ادب وفن

في رحيل حميد العقابي / عبدالكريم كاصد

قبل ثلاثين عاماً.. أربعين عاماً.. دهراً، ربما، كان لقاؤنا الأول في بيتي في حيّ المهاجرين بدمشق، كنتَ عائداً من إيران، وكان معك الشاعر جمال جمعة، وكان ثمة ضيوف لا يخلو منهم بيتي أبداً: عابرون .. مقاتلون في طريقهم إلى المجهول.. شعراء.. أصدقاءُ حرف.. محبون لم ألتق بهم من قبل.. وكانوا كثيراً ما يُسرّونني أحزانهم، وأسرارهم، وسخطهم، وقد يودعون لديّ ما يملك الفقراء، لعلهم يستعيدونه يوماً إن عادوا أحياء، وقد استعاده البعض، مترددين، خجلين، مع نوبةٍ من بكاء.
كنتَ فتياً وكان جمالُ فتياً وكانت ليلة بيضاء بياضَ خمرتنا الذي احتسيناها فانطلقت ألسننا بالشعر نستردّهُ وننشدُهُ ونمضي معه وبه إلى مجاهلَ نائيةٍ، فكانت ليلة بيضاء حقّاً بكما وبضيوفي وملاكي الحارس الذي غادرني، فيما بعد، وحيداً في عراء هذا العالم. أتذكّر أنني أنشدت آخر قصيدة لديّ آنذاك: "كتاب البصرة" التي سأنشرها في صفحتي تذكاراً لتلك الليلة البيضاء.
وكان لقاؤنا الثاني في برلين. كم سنةً مضتْ؟
جئتَ تعزيني بملاكي الذي غادرني، متلعثماً متعثراً بألفاظك، وكأنك لستَ ذلك الحصيفَ العارفَ بالمفردات، وكأنني فقدتُ ملاكي منذ يوم أو يومين، وليس قبل سنين عجاف.. فما أجملك! وما أنبلك! وما أصدقًك في تعثّر لفظك واستقامةِ روحك وحزنك!
وعدتني بأشياء ووعدتُك بأشياء هي ليست من الأشياء بشيء لأنها أرواحنا التي تنطق ولا تملك أبداً. وحين تحدثنا قبل شهرين، عبر المنتأى الواسع الذي نحن فيه، كنتَ ذلك الوديع الفتيّ ذاته.. المتعثر بحروف محبته، رغم كلّ ما يُحيط بنا من قسوةٍ لا تدفع إلا على السخط، أنت الساخط الكبير في حرفك وروحك، كخديك وخدي حسين الموزاني الساخط والوديع كطفل.
أتراني أحدّثك ثانيةً ذات يوم!؟