- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 30 أيار 2016 19:33

هل للأديب مصادر ينهل منها ما يكتب من نصوص أدبية، شعر أو قصة أو رواية؟، وهل يمكن الوصول اليها ومعرفتها؟
تساؤل أراه قد جاء في وقته، ونحن ندرس تجربة القاص والروائي الراحل محسن الخفاجي القصصية.
ان كاتب القصة، كأي كاتب فن كتابي آخر، يعتمد مصادر مختلفة كي يكتب ما يريد، وهذه المصادر تتنوع وتتعدد، الا ان المصدر الرئيس فيها هو الواقع الذي مهما نضب فانه يبقى يزود الكاتب بما يريد.
ويبقى الواقع هو المانح الرئيس لكل المصادر الاخرى، اذ تبقى تلك المصادر ثانوية نسبة له، ومنها الماضي "السحيق والقريب" كزمن، والماضي كمخزون في الذاكرة، في طليعة المصادر الثانوية.
اما المستقبل فهو أيضا يعد مصدرا ثانويا، الا انه يعتمد الحاضر والماضي في تكوين صورته، اي انه يبنى ما يريد ان يبنيه بإدخال الحاضر والماضي في معمل المخيال ليخرج ما يمكن ان نسميه حوادث مستقبلية، كأن تكون قصة او رواية من الخيال العلمي مثلا.
ومن الماضي يمكن استلهام ما فيه من أشخاص وحوادث وأمور أخرى، اي جعل الماضي في استلهامه مصدرا للرواية أو القصة.
والمصدر الرئيس الثاني هو النتاج الذي سبق هذه القصة أو الرواية، أو رافقها، وبكل تجلياته الادبية وغير الادبية، وهو واقع أيضا، الا انه واقع لبس ثوبا آخر، فكان المدون في الكتب من خلال التناص معه.
إذن أمامنا مصدران رئيسان، احدهما الواقع بكل تجلياته، ويتفرع منه المستقبل، والحاضر، والماضي، والآخر وهو المدون في الكتب وهو أيضا واقع دخل في مخيال آخر وخرج بصورته التي تناص معها نص الكاتب.
محسن الخفاجي قاص وروائي ستيني كبير، وقد نشرت له عدة مجاميع قصصية، وكان في كل ما كتب ونشر من قصص وروايات ينهل مواضيعها، أو أفكار تلك المواضيع، من المصدر الرئيس الأول وهو الواقع، والمصدر الثاني وهو المدون الذي يتناص معه في الكتب بكل تجلياتها الادبية وغير الأدبية.
تأتي قصة "شارع الزواج في لكش" مثالا لاستلهام القاص التراث، اي من الواقع الماضي السحيق، إذ انه قدم في هذا النص قصة عن الحاضر بثياب الماضي، انه تناص تخيلي مع الاثار.
اما نص قصة "قناع بورشيا" فانها جاءت ممثله لتناص القصة القصيرة مع عمل أدبي من جنس آخر هو مسرحية "تاجر البندقية"، اذ تناص معها، وقدم القاص الخفاجي واحدة من القصص الفنية الناضجة.
اما التي استلهمت من الواقع الحاضر فكانت نصوص مجموعته القصصية "حمامة القنصل"، وهو عنوان احدى قصص المجموعة، والتي استلهمت من الماضي القريب للشخصية، اي ان القاص قد استمد موضوعاته من حقائق حياته الشخصية، من تجاربه وتجارب الآخرين، وكذلك حصل هذا في الكثير من النصوص السابقة لها التي ضمتها المجاميع القصصية الاخرى.
"حمامة القنصل" تضم نصوصا قصصية تعالج فترة زمنية محددة هي فترة سجن القاص في معتقل "بوكا" الامريكي في العراق، لأسباب غير معنيين بذكرها في هذه السطور.
ان النصوص التي ضمتها هذه المجموعة هي شهادة مغموسة بالألم والحزن الذي خلفه الاحتلال الامريكي للعراق، إذ انها تحكي لنا عن عالم آخر لم يألفه الخفاجي في حياته من قبل، وهو الانسان المسالم، عالم السجن، السجن بيد الامريكان بين مجموعة من السجناء الذين لا يعرفهم ولا يعرف أسباب سجنهم، الا انه وجد نفسه بينهم فخرج من هذه التجربة الاليمة منكسر النفس وهو يردد مع المتنبي قوله:
رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتّى... فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ
فصرْتُ إذا أصابتني سِهامٌ.. تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ
البيتان اللذان صدّر بهما مجموعته القصصية هذه، وكأنه يقدم نصوصه لنا لنعرف مدى الالم الذي ذاقه في ذلك السجن الذي تنضح نصوصه منه في تلك الفترة.
في هذه المجموعة قدم القاص نصوصه بأسلوب "ضمير المتكلم"، وهو يقول عن استخدامه هذا الاسلوب في مقابلة له:"الكتابة بأسلوب ضمير المتكلم خدعة يعتمدها الكاتب لإيهام القارئ بقربه من لب الموضوع وبوضعه في موضع البطل السارد العليم. كان مورافيا يفضله على أي أسلوب آخر وانه يلائم منجزات العصر وربما يساعد هذا الأسلوب على توظيف التجارب الشخصية للكاتب ولصقها بتجارب بطله. لو أن مورافيا أراد أن يكتب سيرة ذاتية فإنه سيكتب مثلما يكتب قصصه ورواياته ولن تجد خلافا بين هذا وذاك.
الكتّاب الماهرون هم الذين يتركون مسافة محددة بين تجاربهم الشخصية وتجارب أبطالهم على الورق. ومهما يكن فإن الحياة ليست هي المنارات الخيالية على الورق".
يصف الخفاجي سجن "بوكا" الذي يسميه الوادي المقدس، بمقطع مكثف، فيقول:"اذا وصلت الى بوكا، فتذكر انك في الوادي المقدس. هنا تعذبت ارواح، وتوقفت اعمار طوقها الغزاة بسيل رصاص متواصل، واعد الجنود رؤوسهم بأعواد الكافيين.
هنا امتلأت أجواف السجناء بالكولسترول، وقتل كثيرون برشقات رصاص غادر. عاشوا مع الذباب والفئران والعقارب والافاعي من كل صنف... الخ
والوادي المقدس هو الوادي الذي تقف فيه حافي القدمين، لا تتكلم فيه ببنت شفة، تسمع فقط وتنفذ ما تؤمر به.
هكذا قضى القاص فترة سجنه في هذه الاجواء المملة والقاتلة، مع الذباب والفئران والعقارب والافاعي.
تنبأ القاص بموته في نص "عمي فرناندو"، إذ جاء على لسان الطبيب الفاحص للسجناء في السجن الى البطل، وهو القاص نفسه، قوله: "اسمع سأحدثك بصراحة متناهية، انت غير مصاب بالسكري، ولكن ضغطك مرتفع، عليك ان تراجع طبيبا حين تغادر المكان، والا فستموت بالجلطة".
كانت هذه الاشارة هي واحدة من تنبؤات القاص بما ستؤول اليه حياته، فقد اصابته الجلطة التي ادت بعد سنوات قليلة الى موته.
كان الشيء الوحيد في ممارسة حريته في السجن هو عند النوم، اي ان يحلم، الا انها حرية مقيدة، لان الحلم الذي يتراءى له هو الحلم الذي يرى فيه نفسه وهو في اجواء استثنائية وغير صحية، يقول في نصه القصصي "قطرات من ماء السراب":"حلمت انني اركض في صحراء كلها رمال تطير كدوامات في الهواء الخانق، وتحرق العيون، ولا اصل الى مكان. الذئاب تلاحقني حتى في النوم. تنطفئ الاحلام وتموت، من دون امل بالعثور على حل، لا خلاص. الحلم يتحول الى كابوس".
كانت الحرب بالنسبة الى القاص محسن الخفاجي هي الحرب كما قال احد شخوص قصته "الخائن والجنرال وحبات السكر" من المجموعة ذاتها، كان هاجسه الاساس في كل ما كتب، خاصة روايته " يوم حرق العنقاء" التي كانت من خسارات بطلها انه قد خسر حبيبته، فضلا عن الخسائر الأخرى.
ان موضوعة الحرب التي أخذت بلب القاص منذ نصوص المجموعة القصصية المشتركة حتى اخر ما كتب من نصوص قصصية او روائية، كانت الهاجس الاول له.
ففي مجموعة "حمامة القنصل"، نجد ذلك، لأن النصوص التي ضمتها المجموعة تنضح بما آلت اليه الحرب، لنستمع الى قول احد شخوص نصه القصصي "الخائن والجنرال وحبات السكر": " الحرب هي الحرب، سرقات في العلن، اكاذيب وتضليل وخسائر فادحة".
ومن تلك الاكاذيب ما رواه القاص في قصة " المحكمة المفترضة للمتهم البريء" اذ يكيلون التهم إلى بطل القصة كذبا، وهو السارد – القاص نفسه.
يقول فيها:"المحققون رموا عليّ تهما عديدة بلا أدلة ولا شهود ولا يمكن الفكاك منها".
في هذه المجموعة ينقل لنا القاص بعضا من هموم السجناء، وايضا السجانين، يقول عن أحد السجناء:
"لم أر سجينا مثل احمد.
ادعى الجنون، ليهرب من التحقيقات".
ونقل عن الضابطة الامريكية الشقراء السجانة :"سأسافر الى ولاية الينوي، لأحضر زواج امي من عشيقها.
- وأبوك؟ ما موقفه؟
- انفصلا منذ عامين. لم يعد اي منهما يهتم لمصير الاخر.
- اذا كان عمرك الان 38 عاما فكم يكون عمر امك؟ هل هي ملائمة لكي تكون عروسا في سنها؟
قالت بهدوء:
- الحب لا يعرف القوانين".
وفي نص "حمامة القنصل" الذي يحمل مفارقة كبيرة، فبعد ان امسك احد السجناء بحمامة ونتف ريشها علم من ورقة مربوطة بالحمامة انها حمامة القنصل الانكليزي في جدة، فينتظر السجناء نمو ريشها الذي نتفوه ليطلقوها، الا ان الامريكان يخشون ان يرسل هؤلاء السجناء رسالة الى ذلك القنصل يشرحون فيه معاناتهم في السجن، ثم ان الاوامر تأتي بنقل هؤلاء السجناء الى سجن اخر، وهنا المفارقة، إذ عندما يمرون وهم راكبون بالشاحنة يرون مجموعة من الجنود الامريكان وهم يطلقون النار على الحمامة، يقول النص :"في طريقنا مررنا بحلقة من الجنود الأمريكيين يطوقون الحمامة، ويطلقون النار عليها، من كل صوب، وهم يتسلون ضاحكين".
انه فعل انساني يقابله فعل غير انساني.
وهكذا كانت نصوص الخفاجي القصصية شهادة مكتوبة على جرائم الاحتلال الامريكي بما نضحت به من الواقع المعاش لسجناء أبرياء لا ذنب لهم سوى انهم عراقيون يحبون بلدهم العراق.