- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 11 تموز/يوليو 2016 18:40

رغم تفاوت "الزمكان" في احداث روايته الموسومة "مثلث الموت" التي تقع في 334 صفحة... الا أن علي لفتة سعيد يمنح شخوص الرواية الحرية في تقديم ورسم ما يريد أن يوصل الفكرة "الذاتية" الى القراء بلسان شخصيات الرواية الذين اضفى عليهم صفة "الصحفيين" أو "المراسلين الحربيين" وهو قد منحهم امكانية الحديث وسرد احداث حروب تعرض لها العراق الحرب العراقية الايرانية 1980م وحرب الكويت 1990م واخيرا التغيير في 2003م .
يعتمد الروائي على انتهاج اسلوب مُبسّط وسهل الوصول إلى قلب القارئ وهو "السهل الممتنع" في سرد تفاصيل واحداث الرواية التي اراد ومنذ بدايتها الدخول في المتن او "العقدة" دون المرور بمقدمة... فالروائي سعيد يضع نفسه موضع محاكمة زمانيين يريد لهما ان يكونا مختلفين "الحكم الشمولي منذ 1963 – 2003م ... بالاعتماد على ادواته القمعية" و"الحكم الذي اريد له ان يتسم بسمة الديمقراطية بعد 2003م" وهنا يرسم الروائي الادوار لشخوص الرواية بعناية تستحق الثناء ويذهب في تفاصيل الاحداث ويخلق حالة من التكرار لصور جاءت ثم ذهبت تأكيداً منه على ما وقع فيتصور القارئ انها تجاوزت حدود الملل أو تكون قد وقعت فيه. لكن هناك غاية هي ايصال مسألة يعتمدها الروائي للقراء كي يستوعبوا ان اجهزة السلطة قبل وبعد 2003م هي ذاتها في السلوك وممارسة القمع تجاه من يعتقد انهم معارضون وان اختلفت الاساليب، لكن النوايا واحدة وهي الحفاظ على السلطة "كمكاسب ذاتية كانت لفئة واحدة واصبحت لمكونات عديدة" لم يستفد الشعب منها الاَ المتنفذون انفسهم فقط.
تناول الروائي ذكر الاحداث التي صاحبها حمل السلاح لقتال المحتل والذي تطور الى الاقتتال بين ذات المتنفذين من "طائفة واحدة" ثم الى الاقتتال الذي توسع ليشمل "طائفتين ضمن دين واحد" ومن بعد الى الاقتتال مع معتنقي "الاديان الاخرى" وظهور تنظيم القاعدة الذي حاول ان يلبس جرائمه صفة عمل مسلح وطني ضد المحتل وبانت الحقائق لاحقا ان المحتل هو الموجّه الاساسي لكل مظاهر العنف المسلح طائفيا و اثنياً .
وهنا ارى ومن خلال قراءتي لأشهر روائي فرنسي "مارسيل بروست"1871- 1922م المولود في احدى ضواحي باريس وقراءتي للروائي العراقي علي لفته سعيد... انهما يجتمعان في بعض الوجوه، مع الحفاظ على نغمة الأسلوب الفرنسي في كتابة الروايات والذي يمتاز بتكنيكات عالية الخصوصيّة، في رسم صور المآسي المروعة التي تعرض لها ابناء شعبيهما فرنسا إبان الحرب العالمية الاولى والعراق قبل وبعد التغيير في 2003م، فالضحايا كانوا هم مادة المحرقتين.
ان اختياري هذه العلاقة بين الروائيين "بروست" وعلي لفته سعيد، هو نابع من حالة التقارب التي تطبع بعض الصور وحركة الجملة في سياقها القصصي، وكذلك ما يظهر من بعض التماهي في الامكانات الأدبية وشيء من البلاغة في الاسلوب وجزء من التعبير الشيّق للجملة القصصية التصويرية.
ان مارسيل بروست الذي عاش في قرنين نهاية التاسع عشر وبداية العشرين، وعصرين "الكلاسيكية والحداثة" كتب روايته المهمة "في البحث عن الزمن الضائع" بأسلوب يزاوج بين زمنين عبر لغة شاعرية تغذيها التفاصيل الدقيقة المستقاة من صميم الواقع, لكن أهمية هذه الرواية التي تحافظ اجزاؤها السبعة على الروح "البروستية" نفسها: تتجلى اولا في قدرة السارد على التعبير عن المشاعر الانسانية القوية... حيث نجد معظم شخصياته مستوحاة من اشخاص عرفهم وعاشرهم وعايشهم في حياته وفي خضم مآسي الحرب يرى ان الزمن ينفلت من بين يديه... يتفق الجميع على ان الوصف والدقة والتفاصيل تمثل الخطوط العريضة في اسلوب روايته اعلاه... حيث انه اصطاد اللحظات الهاربة روائيا ومن ثم جمد حركة المستقبل باستحضار الماضي. وهذا ما نلمحه بعض الشيء عند الروائي علي لفته سعيد وان كانت روايته كتبت في جزء واحد فقط و ب 334 صفحة و 66800 كلمة، حيث يغوص في بتفاصيل الماضي ويستحضره في الحاضر وكلاهما "اعني الروائيين" عرضا المآسي في صور مروعة على الصعد الانسانية وتأثيرها اجتماعيا واقتصاديا وأهمها تدميرها الذات البشرية بشكل ممنهج.
لقد برع كل من "بروست" وعلي لفته سعيد في رسم الشخصيات عبر تصوير دواخلها، وان كان سعيد قد أهمل هذا الأمر بعض الشيء إلّا أنه بقي محافظاً على ذلك في الكثير منها. ولأن قراءهما يعرفون ان شخصياتهما مستقاة من الواقع... صاروا يحاولون كل مرة اسقاط الشخصيات الروائية على شخصيات حقيقية. وهذا بالتأكيد يزعجهما لأنهما ارادا لشخصياتهم ان تظل محصورة في عالمها الروائي كشخصيات قائمة في ذاتها. وقد نجح مجملاً الروائي سعيد "وهذا ما تثبته بعض الصفحات" في انه لم يعتمد اسلوبا معروفا "معمما لدى الروائيين" في الكتابة الروائية، بل صنع لنفسه خطا سرديا مختلفا بعض الشيء يقوم على الجمل الطويلة المعقدة والعبارات المكررة والشروح اللامتناهية والتفاصيل المكثفة قدر الامكان.. مما يجعل البعض يعتبر هذا الاسلوب صعبا وقد يُقع الكاتب في مطبات كثيرة من أبرزها حالة الملل التي ترافق مطالعة العمل الروائي مثلاً أو جملة من حالات الاستضعاف الفني في جسد الرواية كما يصفها النُقّاد في البعض من النتاجات الروائية. وهو ذات النهج الذي اعتمده "بروست" والذي برع فيه بشكل منقطع النظير، داحضا مقولة "البساطة تصنع الجمال" ليثبت ان التعقيد ايضا قد يصنع الجمال.
فالأسلوب الروائي عند علي لفة سعيد ليس مجرد زخرفة بل هو استحضار العام من منظور خاص... لأن القيمة التي يمكن ان ينقلها كاتب ما الى قرائه تكمن بالنسبة له في قدرته على كشف عالم اضافي أمام الآخرين "الحقيقة غير الحقيقية" و"الزيف هو الزيف نفسه". وقد ذهب الروائي علاء مشذوب في أعماله الروائية "جريمة في الفيس بوك" و"آدم سامي مور" الى ان الحقيقة وعرضها أمام القارئ أهم من كل المبررات التي تدعو الى اخفائها أو التغاضي عنها لاعتبارات مُختلفة.
وهنا يجدر التنويه بأنّ الرواية العراقية المُعاصرة بدأت تفرض نفسها عربياً واقليمياً، من خلال المشاركة في جملة واسعة من السباقات الأدبية المهمة وهي تحصد جوائز متقدّمة ضمنها أو فلنقل على أقل تقدير بدأ "الناقد العربي" يضعها تحت مشرطه النقدي الخاضع للشروط الفنيّة المطلوبة. وفي المستقبل القريب عندما تنشط المؤسسات الحكومية التي تعنى بالثقافة العراقية أو المنجز الثقافي العراقي أن تقدّم للروائيين كل ما من شأنه ان يساعدهم في الوصول الى العالمية ولو بالترجمة على أقل تقدير.