ادب وفن

عن «ظلال نائية» وأشياء أخرى / د. سمير قادر حبيب

في قراءتنا المجموعة الثانية للقاص جمال نوري التي صدرت عام 1994م بعد مجموعته المشتركة مع القاصة لمياء الآلوسي التي كانت بعنوان "الجدران" عام 1986م، نجد تطورا في منحاه الإبداعي حيث اللغة العامة للسرد و دقة العبارة والأسلوب الفصيح، وتبيان الحالات النفسية للأبطال المطروحة في القصص. كما تنوعت الموضوعات داخل القصص فمن الموضوعات الاجتماعية إلى موضوعة تشير إلى الحرب.
كانت لغة الحوار القصصي بالفصحى بدل العامية وهذا يساعد على أن تكون مفهومة من القراء، الذين لا يفقهون اللهجة المحلية، ومما يزيد تفاؤلا وحماسة اتجاهه إلى الرقي والإبداع في مناحي القص لغة وموضوعا، لأنه يجيد ثلاث لغات قراءة وكتابة مما يعينه على الاطلاع على ما يكتب بهذه اللغات الثلاثة من حيث النص الإبداعي وتطور آفاق القصة في مجالات النقد.
تتوزع المجموعة على شكلين من أشكال القصة وهما القصة القصيرة جدا وهو نوع حديث العهد بالكتابة به من قبل القصاصين العراقيين مع ندرة النصوص في الأدب العربي الحديث ولعل أول من كتب بهذا النوع وأجاد هو القاص إبراهيم أحمد.
أما الأدباء العرب فكان القاص زكريا تامر، وقد تميزت قصصه القصيرة جدا وهي عشر قصص بالنهاية المدهشة في الحدث وبدرجة أقل في بعضها.
أما بالنسبة الى القصص القصيرة فتميزت عن القصة القصيرة جدا في قدرة القاص على ممارسة التجريب بها حيث نرى البطل صامتا وقليل الكلام ومستسلما للواقع غير مدافع عن حاله مع غياب اسم المدينة التي تدور فيها حوادث القصص.
الصيف ذو الحر اللاهب، الشتاء الممطر والريح، الظلام الشديد، تحريك الشخوص داخل القصة في اللحظة الراهنة. و حسنا فعل حين أرخ القصص لنرى تطوره في الكتابة.
* في قصة "حريق" يطرح القاص ثلاثة مواقف أرادها متناقضة لثلاثة عناصر في الأسرة، يجسد حالة معاناة هي موضوعة الكتب التي كانت سببا في الحريق الذي حكمه الصراع في القصة من غير أن يمنحه عمقا أكثر تداخلا في الذوات الثلاث ولو غير موضوعه إلى فكرة العقم التي هي حالة شائعة وطرح أبعادها النفسية والإنسانية لأبطال القصة التي تحاورت منفردة. كما نلاحظ صمت البطل المحوري الذي هو الزوج. لم أكن اسمع صوته قط. كان يؤثر الصمت. وإن أجاب فهو يكتفي بكلمة أو كلمتين.
* الصمت وقلة الكلام ظاهرة واضحة في بطل القصة كما نلاحظ أن طموحاته وآماله لا تتحقق إلا بمستوى الذهن "ها هو ذا في المخزن بدل أن يكون على مقعد وثير. في سيارة زميله".
* سكون البطل هنا سكون سلبي، فهو لا يكسر الصمت حتى بعد أن اقترح عليه أحد زملائه ذلك، فظل يواجه مصيره دون أن ينبس ببنت شبه. "وحين يواجه بموقف يتطلب الحركة أو الكلام يتحول ذلك إلى حوار داخلي فحسب".
* مارس القاص طريقة الاسترجاع في عملية السرد القصصي وبقي البطل كما عهدناه في القصص الثلاثة السابقة صامتا يسترجع من بداية القصة إلى نهايتها وهو جالس على الأريكة إلى أن جاء موظف البلدية الذي أوقف كل شيء عن الحركة كل الضجيج والجلبة وحركة الباعة وعمليات البيع والشراء وحتى شريط الذكريات الذي استرسل فيه الراوي الذي يجلس في المقهى علما أن موظف البلدية على الرصيف الآخر.
* كان القاص موفقا في النهاية التي أوجدها لقصة "قصاصات ورق" حيث المدفأة المتقدة ودموع الزوجة المتقدة كاللهيب، وانفراج ظلفة الشباك التي دفعتها ريح شتوية. وموضوع القصة شائع في القصص والمسرحيات والأفلام وبطرق كوميدية أيضا.
اكتملت القصة ولكن لم نعرف ما هو موقف الزوج الغائب نهائيا إزاء حدث من صميم حياته. وهي القصة القصيرة الوحيدة التي لم يؤرخها الكاتب.
* في قصة "قبل منتصف الليل" نراها موسومة، دلالتها الانطواء والعزلة لا تقوى على مواجهة المواقف الاعتيادية، وتتوجس خيفة منزوية لم تختلط في الموقع الاجتماعية حتى تتصلب هذه الشخصية وتكتسب مقوماتها السوية.
* في المرآة سرد عام لموضوع قصة لا يخلو من الطرافة والجودة. ويمكن أن يطور إلى مستوى أكثر إقناعا من الناحية الفنية لو طرح الحالة في حوار أو أنطق أبطاله لكانت المواقف أكثر حرارة وقوة وتأثيرا في ذهن القارئ.
* والآن مع أحدث قصة قصيرة وردت في المجموعة حيث أرخت عام 1993م، وهي بعنوان "طرقات ناعمة" ركز فيها على شحنة الذكريات في ذاكرة أسير عائد، وقد غيب أسماء المواقع التي تدور فيها القصة. وأرى من الضروري أن يظهر اسم الموقع الذي يبدو في البداية في ريف او قرية ولكنه يتحول إلى حي سكني متكامل حيث الدكاكين والأزقة. ولدي سؤال هل يعقل أن الأسير العائد إلى هذا الحد لا يكترث بعودته وهو غائب لمدة طويلة -ثماني سنوات- وقد قطع القاص لحظة اللقاء "التلهف" مع العلم إنها عقدة القصة الأهم. حصل ذلك من غير أن يكلم بطل القصة أحدا حتى ولو عبر حوار داخلي.