأنها لا تنشغل بالتنظير لما حدث ولا تعطي حكم قيمة .." (5) ويؤكد عبد الرحمن منيف وظيفة الرواية هذه بالقول: "في مواجهة مثل هذه الأسئلة الكبيرة تجد الرواية مادتها وتحديها في آن, لا لتقدم الوعظ أو الفكر الإيديولوجي وإنما لتعرض الحياة ومعاناة البشر وأحلامهم, ولتفسح المجال أيضا كي يقال ما جرى, لتكون في النهاية شهادة عن المرحلة التاريخية". (6)
بمثل هذا الوعي واجه عبد الرحمن منيف تحدي "التاريخ ووهم التاريخ" واشتغل بأناة وصبر من خلال الوصف والعرض والمشاهدة الروائية الحية والمرويات والحوارات الشعبية وأجرى حفريات عميقة في تربة الواقعة التاريخية, مقلبا إياها عدة مرات ليكشف عما هو جوهري ودال ومؤثر فيها, لكنه في النهاية نجح حقا في ان يقدم شهادته الصريحة والشجاعة والأمينة للتاريخ والواقع من خلال عمل فني يكتنز بالتخييل مثلما يكتنز بوقائع تاريخية ضاجة أعادت صياغة الخارطة السياسة والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المنطقة. تركز الروايتان, من خلال استقراء للقوى الاجتماعية والصراعات الجوهرية على قوة الصدمة التي سببتها الحضارة لمجتمع بدوي ساكن في "مدن الملح" وقوة الصدمة الناجمة عن عنف السياسة والصراع على السلطة في "ارض السواد" وربما ما عمق من شدة الصدمة الحضارية في "مدن الملح" انها جاءت مفاجئة وسريعة وبفعل خارجي و وليس من خلال نمو طبيعي داخلي ومتدرج لمظاهر الحضارة والتكنولوجيا كما هو الحال في التشكلات الحضارية التقليدية, فالمدن الحديثة مثلا تنشأ لتحقيق وظائف معينة تجارية أو صناعية اوسياسية وحيث يتحقق تراكم تدريجي ينقل المجتمع من حالة اقتصادية طبيعية إلى حالة اقتصادية مركبة ومعقدة، إما ما حدث في "مدن الملح" فهو الانتقال المفاجئ من مجتمع البداوة إلى مجتمع مديني وحضاري بفعل اكتشاف النفط، فواحة صغيرة وادعة مثل "وادي العيون" (7) كانت محطة استراحة لقوافل التجار والبدو, لتجد نفسها فجأة أمام هدير الآلات الضخمة ومظاهر التكنولوجيا الحديثة، وهذه الصدمة اقترنت أيضا بإزاحة الناس عن بيوتهم واقتلاعهم من جذورهم وفرض التهجير عليهم إلى أماكن أخرى لاستغلال أراضيهم لإقامة منشات الشركات النفطية العملاقة، كما ان قرية صغيرة هي "حوران" (8) تتحول إلى مدينة عصرية بغمضة عين, بينما تصبح مدينة "موران" مدينة سياسية لصياغة القرارات السياسية الخاصة بتقاسم السلطة والثروة والهيمنة بالتحالف مع ممثلي شركات النفط ودولهم، كما اقترن ذلك بظهور طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة العمال الذين كانوا يعملون في خدمة شركات النفط, مما اكسب الصراع الاجتماعي وجها اخر للصراع الطبقي والوطني ضد شركات النفط, من خلال النضالات العفوية لعمال النفط ضد تعسف الشركات النفطية واستغلالها البشع لطاقات المنتجين الحقيقيين للثروة، وهذا ما حول الجزء الأول من "مدن الملح" إلى فعل مقاومة صريح ضد هيمنه شركات النفط، ويمكن القول ان الصدمة الحضارية في الروايتين قد كشفت عن صراع بين ثنائية ضدية انثروبولوجية واجتماعية اشرها كلود ليفي شتراوس بين الطبيعة والثقافة أو, النيئ والمطبوخ وهي ثنائية وجدنا لها ايضا تجليا في روايات الروائي الليبي إبراهيم الكوني, والمتمثلة في رفض البدوي أو القروي الذي عاش ضمن اقتصاد طبيعي وعلاقات بطرياركية وادوات انتاج بسيطة لكل مظاهر التحضر والتشكل ألمديني بما فيه من علاقات إنتاج جديدة ومعدات تكنولوجية وعلاقات اجتماعية ومظاهر استهلاكية باذخة.
في هذا الفضاء البانورامي, الملحمي العريض لكلا الروايتين صاغ الروائي العشرات من الشخصيات الرئيسة والثانوية التي شغلت الفضاء التاريخي والروائي, دون ان نلحظ ظهور شخصيات مركزية على امتداد الروايتين, حتى بات بالإمكان الحديث عن ملمح البطل الجماعي بدل البطل الفردي، ويبدو ان عبد الرحمن منيف كان ينطلق من وعي بهذا القصد , فقد تحدث مرة عن مفهومه للبطولة الروائية بالقول".
"ان بطل الرواية الفرد, الذي يملا الساحة كلها, وما الآخرون الا ديكور لإبراز وإظهار بطولاته, ان هذا البطل الوهمي الذي سيطر على الرواية العالمية فترة طويلة, آن له ان يتنحى, وألا يشغل إلا ما يستحقه من مكان وزمان، وهنا يظهر مفهوم جديد للبطولة الروائية, حيث يتعاقب الناس, الإبطال, كمياه النهر الجاري, بحيث لا يتوقف الواحد منهم أكثر مما يحتمل المشهد أو الحالة, فاسحاً المجال, بعد ذلك, لكي يأتي الآخر البديل, المكمل, ويواصل المشوار – الحياة". (9).
بمثل هذا الوعي السردي والرؤيوي يصنع عبد الرحمن منيف بطله الجماعي، وليس معنى ذلك انه لم يصنع إبطالا فرديين، فرواياته السابقة "شرق المتوسط" و "حين تركنا الجسر" و "سباق المسافات الطويلة" و"عالم بلا خرائط" تحفل بالبطولات الفردية، كما ان روايتاه الملحميتان تزخران بشخصيات مركزية, لكنها لا تشغل الفضاء الروائي بكامله، فبعد ان تؤدي دورها على مسرح الأحداث تفسح المجال لظهور شخصيات أخرى بديلة تكمل الرسالة ذاتها عبر مسارات متجددة، فشخصية "متعب الهذال" هذا البدوي الفطري والتلقائي الذي هيمن بحضوره على الجزء الأول من رواية "مدن الملح" سرعان ما يتخلى عن دوره لشخصيات أخرى منها ولده فواز الهذال الذي يواصل مسيرة الأب المتمردة والرافضة للوجود النفطي الأمريكي الذي دمر الهوية البدوية وأزاح البدوي عن أرضه وتدخل في حريته وخياراته وأحلامه البريئة.
ان عبد الرحمن منيف في تعامله مع التاريخ في خماسية "مدن الملح" وثلاثية "ارض السواد" لا يتناول التاريخ الرسمي بصورته المجردة, بوصفه سجلا سياسيا واقتصاديا, وتاريخيا لانتصارات الحكام والسلاطين والولاة, وإنما يتجاوز ذلك لتجسيد ملامح الحراك الاجتماعي مهما ضؤل وبدايات تشكل الحركات الاجتماعية المتمردة والرافضة لسلطة الهيمنة الخارجية وللطغيان، ولذا يتحول عمله إلى سرديات للتاريخ الاجتماعي والحضاري وللرموز والشخصيات والمعالم الانثروبولوجية المكونة للقاع الاجتماعي بكل ما ينطوي عليه من ثراء وتناقض وتوحش ورقة، ويحقق عبد الرحمن منيف ذلك بوضع مسافة جمالية بينه وبين الواقعة التاريخية, وأحيانا من خلال ترميزها بمسميات ومدن وشخصيات افتراضية متخيلة مثلما فعل في "مدن الملح" وقد يواجه التاريخ الرسمي بمسمياته ومعطياته لكنه يمنحه بعداً اجتماعياً ويومياً من خلال سلسلة من المرويات الحسية والمشاهد الحية التي تكشف عن الإحداث السياسية الكبرى مثلما فعل في رواية "ارض السواد"، وهذا المنحى يشبه إلى حد كبير منهج عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي في كتابه السوسيو – تاريخي المهم "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" (10) والذي ركز فيه على التاريخ الاجتماعي والحضاري لطقوس الناس وحياتهم وعاداتهم دونما تركيز كبير على السجل السياسي الرسمي الذي يتحول إلى مدخل أو توطئة لاكتشاف تضاريس التاريخ الاجتماعي والانثروبولوجي والثقافي الشعبي ولسيرورة الحركات الاجتماعية الناهضة ولمظاهر الحراك الشعبي المختلفة.
لقد نجح عبد الرحمن منيف في ان يقول أشياء كثيرة وخطيرة, ولكن ليس بطريقة مباشرة أو من خلال سلطة الرواية المونولوجية أحادية الصوت وإنما من خلال نزعة بوليفونية تعددية منحت الشخصيات الروائية الحرية الكاملة للتعبير عن وجهات نظرها وأفكارها وتطلعاتها فجاء عمله بمثابة منبر حي وديمقراطي للتنوع والاختلاف، للرأي، وللرأي الأخر، ويمكن الزعم ان الروائي لم يكن محايدا ومتفرجا على مصائر شخصياته, بل كان يقدم من خلال المرويات والمونولوغات والأصوات الغيرية مجموعة من الرؤى التي تنتصر للإنسان البسيط وهمومه وترفض كل مظاهر الاستبداد والتسلط والقبح وتشير دائما إلى أفق واضح للتغيير لصالح الإنسان، وأحيانا من خلال إنذار قوى الاستبداد بنهايتها الحتمية مثلما عبر عن ذلك عمر زيدان في ختام الجزء الخامس من "ارض الملح" وهو يعبر عن غضبه لاعتقال ابنه الوحيد ناصر عندما وقف وسط شارع التجار و هويصيح :
"على بالهم انه ماذا اخذوا ناصر خلصت الدنيا ؟ لا غلطانين وواهمين ... وهذا التاريخ دونكم أقروه زين, إلف حاكم جا وراح ... ويجي يوم ما تنفع الملامة والندم" (11) بل استشهد عمر زيدان متحديا ببيت شعر مشهور للشاعر العراقي الكبير محمد الجواهري "أننا حتفهم الج البيوم عليهمو" (12 ) وتنتهي "مدن الملح" بحوار هدلة الفرحان وحمد الدولعي عن الناس الذين "يشوفون "والذين "ما يشوفون":
"الناس شافيين كل شي, ياهدلة بس يلزم غيرهم يشوف ويسمع".( 13)
لقد كان صوت المواطن الرافض المتمرد والثائر عالياً منذ البداية وتحديداً من خلال موقف متعب الهذال احد شيوخ وادي العيون في الجزء الأول من الرواية الرافض للوجود الأمريكي ولزحف شركات النفط :
"بعد سبعة عشر يوما رحل الأميركيون ومعهم الدليلان, لكن رحيلهم هذه المرة لم يقنع متعب الهذال واعتبره دليلا على الشؤم، (4 1) وتحول متعب الهذال إلى رمز لرفض الهيمنة الأمريكية النفطية وأصبح كابوسا يقلق شركات النفط، وعلى الرغم من غيابه ,لكن عمال النفط المتمردين في حوران يؤكدون أنهم رأوه وهو يقاتل إلى جانبهم ضد حراس شركة النفط (15 )، كما استمر فواز ابن متعب الهذال وابن عمه صويلح في العداء للأميركان حيث قال الأخير:
"الله يلعن الاميركان وأبو الاميركان .. جاءوا وجاء معهم كل البلاء"، (16 ) كما نجد ان شخصية ابن نفاع من الشخصيات المؤثرة في حوران والتي كانت تناصب الوجود الأميركي العداء، وكان يقول بصوت عال:
"قلت لكم, الاميركان هم العلة, هم أصل البلاء" (7 1) كما كشفت الرواية في حركتها نضج وتصاعد حركات الاحتجاج ضد الوجود الاميركي النفطي وضد مظاهر القمع التي تمارسها السلطات المحلية ضد الناس.
كما كشفت ثلاثية "ارض السواد" من جانبها عن رفض الشارع العراقي لمحاولة القنصل البريطاني (ريتش) التدخل في الشأن الداخلي والتآمر لفرض إرادة الإدارة البريطانية التي كانت تخطط منذ ذلك الوقت لاحتلال العراق، وما دعم الشرائح الشعبية لمواقف الوالي داود باشا الا تعبير عن رفض التدخل البريطاني في الشأن العراقي, والذي انتهى باضطرار القنصل البريطاني إلى تقديم استقالته ومغادرة العراق بعد ان أوصدت أمامه كل طرق التدخل والتأثير في سياسة العراق آنذاك, وسط تهليل شعبي بإلحاق الهزيمة بالنفوذ البريطاني:
"ولان الانفعال بلغ أقصاه، خاصة في صوب الكرخ , لما عرف الناس بقرب سفر القنصل, فان الهوسات والتجمعات حول بستان زيدان زادت عن الحد وكلها تحرض على استعمال المدفع"، ( 18).
لقد كانت الرواية تكشف عن انحياز صريح للجماهير الشعبية وتطلعاتها والتي كانت ترفض تدخلات القنصليتين الفرنسية والبريطانية في الشأن العراقي, كما كانت الرواية تنحاز إلى جانب الناس في صراعهم ضد الاستبداد والقمع والاضطهاد الذي كانت تمارسه السلطات العثمانية, وان وجدت شخصيا محاولة غير مبررة من قبل المؤلف لإظهار شخصية الوالي العثماني داود باشا بانها تشبه شخصية محمد علي باشا في نزعته الاستقلالية عن الدولة العثمانية ورغبته في تحقيق إصلاحات جذرية في المجتمع العراقي، لكني اعتقد ان هذه الصورة غير واقعية وقد قادت إلى اهمال المؤلف تسليط الضوء على مساؤئ الإدارة العثمانية ومعاملتها للمواطن العادي بوصفه يمثل الرعية وليس المواطنة من خلال خلق طبقات وشرائح طفيلية غنية من العسكريين والإداريين والتجار وبعض رجال الدين على حساب اضطهاد وتجويع الناس واستعبادهم.
وعلينا ان نعترف بوصفنا كتابا عراقيين, بان الروائي عبد الرحمن منيف قد كتب روايته هذه بروح المحبة والإخلاص للشعب العراقي وانه قدم بذلك درسا بليغا للروائيين العرب بشكل عام والعراقيين منهم بشكل اخص في كيفية إعادة استنطاق وقراءة وفهم التاريخ القديم والحديث، وقد وجدنا بعض أصداء هذا الدرس في ورايات الروائي العراقي عبد الخالق ألركابي وبشكل خاص في روايته "مقامات إسماعيل الذبيح" (19) وبعض روايات الروائي العراقي علي بدر وخاصة في ورايته "الوليمة العارية" (20).
تثير روايتا "مدن الملح" "ارض السواد" الملحميتان مجموعة من الأسئلة المهمة حول البنية السردية والدلالية وبناء الشخصيات وحركة الزمن فضلا عن الأنساق الثقافية المغيبة التي تنطوي عليها الروايتان، تتكون رواية "مدن الملح" من خمسة أجزاء تحمل عنوانات فرعية هي: التيه والأخدود وتقاسيم الليل والنهار والمنبت وبادية الظلمات, لم أجد مبررا دلاليا أو سياقيا أو سيميائيا واضحا لهذه التسميات, لأنها لا تضيف شيئا جديدا للفضاء الروائي، كما تنطوي كل رواية على عدد كبير من الفصول والمشاهد غير المرقمة التي تفصل طباعيا, مما يجعل الرواية تتحرك خطيا عبر نسق زمني كرونولوجي متصاعد, وقد يقطع جزئيا وبصورة محدودة من خلال الاستذكارات والفلاش باكات لكن ذلك لا يخل بالمسار الخطي لحركة الزمن.
وتحسب للمؤلف قدرته على ضبط حركة الشخصيات والأحداث ضمن هذا الفضاء الروائي المتسع والذي يجعل الأحداث تنساب وتتصاعد عضويا على امتداد حوالي ألفي وخمسمائة صفحة وكانما نحن امام عمل روائي اعتيادي، ويتم الربط الزمني غالبا من خلال ملاحقة حدث معين أو حركة شخصية ما أو عبر عملية بحث ما، ولكننا نجد ان المؤلف أحيانا يلجأ إلى قفزات زمنية قد تقاس بالأشهر اوبالسنوات من خلال أشارات سردية لحركة الزمن منها مثلا:
"بعد أسبوعين مليئين بالعذاب والانتظار, والمرض بدأوا رحلتهم" (21) .
"بعد أربعة أشهر من العمل المتواصل تم تعميق البحر وتوسيع الميناء" (22) .
"أربعة أشهر متوالية لم يهدأ خلالها السلطان أو أحد من رجاله" (ص 23).
"خلال أكثر من شهر لم تهدأ الحركة ولم تتوقف .. "( 24).
"لم تمض شهور على تسلم فنر السلطة حتى قالت فريزة خانم لابنتها .. (25) كما نجد أسلوبا مماثلا في "ارض السواد":
"وجاء ربيع آخر بعد شتاء طويل, وداود باشا أنشغل بأمور عدة" (26).
"كان قد مضى شهر على عودة ناهي زبانة إلى كركوك" ( 27 ).
"بعد ذلك الشتاء الطويل المضني, جاء آذار ومعه أول نسائم الربيع" ( 28 ).
لكننا لاحظنا, خلافا ًلرواية "مدن الملح" ان رواية "أرض السواد" تضم فصولا مرقمة يبلغ عددها الكلي مائة وستة وثلاثين فصلا يربو عدد صفحاتها حوالي إلف وأربعمائة صفحة، ويخيل لي ان المؤلف قد أدرك عدم جدوى وضع عنوانات فرعية للأجزاء الثلاثة مثلما فعل في "مدن الملح" ولذا تركها غفلاً مقتصراً على عنوان الرواية الرئيسي ورقم الجزء فقط.
في هاتين الروايتين يحتل المكان أو الفضاء الكرونوتوبي بمصطلح ميخائيل باختين مكانة خاصة بوصفه بؤرة دلالية وسيميائية تسهم إلى حد كبير في تحديد مسار الأحداث، فالجزيرة العربية هي الحاضنة المكانية لحركة الأحداث والشخصيات في "مدن الملح" من خلال هيمنة الصحراء على الفضاء الروائي: الصحراء ليس بوصفها طبيعة جيولوجية خالصة بل بوصفها ثقافة ومفاهيم وتقاليد راسخة حاولت قدر ما تستطيع أن تقاوم اجتياح شركات النفط لبراءتها وعذريتها وفطريتها، كما يتعالق الزمن مع المكان في لحظة تاريخية معينة تشغل بداية القرن العشرين وتشكل الدولة ونشوء المدن وبداية عصر النفط ومنشاته العملاقة.
وإذا ما كانت الجزيرة العربية هي الفضاء الكرونوتوبي في "مدن الملح" فان ارض السواد, والتي هي تسمية قديمة لأرض العراق الزراعية الخضراء هي الفضاء الكرونوتوبي لرواية "ارض السواد" مع تركيز خاص على بغداد بوصفها عاصمة تاريخية وحضارية مهمة، حيث يسهم تعالق المكان والزمان في لحظة تاريخية محددة هي فترة حكم الوالي العثماني داود باشا للعراق خلال القرن التاسع عشر في تشكيل وتحريك الأحداث الروائية وظهور الشخصيات الأساسية في الرواية, مع ملاحظات ان هذا الفضاء مديني وحضري في الغالب على الرغم من وجود أطراف ريفية وبدوية وجبلية على أجنحة المكان المركزي الفاعل، وهذا الأمر اكسب الشخصيات ملامح ومواقف وعلاقات مغايرة تماما عن تلك التي وجدناها في "مدن الملح"، وتكاد ان تكون ملامح الشخصية البغدادية هي المهيمنة على الخصوصيات السلوكية لشخصيات أثنية أو عرقية مغايرة يفترض فيها ان تحمل ملامحها الخاصة بها، ومن مظاهر هذا التعميم السلوكي الذي انسحب على الشخصيات اكتساب معظم الشخصيات العثمانية والكوردية والتركمانية واليهودية والمسيحية ملامح الشخصية البغدادية, وأحيانا لهجتها وطريقة كلامها، فقد كان داود باشا, الوالي التركي المتعصب لأصوله التركية والطورانية يتصرف كأي شخصية بغدادية من خلال السلوك واللغة والتفكير، فكنا نراه ينطق بلهجة بغدادية لا تختلف عن لهجة أبناء المقاهي الشعبية في الرصافة والكرخ, وهذا الأمر, كما هو معروف مخالف للواقع, فقد كان الولاة والقادة العثمانيون يحرصون على التحدث بالتركية ويحاولون فرضها على الشعب العراقي من خلال سياسة التتريك التي كان يمارسها الاحتلال العثماني, ان المؤلف دون ان يعي ذلك, أنما عمد إلى تجميل صورة داود باشا والكثير من الشخصيات العثمانية من خلال إنزالها سلوكيات منزلة الفرد البغدادي المتسامح والشفاف والميال للنكتة والمزاح والانفتاح بخلاف الشخصية العثمانية المتعجرفة في الغالب والمتسلطة على كل شئ.
وإذا ما آثر عبد الرحمن منيف ان يدخل الفضاء الروائي التاريخي في مدن الملح" مباشرة من خلال حركة الشخصيات وردود أفعالها في "وادي العيون" فهو يعمد في "ارض السواد" إلى إيراد مدخل تاريخي يحمل عنوان "حديث بعض ما جرى" (29) وهو أصلا غير مرقم, وربما يمثل عتبة نصية تضاف إلى العتبات النصية الدالة التي سبقته، ففي هذا الاستهلال نجد تقديماً تاريخياً يمهد للدخول إلى المجال التاريخي للأحداث الروائية, وهو أيضا يلتقي مع التعريف الذي دونه الناشر على مطوية الغلاف الرئيسي من تأطير للمرحلة التاريخية التي تتحرك فيها أحداث الرواية وشخصياتها، ولا يمكن ان نظلم هذا الاستهلال بوصفه نصاً تاريخياً فهو يشكل بصورة غير مباشرة جزءاً عضويا من الرواية أسوةً بالعتبات النصية التي سبقته.
روايتا عبد الرحمن منيف الملحميتان "مدن الملح" و"أرض السواد " تقدمان أنموذجا سردياً متقدما في التعامل مع التاريخ, ومع ما يسميه الروائي "وهم التاريخ" يصبح فيه التاريخ سرداً كما يذهب إلى ذلك المؤرخ الأمريكي هايدن وايت وهذا السرد هو إلى حد كبير سرد بديل ينسخ بشجاعة التواريخ والسجلات الرسمية المزورة.
الهوامش:
1- منيف،عبدالرحمن "مدن الملح" ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت (ط 2) 1985.
2- منيف،عبدالرحمن "ارض السواد"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت (ط12 ) 2008
3- المصدر السابق، ج3 ،ص 9-11.
4- المصدر السابق، ج3،ص11.
5- المصدر السابق، طبعة روايات الهلال ، ج1 ، 1998 ، ص 16.
6- المصدر السابق،ص 17.
7- المصدر السابق، ص 19.
8- المصدر السابق، ص188.
9- المصدر السابق، طبعة روايات الهلال (ج1) 1998، ص 8-9.
10- الوردي، د.علي "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" دار ومكتبة المثنى (ط1) بغداد، 2005
11- منيف ، عبد الرحمن "مدن الملح" (ج 5 )، ص 581 .
12- المصدر السابق، (ج5)، ص581.
13- المصدر السابق، (ج5)، ص 586 .
14- المصدر السابق،(ج1) ص 46 .
15 – المصدر السابق، (ج1)، ص 572 .
16 – المصدر السابق (ج1)، ص 191.
17- المصدر السابق، (ج1)، ص 537
18- منيف، عبد الرحمن "ارض السواد" (ج3) ص 308.
19- الركابي، عبد الخالق "مقامات اسماعيل الذبيح "
20 ـ بدر، علي "الوليمة العارية " منشورات الجمل، كولونيا، المانيا .
21- منيف، عبد الرحمن" مدن الملح " (ج 1)، ص 124 .
22- المصدر السابق، ص315 .
23 - المصدر السابق،(ج3) ، ص304 .
24 ـ المصدر السابق،( ج4 ) ص 548 .
25- المصدر السابق، (ج5) ص 296.
26 – منيف عبد الرحمن " ارض السواد"، (ج1) ص 245 .
27 – المصدر السابق، (ج 2)، ص421 .
28 – المصدر السابق،(ج3)، ص 114 .
29 – المصدر السابق (ج1) / ص 16 – 24 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 381
آذار 2016