تتعدد الزوايا المغرية بالقراءة في رواية "مخيم المواركة" للروائي جابر خليفة جابر, فهي رواية تتكئ على أحداث تاريخية من زمن الأندلس, دون أن تكون وثيقة تاريخية تخوض في أحداث تاريخ "الموريسك" الماضية, وهي كذلك رواية تتخذ لنفسها شكلا فنيا جديرا بالاهتمام لم نعهده في الكثير من الروايات العربية, فقد أتت تبني عوالمها, وتشيد صرح معمارها الفني من خلال تقنية انتفاء صوت السارد الواحد وتعويضه بأصوات متدخلين متعددين وعديدين, يرسمون معالم الرواية ويحددون مسار نمو أحداثها , وبالتالي يشيدون المعمار الفني للرواية بتدخلهم الفعلي في صنع الأحداث من خلال ما يأتون به من"قصاصات سردية" أو" حبات قصصية" على حد تعبير المؤلف.
لقد كانت الفكرة الأساس التي تنهض عليها الرواية هي الاستعداد لإقامة المخيم والتحضيرات, يحاكي فيها القائمون على المخيم ما عاشه الموريسكيون من فظاعات التشرد والإبادة الجماعية أثناء الإبعاد والتهجير التي عاشوها في فترة ماضية من التاريخ لا تزال تلقي بظلالها حتى الآن على فهمنا واستيعابنا لما جرى تحديدا": المخيم بشكله وتنقلاته وطريقة توزيع الخيام القريبة إلى الفوضى والتشتت, أريد لها أن تحاكي عمليات الطرد الوحشية التي تعرض لها شعب كامل بمختلف انتماءاته وأطيافه، أما التيمة الأساس لفكرة المخيم فهي اجتماعاتنا أو حفلاتنا القصصية والتي ابتدأت بأن يطرح أي مشارك ما يعرفه من حكايات المواركة بجمل مكثفة كتلك التي تبادلتها مع الدكتور رودميرو يمكن أن أسميها قصاصات سردية أو حبات قصصية".. ص 20 .
أما مضمون الفكرة فيتلخص في إقامة المخيم ليحتضن لقاءات بين مهتمين وشغوفين بتاريخ المواركة لمحاولة استعادة ما عاشوه من ويلات داخل مخيمات متنقلة عبر التراب الإسباني, ورسم مشاهد تحاكي الفترة التاريخية نفسها بأن تحاول كل مجموعة أن تطرح ما تعرفه من حكايات حول النكبة في جمل مكثفة أعطاها المؤلف إسما خاصا بها ,لتأخذ الرواية من خلال هذا, طابعها الجماعي "ينبغي أن تتذكر أننا جميعا شاركنا في إعداد وكتابة هذه الجمل المكثفة,لقد اشتركنا حتى في كتابة الجملة الواحدة,كلمة من هذا أو ذاك, حتى نستقر على الصياغة الأخيرة لها" ص 21 , وبهذا تكون أحداث الرواية,تنمو من خلال تدخلات المشاركات والمشاركين في أعمال المخيم وأنشطته, بإضافة آرائهم وتعليقاتهم وملاحظاتهم,فيرسمون بالتالي اتجاه الأحداث ويساهمون في بناء الرواية, حسب قناعات وفهم كل فريق واستخلاصاته لنتائج خاصة من إدراكه ووعيه بأحداث تلك الحقبة من التاريخ.. فلا غرو أن تتعدد الأصوات وتختلف الآراء الواردة في الرواية, والتي كان مؤلفو قصاصاتها يرونها هي الصحيحة وجديرة بأن تكون هي الحقيقة, فكان يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى أن تثير قصاصة فريق معين دهشة فريق آخر, فيتدخل بملاحظاته وتصحيح ما يراه إخلالا في تقديم المعلومة أو يراه لا ينسجم مع السياق العام لفكرة بناء النص:" ما ورد في النهاية المقترحة للحكاية من خيمة البشرات أثار دهشتنا لأنه تضمن خطأ فنيا واضحا يظهر منه أن الخاتمة كانت مختلفة, لأن كريما أعلم المراهقة القشتالية باسمه"كاسياس" فلماذا يسأل المحققون عن إسمه؟" ص 43, والاختلاف في وجهات النظر هذا, بقدر ما كان يؤدي إلى أن تنتهي حكاية قصاصة سردية بنهايات مختلفة ومتعددة بقدر ما كانت أحداث الرواية تنمو وتتطور, وتأخذ أبعادا أخرى وتشعبات تغني في بناء الحكايات والقصة عموما, فلا غرابة أن تأتي الرواية غنية بعناوين فرعية عديدة في صفحاتها, لأنها عناوين لقصاصات كتبتها المجموعات المشاركة في المخيم حول موضوع نكبة المواركة, هذه القصاصات السردية الصغيرة التي تلتحم فيما بينها لتكوين جسم لحكاية كبيرة يحمل إسم الرواية, هذه القصاصات التي لم تكن اعتباطية بل تنضبط لسياق الفكرة المقترحة وحدودها ثم الرجوع إلى المراجع التاريخية لتصحيح ما يرد من طرف كل مجموعة على حدة,فقد كانت المراجع ذات المصداقية التاريخية هي الفيصل في الإتفاق على الصياغة النهائية لوقائع تاريخية مذكورة على لسان كل واحد قبل أن يتم اعتمادها والإتفاق على تسجيلها بصيغة نهائية رغم أنه أحيانا يتعذر أن تنتهي قصاصة بصيغة واحدة فتأتي بخلاصات مختلفة, كتلك الخلاصات المتعددة حول مصير "بدر" بعد قتاله البطولي للقشتاليين, وماذا كانت آخر أيام عمره في الحياة, وكيف انتهت به هذه الحياة.. إلا أنه لا ينبغي أن نفهم أن المجموعات المشاركة في المخيم, كانت تشتغل بلا قائد يرسم حدود الأشياء والمسار الذي ينبغي أن تسير فيه وإليه, فالخيط الناظم والضابط للحكاية كلها كان بيد المشرف الأول على المخيم,لذا كان لا يترك الأمور تفلت من يده وتخرج عن السيطرة, حتى لا تحيد الحكاية أو القصاصة السردية عن السياق العام لعالم الرواية, من هنا كانت تدخلاته تتكرر كلما لزم الأمر ذلك:"أراسلك غدا إن شاء الله, أشعر بالإرهاق, للتذكير فقط,وعدت خيمتا "البشرات" و"إشبيلية" بإضافات موضحة لوقائع الحكاية,حكاية المايوركا."ص44.. ونحن نقترب من نهاية الرواية, صار من المعلوم أن الذي كان يمسك بخيوط كل ما يجري في المخيم ويتتبع نمو أحداث الرواية, وكيف يتأثث معمارها فنيا ,كان هو "الدكتور أحمد رودميرو" الذي "رسم كل شيء من البدء وتحكم بي من دون أن أشعر, وكل ما رسمه يسير الآن وفقا لما خطط" ص 109.. وكأن المؤلف في نهاية الأمر كان يكتب وفق إرادة أخرى رسمت كل العالم الذي تحتويه الرواية, وهي فكرة تؤدي معنى غياب المؤلف وإظهار أن صناعة الأثر الإبداعي كان من طرف متدخلين آخرين يكتفي هو معهم بالتتبع والمراقبة وبنصيب من المشاركة مثله مثل "المؤلفين الجماعيين الآخرين " .. إذا كان من مميزات رواية "مخيم المواركة" هذا التعدد الصوتي في بناء أحداث الرواية وتطويرها من خلال تدخلات المشاركات والمشاركين في أشغال المخيم ,فإن التميز الآخر هو هذا الإنتقال من راو إلى آخر لتمر أحداث الرواية عبر عديد من الشفاه تتناقلها بحكم القرابة أو المعرفة, فالرواية غير معروف خالقها الفرد الأول, وصانعها, فهي تصدر عن "عمار اشبيلو" الذي أرسلها كاملة إلى بريد المؤلف , ولأن عمار اشبيلو نفسه يعترف بأنه "نقلها عن راو آخر, من أسلافه, عاش قبل أكثر من أربعة قرون,واسمه عمار اشبيلو أيضا (......), ولأن عمار اشبيلو الأول لم يذكر لنا بالتحديد من هو مؤلف الرواية (........).. لهذه الأسباب مجتمعة, ولكي لا يضيع القارئ في متاهة البحث عن المؤلف, قررت ان أدعي تأليف الرواية,وأضع اسمي على غلافها.."ص 7... وهذا ما منح الرواية رحابة في حمل الأفكار المختلفة والآراء المتعددة , لتبدو في النهاية وكأنها حلقة نقاش وتبادل للآراء ,تناولت فيها موضوعا من التاريخ يتعلق بمأساة المواركة في الأندلس وأخضعته لوجهات نظر متعددة,لاشك أن أي قارئ يتناول الرواية سيعيد مراجعة أفكاره ويقينياته حول الموضوع, ويدلي بما عنده فيصير بالتالي أحد المشاركين في توسيع بناء آفاق الرواية في كتابتها وصنع أحداثها وتصير مشاركته الفعلية هي التكنيك الذي يقبض عليه الروائي "جابر خليفة" ويعتمده في إنجاز عوالم وتطوير أحداث هذا الصرح الإبداعي المتميز بالتجريب في البناء المعماري المختلف عن السائد في الرواية العربية الحديثة.
ـــــــــــــــــــــــــ
ناقد من المغرب