- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 26 أيلول/سبتمبر 2016 19:19

حين أهممت بدراسة هذا الجنس الأدبي المثير للكتابة والتلقي أيضا، كنت مدركا أهمية التاريخ الأدبي، ولكون القصة القصيرة مثيرة جدا ليس للجدل بل للانبهار والدهشة والسخرية ومقومات أخرى، ادركت أنها لابد لها تأثير قوي وسريع على المتلقي، وكون النص "كبسولة" كما يرون النقاد الانكليز، اذن هي كما الدواء الشافي سيان ظنا او واقعا، وتلك ميزة لا يملك جنس ادبي ذات تأثيرها، هذا الجانب مؤكد يجعل الفلاسفة يهتمون بها،
وفعلا في البحث بثنايا التاريخ وجدت فعلا يوجد اهتمام فلسفي به، وكان ان أقرا للحكيم هرمس قصص عدة تؤكد اطار البناء تقنيا، وايضا تشبه الحكمة الملغزة التي يهتم بها الفلاسفة، وهنا تكون القصة القصيرة جدا نص طبقة مهمة في الفضاء القصة القصيرة جدا قديمة تاريخيا، وهي احد الاجناس التي تنحصر في مجالات غير عامة، أي ترتبط بالمفارقات والغرابة والدهشة والمفارقات التي تصعقنا، وهناك البعد الفلسفي الذي يحتاج حلا مفاجئا، وليس تدرجا في حله من مرحلة الى اخرى كما في الرواية مثلا، او العمق الدلالي الذي ينيب عن النتائج النهائية ويعبر عنها رمزيا في القصة القصيرة، وتلك السمات غير العامة حددت فضاء القصة القصيرة جدا، فيما كانت الرواية ولا تزال اوسع مساحة في التعبير عن وجود بشري، وهي حيوات مكتوبة.
من الطبيعي أن الرواية تعتمد على المتن الحكائي في اكتساب مواقف وقضايا من الذاكرة الجمعية، كما وتعتمد على اشكال دالة توصل المجموع من الشخوص الى النهاية الحتمية، وقد تطورت الرواية من الرواية القديمة الى الكلاسيكية ومن ثم الطبيعية وبعد ذلك كانت انساق الواقعية التي هيمنت عليها حتى الان تقريبا.
ويستثنى من ذلك الرواية الجديدة، التي اكتست بتطورات مهمة اهمها التطور التقني، حيث استجدت وظائف بدل اخرى، او هي طورتها لتواكب عصرها، وكذلك شهدت تقنية الفن القصصي تطورات مهمة في سياق الكتابة، ولم تكن القصة القصيرة جدا كجنس ادبي واضح وتام الملامح، برغم ان صيرورته متصلة بالتاريخ بشكل وثيق، لكن لم يمر ذلك على بال الحقل النقدي، ويتاكد له أن القصة القصيرة جدا هي اقدم من الرواية، لكن لم تكن تؤكد عبر اطار التجنيس، بل من خلال الغاية ودافع استخدامها لغويا، وكما اسلفنا هي لغز يستلذ بالقفلة التي هي احد اهم عناصر القص القصير جدا، او حكمة تفقد النتيجة سبيلها الموضوعي والمنطقي، فتكون القفلة سمة حل مناسب تماما، لكن عبر الفضاء الادبي غاب الجنس وابعد التجنيس وبقيت القيمة الفنية والابداعية له، فيما بقي الرواية والقصة القصيرة يتقدمان الى الامام بشكل مستمر، وصار الحقل النقدي سمة اعلامية لهما، رغم الفائدة التي جناها من التطور عبر تطوير ادواته.
ان معيار التاريخ يشكل اهمية كبرى بالنسبة للادب، حيث الاجناس الادبية هي التي تشكل تاريخ ادبي، وتشكل من جهة اخرى في احد الوجوه ادبا تاريخيا، وذلك التماس مهم، وما خلت مرحلة من مراحل الادب منه، وطبعا الاجناس التي هي بتماس مع التاريخ تكون سيرورتها موثقة، وكذلك يشتمل على ذلك تطورها، ولا يهم المضامين، بل الاهم الجنس الادبي كمسمى.
وكان للرواية مساحة واسعة من التاريخ، حيث هناك عقود تتوالى وهي تشكل علامة فارقة ادبيا، وأن كان الشعر يقابلها من الجهة الاخرى، ويتباهى بطول تاريخه وقيمته، وبعد ذلك صارت القصة القصيرة تتبلور وتتطور بعد صيرورة راسخة فيما بعد وتتبلور ظروف مناسبة لها، وكانت القصة القصيرة جدا قد اخذت تتنفس بصيغة جنس ادبي جديد، وكتّاب هذا الجنس الاوائل هم كانوا كتاب قصة قصيرة، وبعضهم له اهميته ومقدرته في الكتابة الابداعية، وطبعا كان المحررون يسعون الى التميز وتحقيق الاهمية القيمية، فكانوا يختارون كتابهم حسب القيمة الابداعية للنص، وطبيعي بمرور الزمن سيتفاوت اطار الابداع، وبتغير صيغ الصفحات الادبية صار هناك موقف مستجد، يتغير من خلاله حجم المادة، ويتعارض هذا مع ما اعتاد عليه الكتاب من حجم للمادة القصصية، وطبعا يتأثر هنا الاطار الابداعي، صار هناك دافع لاعادة انتاج القصة القصيرة جدا من جديد، بعد غياب الحجم المناسب لرسم ملامح قصصية باهرة وممتعة وبذائقة ادبية عالية ومواقف اجتماعية مثيرة، وصار لزاما ان تكون المادة الادبية جديدة وغير معهودة.
واستعيد القص القصير جدا لضرورات عدة، واستعار الكتاب تلك المادة القصصية التي كانت هي اشبه بدعابة او حكمة واخزة، ولم تعرف تجنيسا في بادئ الامر، بل اعتبرت تحجيم وتلخيص للقصة القصيرة عبر الاقصوصة، وان "الاقصوصة نالت القبول والاعتراف الكافيين في المحافل الادبية".
لابد اذن من تحديد بيئة القصة القصيرة جدا الاساس، واعتقد أن الفضاء الادبي الاميركي هو المركز الاساس الذي انبثق منه القص القصير جدا وتطور مجاله الكتابي، وكما تأكد لي لا يعترف بهذا الجنس الادباء الفرنسيون ولا كتاب المانيا ايضا، لكن نشطت في تلكما البلدين الرواية المختصرة، او ما سمي رواية الجيب، والتي تقابل القصة القصيرة جدا موضوعيا، وبعد ذلك تطورت القصة القصيرة جدا بعد اكتمال ملامحها، وصارت اكثر الانواع الادبية ايجازا ومتعة ولذة، ولم يختلف النقاد على آليات البناء وعناصر القصة الاساس، لكن اتفقوا على انها ضيقة المساحة وهذا يجعلها صعبة بلاغيا رغم سهولة مفترضة، لكن رغم الصعوبة التقنية توغلت القصة القصيرة في جميع افاق المعاني الانسانية، وصارت علامة فارقة في الادب الحي، "لا يكاد يختلف احد من الباحثين في أن الفن العظيم كان دائما وعبر كل العصور ، هو ذاك الذي يمثل خرقا للعادي اليومي من مألوف القيم والأشكال الجمالية المضمونية، أو اللغوية بل تكاد تنسب إلى الخرق للمألوف والمستقر من القيم، كل التطورات والإبداعات التي تشمل حقول الثقافة والأدب والفنون والعلوم"، وفعلا كانت القصة القصيرة جدا ذلك الفن العظيم والتعبير الادبي الانساني.
القصة القصيرة جدا كجنس ادبي من خلال المؤسس الرسمي تحدد جهته الاساس امريكا – انكلترا ايضا، اما الفرنسيون فلا يؤمنوا بوجود هذا الجنس الادبي، وما كتبته ناتالي ساروت من نصوص في كتابها فهو نص متحرر من اطر التجنيس.
اما القصة القصيرة فقد كتبت قبل نصف قرن، في نهاية القرن التاسع عشر، وفي العراق هناك محاولات جادة في الثلاثينات والاربعينات كانت غير معرفة ولا تؤكد عبر العنونة الجنس القصصي القصير جدا، وبعد الخمسينات بدأت ملامح القصة القصيرة جدا تكتمل مؤكدة وجود جنس قصصي مختلف.