- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 26 كانون1/ديسمبر 2016 19:08

فضلا عن ضرورة توفر التواطؤ المشترك، الذي يتم على ضوئه إنجاز فعل التواصل، خاصة من جهة استيفاء شروط الفهم، والاستيعاب، فإن توفر شرط الإقناع، يظل بمثابة السند المركزي، الكفيل بتحقيقه، كما هو متواضَعٌ عليه من قبل المختصين، ولاسيما حين يتعلق الأمر بالخطابات المتمحورة حول القضايا المجتمعية، ذات البعد الخلافي، علما بأن الخطاب في عمومه، لا يستمد بالضرورة أهميته من قوة أو ضعف حضوره في الفضاءات العامة، الحافلة بمختلف الإشكالات السياسية والثقافية، باعتبار أن التواصلات المستفيضة، التي تتقاذفنا أمواجها بكرة وأصيلا، نادرا ما تكون مشروطة بالإقناع، باستثناء تلك الحالات التي تكون فيها مقترنة مبدئيا، بواجب اتخاذ قرار حاسم، في شأن تنزيلٍ، قد يتميز بحساسيته السياسية أو الفكرية. لأن اتخاذ القرار، لا يتحقق إلا باستناده إلى قوة الإقناع، الشيء الذي يُستبعد نسبيا في السياقات العادية، حيث يمكن لنخبة مهمة من الفاعلين، أن تخوض دون كلل، ولأزمنة طويلة، في نقاشات مستفيضة، حول ما لا حصر له من القضايا، دون أن تكون بالضرورة مضطرة إلى الالتزام بشرط الإقناع، حيث يكون بوسع الجميع، أن يتمسك بوجهة نظره الشخصية، دون أن يؤثر ذلك في مجرى اللَّغو، كي لا نقول مجرى النقاش. لكن وبموجب ظرفية طارئة، يمكن أن يتحول بُعدُ الإقناع إلى ضرورة ملحة وقصوى، حيث لا يلبث أن يُحدث تغييرا جذريا في آلية اشتغاله، مما يُلزم الأطرافَ، بإعادة النظر في جميع مكونات القول، كي ترتقي به إلى الهدف المنشود، وهو الإقناع.
ضمن هذا المستجد، تشخص حقيقة واجب التخلي عن العشوائية والاعتباطية في القول، إلى جانب حقيقة تشذيب حقل الخطاب، من كل الأصوات النشاز المحشورة فيه سلفا، بغاية تنشيطها لثرثرة لم تعد ممكنة ومقبولة، في ظل ملحاحية العنصر الطارئ، والمجسد في واجب الإقناع، باعتبار أن هذا العنصر، لا يمكن أن يسمح بإطلاق الكلام على عواهنه، كما انه لا يجيز الاستجابة لتسامح رخو، ومتساهل في عملية الثرثرة السعيدة، التي تتيح للجميع فرصة التفريغ، وفرصة إثبات الذات، التي تأخذ لدى الأفراد بعدا غريزيا، تَعتبر موضوع الإقناع من أشد خصومها اللدودين، باعتباره الرقيب المثالي والنموذجي، الذي يحسم في الجدوى من استمرارية حضور الثرثرة، خاصة السياسية منها، داخل نسق جد مضاد، هو نسق الإقناع، الذي يتميز بصرامة نظرية، لا تسمح بتسرب أي أثر من آثار الثرثرة العشوائية، التي يتضمن الحد منها، غير قليل من الإحراج لنسبة كبيرة من المتواصلين، من أجل أن يبحثوا عن مجال آخر من مجالات اللغو، المستغنية عن قوانين الإقناع، التي تسمح لهم بتحقيق غريزة إثبات الذات، وغريزة الحضور.
وفي السياق ذاته، يجب التنويه بأن أهم العناصر الفاعلة في تعطيله، هي تلك المتمثلة في التوترات الضمنية، التي تفرزها التفاصيل المضمرة في الخصوصية المنغلقة على ذاتها، التي يحدث أن يتميز بها كل طرف على حدة، لأن الخصوصية بمجموع مكوناتها المعلنة والخفية، لا تكف عن الزج بعناصرها في قلب الوعي المشترك، حيث يتعذر الانتباه إليها، باعتبار أنها تظل كامنة في خلفية الخلافات، والتناقضات التي تطفو على السطح، كي تشكل عائقا، يحول دون تحقيق الحد الأدنى من الإقناع المطلوب. ولعل أهم عناصر هذه الخصوصية، هو الإلمام بآلية اشتغال الدلالة اللغوية، التي تجسد السند المركزي لكل حوار، ولكل تواصل مشترك، لأن استهانتنا بالدلالة، تظل هو قطب الرحى في عملية التواصل، حيث يتوهم المتحاورون أن العبرة، تتمثل أساسا في الموضوع الذي يتمحور حوله التواصل، وليست المادة الأساسية التي يعالجون بها محاور الموضوع وحيثياته. وهو ما يؤدي إلى زوبعة الدلالات المتولدة عن هذه التواصلات/ النقاشات، بحكم التنافرات اللغوية والدلالية، الناتجة عن تسرب الخصوصيات الذاتية، إلى قلب البنيات التعبيرية، بما فيها خصوصية التخلف والأمية، إلى جانب خصوصية النهب والهيمنة. فعلى ضوء هذه المعطيات، تتأكد لنا استحالة تحقق تواصل تام وعام، بين الفرقاء، كما بين المنتمين إلى الصوت واللون المشترك، إذ مهما تهاوت الحواجز، ومهما اعتقدنا في ظل اختفائها المفاجئ، بحضور كل الشروط الممكنة، التي من شأنها تحقيق التواصل، إلا أن غربة الأطراف عن بعضها، تظل الميزة الأكثر حضورا والأكثر راهنية، وعلى سبيل المجاز، سنشير إلى تلك التيارات الدخيلة، التي تسري بين المتحاورين، والتي من شأنها انتزاع بنيات دلالية غير قليلة، من سياقها، بما يؤدي إلى إحداث ثقوب وفجوات تواصلية، بين المتحدث والمتلقي. علما بأن هذه التيارات المشوشة، تكون أيضا حاضرة حتى بالنسبة للمكتوب، حيث تفقد الدلالة غير قليل من أبعادها، بفعل تطاير مزقها في المهب، الذي يتقاطع فيه قصدُ القولِ مع ضده وأضداده. مع العلم أن ما نتوخاه من دلالة القصد، يظل هو أيضا غامضا وملتبسا، لأننا غير متأكدين، من كون المتحدث هو حقا على بينة بما يريد التصريح به على وجه التدقيق، فما يطمح إلى التعبير عنه شيء، وما يتوصل إلى قوله شيء آخر، قد يبتعد نسبيا أو كليا عما هو حاضر في النوايا، لأن المقصود بالتيارات المشوشة على صفاء القول، والمشتتة لبنياته، هو مجموع تلك الانفلاتات التي جُبلت عليها اللغة، والتي تعود إلى تلك العلاقة المتوترة، القائمة بشكل دائم بينها وبين الدلالة. إنها العلاقة المحكومة بالزيادة، كما هي محكومة بالنقصان، حيث نادرا ما يقع ذلك التطابق الممكن بين البنية اللغوية للقول، وبين ما يُراد قوله. بمعنى أن اللغة وضمن علاقتها المرتبكة بالدلالة، ولربما سعيا منها إلى إرضائها، غالبا ما تتيه في مسالك العبور، أو تتجاوزها كليا إلى مسالك دلالية، لم تكن من قبل واردة. فالتباينات في هندسة وصناعة جهاز القول، تظل حاضرة بقوة، بفعل الاتساع والتعدد اللانهائي، لمفهوم الخصوصية الذاتية، وكذا للحيثيات والوقائع، التي تتأسس عليها وتتشكل فيها مقامات وأبعاد القول. وتلك هي مصادر المفارقات الحتمية، حيث يكتشف الخطاب الذي ضل طريقه إلى الجهة المعنية به، في ضيافة جهات توهمت أنها هي فعلا المعنية به، وليس ذاك الذي أخطأت طريقها إليه، بمعنى أنها وبفعل التيارات الباردة ذاتها، والشاردة ألفت ذاتها متماهية ومتطابقة مع تلقيات لم تكن أبدا واردة على البال، أي على بال المتحدث، وبال الخطاب.
إن الأمر لا يندرج ضمن سياق، أو صيرورة عبثية، مقصودة ومبيتة، بقدر ما يتعلق بقوانين مستترة، تمارس تأثيرها الخفي على الإيقاعات العامة، التي يتوهم الكائن أنه بصدد إنشائها وتأليفها. طبعا، ليست غايتنا من هذا الاستنتاج، هي إشاعة حالة من اليأس في تلك المعادلة التواصلية، القائمة بين الذوات، بقدر اهتمامنا بإضاءة تلك النقطة الملتبسة، التي تتقاطع فيها مسارات الخطابات، من أجل الاقتناع باحتمال حدوث تلك التوترات، التي تقع خارج نوايا الكائن. طبعا، ضمن تلك الحالات التلقائية والعفوية، المختلفة جذريا عن الإرادات المبيتة، التي يستثمر فيها غير قليل من هؤلاء القوالين، معضلة هذا الخلل العضوي، القائم سلفا بين مسار اللغة، وبين مسارات دلالاتها، كي يقوموا بتمرير الكثير من الرسائل الملغومة، تحت غطاء الالتباس المتعالي، الذي لا قِبل لهم بتجاوزه أيضا.
إن الغاية من التأكيد على هذا الإشكال، هو وضع مسألة التواصل في سياقها الطبيعي، الذي يضع حدا لتعاليه المبالغ فيه، وانفلاته عن أي تأطير محتمل. ذلك أن اللغة، في علاقتها بأنساقها المتعددة، المنبثقة من خصوصية السياق، وبفعل شروط اجتماعية وثقافية معينة، تصبح عاملا أساسيا من عوامل سوء التفاهم، بسبب فشلها المبين في التماهي مع القضايا المصيرية، التي تتمحور حولها اهتمامات الشرائح الاجتماعية والثقافية، وذلك حينما تستمر في العمل، بتلك الأنساق التعبيرية، التي تكون قد استنفدت مهامها، في فترات سابقة، ولم تعد مهيأة للقيام بالأدوار التعبيرية، المؤثرة في تفعيل أوليات اللحظة الراهنة. بمعنى أنها أمست متجاوزة، بعد إنجازها ـ ربما- لمهام كانت من قبل منوطة بها، في ظرفية تاريخية معينة، حيث لم يعد ثمة أي مبرر ثقافي، أو معرفي لإعادة توظيفها، في سياقات سياسية واجتماعية جد مختلفة، وجد مغايرة. ذلك أن اللغة، من أجل أن تحظى بثقة المتلقين، بمختلف شرائحهم، ستكون مطالبة بإعادة هيكلة، بنياتها المعجمية والدلالية والتعبيرية، في أفق صياغة أنساق جديدة، تكون قادرة على استقطاب اهتمام المتلقي، بمعنى أن تكون معززة بعمقها العقلاني، وموجهة إلى المستقبل، الواعد بتحققه المحتمل، لأن المواطن عموما، حينما يفقد ثقته بلحظة تاريخية ما، فإنه يفقد بذلك، كل ما له علاقة بهذه اللحظة، وفي مقدمتها الخطابات التي يلوكها الساسة النصابون، ومدعو الثقافة الجماهيرية، على امتداد الجغرافية العربية، السعيدة بما هو مزروع في أحشائها من ألغام.
٭ شاعر وكاتب من المغرب