ادب وفن

المسرح العراقي بين «النخلة والجيران» و «أم حميد» / حسين علوان

حين تتراجع الثقافة ولا تجد من يهتم بها تطفح الى الافق سمات مشوهة لواقع مزرٍ في كل جوانب التطور الواعي للعقل البشري فيظهر الدخلاء والمضاربون في قيم هذا المفصل المهم ليعلنوا وجودهم وبقوة وبدعم من منتجين لا يهمهم سوى الربح وبأي طريقة كانت حتى تصل الى "الابتذال"، وما نلاحظه اليوم من أعمال مسرحية "رخيصة" من دون أي رقابة تذكر على طبيعة النص ومدى ملاءمته القيم والاخلاق السائدة في المجتمع. ولكي تجذب الجمهور ما عليك الا ان تقتنص أية قفشة تسود وتنتشر سواء كانت بشكل بريء أو بغيره وتقوم بتحويلها الى عمل مسرحي تدخل فيه "رقصا غجريا صاخبا" وكلمات ما انزل الله بها من سلطان "خارجة عن الذوق الاجتماعي السائد"، كي تحقق ربحا مريحا للمنتج.
ما يحزن ان هناك بعض الفنانين سمحوا لأنفسهم خوض العمل في "خزعبلات كهذه " تحت ذريعة تردي الوضع الاقتصادي.
ان الفن رسالة عظيمة والمسرح خشبة مقدسة توصل الوعي واكتشاف الحقائق عن طريق أولئك المجهولين اليوم "الفنانين" الذين لم يجدوا من يدعمهم كي يساهموا في خلق الانسان الجديد المتطهر من ادران الدكتاتورية وادران الافكار الهمجية والمتخلفة.
نعم يعيش المسرح العراقي اليوم فوضى الدخلاء عليه ومن هب ودب ليشكلوا "كروبات" لجمع الاموال على خشبته، فلم تعد العائلة العراقية مستعدة لحضور عروض كهذه وان وجدت بعضها فهي لا تختلف ذوقا مع من يعتلي الخشبة ليضحك الناس على نفسه او على غيره، من دون مراعاة لقيم وأخلاق، فتلاحظ الهرج والمرج والصراخ والعويل والغناء النشاز لأغاني الموجة السائدة الفاقدة للكلمة الهادفة واللحن المميز والصوت الجميل، بل الاستهزاء بما هو أصيل وراقي لتراث كبير واسماء لها مكانها في نفوس غالبية المجتمع، انه مسرح "أم حميد المسكينة"، المرأة التي كانت منتشيه وهي تغني وترقص مع حبايبها في دارها وسرب انتشائها هذا في مواقع التواصل الاجتماعي ليستغله المنتجون، احدهم يسابق الاخر مع الكروبات الجاهزة لصناعة "صفقة مربحة".
مؤسف جدا ان لا تجد الا بعض الاعمال الجادة والنظيفة هنا وهناك ومن النخبة الاصيلة التي تحترم نفسها وفنها، فنرى عملا هنا وعمل آخر هناك وبدعم محدود جدا لكنه يضيء لنا ظلاما كبيرا في ظل هذا الخراب الذي نعيشه اليوم بتردي الثقافة وعدم دعمها ماديا ومعنويا من قبل الدولة والقائمين على الثقافة.
اما كان على وزارة الثقافة ان تسخر بعضا من ميزانيتها لإعادة ترميم المسارح المتضررة؟. اما كان بالإمكان اعادة الحياة إلى الفرق الاهلية العريقة مثل فرقة المسرح الفني الحديث وفرقة المسرح الشعبي وفرقة مسرح اليوم وكل ما تحتاج تلك الفرق هي اعادة مسرح بغداد وتخصيص جزء لا نقول ضخما من المال لدعم هذه الفرق كي تعمل على معاونة نفسها ودعوة من تبقى من منتسبيها من فنانين "حقيقيين" ليواصلوا العمل من جديد لخلق مسرح عراقي كما كان في السابق تروده العائلات وكل طبقات وفئات المجتمع. مسرح نقي للعائلة، مسرح للوعي والثقافة مسرح أسسه حقي الشبلي وابراهيم جلال ويوسف العاني وسامي عبد الحميد وقاسم محمد وزينب وناهدة الرماح وزكية خليفة وخليل شوقي وجعفر السعدي وجعفر علي ومي شوقي وفوزية عارف وعوني كرومي وفاضل خليل وصلاح القصب وغيرهم وصولا الى الاجيال الاخرى التي تؤمن برسالة المسرح العظيمة في تغير مسار ذائقة البشر نحو الرقي والجمال والوعي .
لا يمكن ان نقارن اليوم مسرحا كان فيه القديسون والراهبات ومسرح فيه المضاربون والتجار، كما ان غياب النقاد المختصين اليوم سمح لهؤلاء التفرعن والمضي في أعمالهم التي لا تمت بصلة إلى خشبة رحل بسببها مبكرا عمالقة المسرح العراقي واعمدته وركائزه.
من يحيي مسرحنا العراقي الاصيل ويعيد مجده سوى أولئك الذين تتلمذوا على يد اساتذتهم الراحلين والذين بقوا امناء لفنهم وشرف مهنتهم العظيمة، لهؤلاء أقول وأشد على أياديهم ان يعملوا ما في وسعهم ويتعاونوا لتأسيس نواة فنية تحتضنهم كما كانت الفرق الاهلية انفة الذكر تجمعهم نحو هدف سامٍ هو الرقي بالمسرح ورسالته العظيمة خدمة لبناء انسان مثقف.