- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 18 تموز/يوليو 2016 19:11
على سبيل البدء:
أول ما يثير القارئ وهو يتلمس طريقه في تصفح ديوان الشاعر اللبناني محمد غبريس "أحدق في عتمتها"، إصدار يفتتح به سنة 2016، عن "دار كنعان للنشر " في دمشق، أن هناك قصدية في استفزاز القارئ العاشق للشعر، من خلال دفتي الديوان والتشكيل الكاليغرافي، المؤثث بألوان سماوية وبنية تكشف عن أنوارها كألوان فاقعة في ظل السواد كلون اختاره للغلاف، بشكل يتساوق في انسجام مع العنوان، الذي يحيل على العتمة والظلام، واختار الشاعر أن يتدجج بالتحديق كإحالة الرؤية البصرية، رغم أن الظلام حالك، وهو يستطيع أن يستكشف معالم الأشياء والمكونات والذوات في العتمة والظلام، بفعل حركي يراهن على الزمن الحاضر والمضارع بل حتى المستقبل.
حين ننتقل إلى ظهر الغلاف، نجد أن الشاعر اختار مقطعا شعريا، يلملم باقي الأدوات التي تخط للقارئ طريقا، وكأن الشاعر يضع عقدا للقراءة من خلال هذه النصوص الموازية، لتشكيل عتبة تساعد على الولوج إلى متن النصوص الشعرية، وتضع خيطا نابضا لتتبع صدى القصائد، وتصعد من وتيرة الأسئلة المحفزة على قراءة النص في شموليته، تدلل بشكل منهجي أدراج القصائد وتحفز على تلمس خطواتها في الديوان.
من الرؤية إلى الرؤيا:
ينتقل الشاعر بكل سلاسة من الرؤية إلى الرؤيا، ومن البصر إلى البصيرة، وهي طريق الشعر، فالرؤية لا تسعف في الظلام، وعملية التحديق من خلال الفعل "أحدق" التي تشي بنوع من التمعن في محاولة لتفتيت خيوط الظلام، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بعد التأمل والانتقال من البصر إلى استعمال البصيرة، واعتماد الحدس الباطني وإدراك خلفيات ما تواريه العتمة، فالحوار الجميل الذي يدور بين العنوان ودفة الغلاف وطبيعة الألوان، ثم المقطع الشعري، آليات لتأكيد الشاعر على رؤياه عبر الزمن "مر عمر"، وعبر السفر الصوفي "سر التجلي"، ثم عبر الكتابة "بيدي حزمة أوراق وتذكار"، هناك جملة من المشيرات التي اختارها الشاعر لاستكشاف معالم العتمة وتفكيك طلاسمها والغبش التي يحجب الرؤية، وذلك عبر الارتحال للبحث عن مخرج من السواد والعذابات التي تلفه وتعيق حركته المادية، لذلك اختار أن يركب الريح ويمتطي صعاب التيه بحثا عن الطريق وعن الحقيقة، رغم أنه موغل في العتمة، ولكن الشاعر استطاع أن يضيء المكان عبر مصباح وسراج يحمله ظله "مصباح ظلي"، يقول الشاعر في قصيدة تذكار: بیدي حزمة أوراقٍ وتذكارٌ
لمنْ أودعتُ في مقلتِا
سر التجلّي
مرّ عمرٌ
وأنا أغرق في كنه العذاباتْ
كلما عانقت ریحا بدمي
أدمنتُ في شهوتها التیه
وعلقت بها
مصباح ظلّي
والشاعر يبرز ذلك من خلاله سفره الدائم، والحركة الدؤوبة، بحثا عن هذا الطريق، ولا مجال للرؤية إلا عبر البصيرة، رغم أن الشاعر يتسلح بالضوء الذي ينحته من ظله، لأن الظل هو الرفيق وهو زاد السفر والرحلة في تجوال الشاعر عبر المكان بحثا عن مخرج ممكن، ليستكين إلى ظله الثاني، حيث يحلو التماهي إلى درجة الانصهار مع هذا الغائب الذي يعبر عنه ضمير الغائب في عتمته، وفي "كاف" المخاطبة حين يخاطب الشاعر الآخر فيه، والذي يكمل ذاته ويحقق وجوده، لذلك لا يجد الشاعر إلا الإشارة إلى أنه في الطريق، فهو دائم الارتحال بحثا عن الاكتمال والكمال اللذين لا يحققان سوى الذات الأخرى، لذلك يشق الشاعر طريقه عبر شريط يستمد فيه قوته من الذكريات علّه يعثر على سبيل يساعده على ترتيب الخطوات بتؤدة رغم المطبات ورغم السواد الذي يعوق النظر، ولا ملجأ للشاعر إلا الاستعانة بالحلم والعبور إلى الأعلى في محاولة لبناء الحاضر، وإعلان الانطلاق، وجسر السفر والحركة الدؤوبة لدحض الثبوث والسكون والامتلاء بالرغبة الجامحة في إيجاد حب حقيقي يداوي الجراح، ويجترح الأمل من سجوف الظلمة، ليجد نفسه في الطريق إليها مليئا بالعنفوان، تلك أسرار الشاعر الباحث عن الحقيقة، عبر أسئلة الشعر وعبر مخلفات الذكريات، وهو يعتلي خطواته ويستعين بالتحليق في الأعالي بحثا عن كشف الغموض وإدراك المبتغى المنشود بنفحة صوفية تتوسل مكنون الذات والجسد في نقلة لتجاوز الموقوت والمعلوم إلى روحانية تتوسد البصيرة ولغة الباطن للقبض على المتواري في المجهول، الذي يستحيل دون بلوغ البرزخ بين الجسد والروح، وبالتالي تحقيق المراد الخفي في التخوم الرمادية العليا، يقول: في قصيدة "إليك"
هنا في الطریقِ إلیكِ
أمرّ بماضٍ وذكرى
لكي أستطیعَ المجيءَ بكاملِ أسئلتي
واشتهائي..
النفس الرومانسي والبعد الإيروتيكي:
يحاول الشاعر أن يظهر التنوع في الثيمات التي يحفل بها الديوان، من خلال الحب كثيمة تهيمن على قصائد الشاعر، من دون أن ينفك النص عن مخاطبة سيدة تحمل ميسما خاصا يعبر من خلاله الشاعر إلى العشق والوله والولع والألفة إلى حد الشاعر المفعم بنور داخلي يضيئ كيانه ويخط حركاته في الوجود وفي الانتقال إلى المخاطبة أو المعشوقة المأمولة، التي تحمل توصيفات خاصة منذ الماضي، وتعلمه كيفية حب الأشياء والكائنات، بل والتحليق في الأعالي واكتشاف السموات والأرضين، بنفس رومانسي يجعل من الطبيعة فضاء للبوح والانصهار في مكوناتها، وتفكيك دواخل الذات وهواجسها ولواعجها بكل عنفوان وحنين إلى حد الشهوانية الجميلة في إيروتيكية تستقيم وفق معجم يمتح من فسيفساء الحب وتجلياته في الكون والكائن، "دعیني أستعیدُ طفولة النهرِ الشریدِ
لكي أراقصَ بسمة تختالُ في شفتیكِ
أغرف من رحیقكِ
من نبیذِ مسائكِ المبتلّ بي
أغفو على جفنیكِ زهرَ حبق"
لذلك نجد أن الشاعر يستسلم للبوح ويفتتح الديوان بقصيدة تحمل عنوان "اشتهاء" عوض الشهوة، لأن ماهية اللفظة الأخيرة عابرة ترتبط باللذة والجسد الفاني، في ما لفظ "اشتهاء" فيه استنفار لجميع الحواس والجوارح، ويشير على الامتداد اللانهائي في الرغبة والوله حد الانصهار في ذات الآخر. حب لا متناه، يبدؤه الشاعر بالرؤية ليعبر إلى اللا مرئي، عشقا رومانسيا تؤثثه الدموع:
"فمهلا یا فتاتي مرّ وقتٌ
والرحیلُ إلیكِ أغنیة ووحدكِ تصبحین على ضیاء
مرّ وقتٌ بیننا
والضوءُ یحفرُ في القصیدة ینبشُ الذكرى".
إن الشاعر لا يملك إلا سلة الأسئلة بعيدا عن الجاهز وهو يتنشق عبق الاشتهاء، مدججا بالحنين والذكريات للامتلاء بالحب، لكي يستعيد الحياة من بين دروب المدينة والطفولة والعنفوان، ورائحة التين وموسيقى القبل في الحارة، والتلال والحقول وفي الشرفات، وفي كل الأمكنة.
يشحذ الشاعر كل الحواس لرسم صورة عن وطن يسكن القلب، يعيد تشكيلها نموذجا لها، حيث البعد يعصر قلبه، ولا يجد بدّا من الاستعانة بالطير المرتحل ليجعل الوطن قريبا منه في صورة جمالية مليئة بالعشق للشام بكل امتداداتها الجغرافية، التي تصل حدود عدن، وذلك بعيدا عن وطأة الوحدة كلما اشتد به الشوق إلى الوطن.
إن أمل الشاعر كبير وهو يجوب أخاديد الذات، ويسري إلى أتون الذكرى بحثا عن القبض على حلمه العالق بين غيابين، لعل الصبح ينبجس من العتمة التي تزنره، ويتبدّى جليا كفجر جديد موسوم بالطل والندى، فالعتمة ليست إلا جسر لانوجاد الضوء، حيث الذات والجوهر الكلي للكينونة
"لعلّي
أستطیع الآن
أن أمسكَ حلما عالقا
بین غیابینِ
أعیشَ الرغبة الحبلى
بفجرٍ وطلّ…
ويقول: إنني حدّقتُ في عتمتها
بحثاً عن الضوء
وعن ذاتي وكلّي".
يستمر الشاعر في الاعتماد على معجم رومانسي، يمتح من الطبيعة وهو يحاور فراشته، سيدة عمره، سماءه المليئة بالحنين، وهو مسافر كالطائر حر سادر في التجوال، جاعلا من خيوط الشمس قبسا للضياء في تفجير لجج الظلام، حيث لا يجد ذاته إلا بين أحضان الطبيعة، يبحث عن أول بوابة للأمل سلاحه الحلم والحب بشكل لا ينفصل عن باقي الذوات، وهو ملك جمعي مشترك مع الجميع. إنها سيدته التي لا تبتعد عن البلد والمرأة والقصيدة التي تسبر أغوار الكون لإيجاد الذات مكتملة، حيث الحب والمجد لا متشظية تغترف من هدير الحرب والمعاناة.
العبورية الشكلية في البنية الإيقاعية:
يراهن الشاعر على التجربة الشعرية في خلخلة بنية الحساسية الشعرية، فالشعر في ماهيته غير مختلف، ويبقى الموضوع وطبيعة التجربة هما النواة التي تعطي الخصوصية، لا الشكل الإيقاعي، والدليل أن الشاعر استطاع أن يصالح على المستوى العروضي أو الإيقاعي بين قصيدة شعر التفعيلة، التي تنبني على السطر الشعري والجملة الشعرية، والقصيدة النثرية بكل سلاسة، إضافة إلى بناء تحكمه التقفية سواء أكانت متتابعة أو مركبة أو تعتمد على الإيقاع الداخلي، بل والاعتماد على اللازمة الموسيقية التي تتكرر في مجموعة من القصائد، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قصيدة "شهقة"، حيث تتكرر مقاطع صوتية بعينها ولازمة
"أنا وأنت يا حبيبتي"
أنا وأنتِ یا حبیبتي
وبیننا هدیلُ البوح والعزفُ العمیقْ
أنا وأنتِ والورودُ
ترتدي النهدَ العقیقْ
والقبلُ الرذاذ تعبرُ الجنونَ
نحو شهقةِ الفمِ الغریقْ
والأدهى من هذا أن الشاعر كسر النظرة التقليدية للشعر التقليدي، حين اعتمد أيضا على القصيدة العمودية بنظام الشطرين التي تعتمد على وحدتي الوزن والقافية، التي جاءت مطلقة وموصولة، من دون إغفال تصريع المطلع نموذج ذلك قصيدة "شعلة" بتشكيل جديد لا يخرج عن نمط القصيدة العربية القديمة: من أنت؟ كي تحكميني بالتي أسوأ..
إني بحبي مريض ليتني أبرأ.
وتجاوز بذلك الشاعر إشكالية الشكل وخاصية الدفقة الشعورية التي تتسع أيضا للقصيدة العمودية نفسها، وفق تصور الشاعر، حيث تبقى ثيمة الحب والآمال والأماني عناوين تتقاسمها القصيدة بنوعيها السطري أو العمودي، فالجرح والذكريات والحب ثيمات حاضرة في كلتا النموذجين.
لقد سطر الشاعر صورة للوطن أيضا في قصيدة "الجرح" البائية، في محاولة لكشف واقع الأمة العربية المترهل ومسار الحقيقة فيها، حيث لا تحتفظ ذاكرة الشاعر من الماضي إلا بالتراث الشعري فقط، وتمت خيانة ما تبقى من هذا الماضي، الذي تعبث به الأيدي، وتصرفه في إطار مذاهب وأغراض شخصية، ورغم ذلك فالشاعر يحتفظ بالأمل في كشف الحقيقة محيلا إلى قمح الجنوب ولون الأرز كناية عن لبنان، وما يعتمل فيها من ألوان مذهبية وطائفية.
ويعود الشاعر إلى القصيدة السطرية بعنوان "طلل" تتكرر فيها لازمة موسيقية "في الطريقة إلى الجنة المبتغاة"، وتكرار فعل الكينونة "كن"، بحثا عن تحقيق الوجود للموجود الكائن الغائب، حيث يعبر الشاعر جسر الزمن إلى الذكريات للظفر بوجود حقيقي، يمتح من الطبيعة في جوهرها البهي والصافي، مستعملا فعل الاشتهاء مرة أخرى لتحقيق المبتغى، فغصن الأمل خيط يسبر كينونته من الماضي للانتقال إلى الحاضر، من أجل بناء وجود فعلي بدون تغيير في الشكل أو الجوهر بعيدا عن الصفات العرضية "كن كما أنت"..
مذْ صرتَ شكلكَ
متهما أو بریئا
لتثبت حقك أو لتكونَ
أسیرَ الأجلْ …
ليتضح أن التجربة الشعرية تستطيع أن تعبر من موضوع إلى موضوع، وفق خصوصية يؤسسها الشاعر في رؤيته وفي النسق العام الذي يحكمها، ويحقق بذلك المصالحة بين الشكل التفعيلي والتقليدي في بنيته العمودية بدون تأثير على القصيدة في عكس طبيعة التجربة، وإمكانية انصهار الأشكال الشعرية، وتجاوز النظرة الضيقة للشكل الشعري وصولا إلى ما يصطلح عليه بالقصيدة النثرية، فالمهم في تصور الشاعر هو التوليف بين الأشكال والتجارب الشعرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ شاعر وكاتب من المغرب