على غير عادته، طرق مبكراً الباب! وطلب مني الاسراع، لان هناك من ينتظرني..! مهرولاً "بالدشداشة" توجهت وزميلي نحو بيتهم.. كنا في الصف الثالث المتوسط، وكنا نلتقي يومياً للتهيؤ للامتحان النهائي:، كنت اشعر بالتوتر والقلق لمعرفة ذلك الشخص الذي يطلب لقائي حيث اقسم صديقي بانه لايعرف أسمه ولم يشاهده قبل اليوم، عندما طرق الباب وقدم نفسه انه: (ابو سلام). دلفت الغرفة مسرعاً وهناك التقيت به، كان منزوياً على أحد الكراسي، يبتسم وينظر الي بشفافية.. أبتسامته ملأت الغرفة فرحاً. هذا ما شعرت به في تلك اللحظة... دشداشة وحزام عريض.. والكوفية (اليشماغ) على كتفه ويلبس عرقجيناً على رأسه (طاقية).. لحظة اللقاء ولست ادري لماذا؟ وكيف؟ .. أحسست بأني اعرفه، وبادرني بالسلام ، مستفسراً عن الدراسة، عن صحة والدي ووالدتي.. أجبته وأنظر اليه متسائلاً: ماذا يريد مني هذا الغريب الذي دخل القلب وسحرني منذ اللحظة الأولى؟ أنظر الى وجهه الرجولي الطفولي الوديع.. لقد كان ينشر الحب في كل كلمة ونظرة ولفتة، سحرت به وعشقته دون ان أعرف من هو..؟ أنتظر متلهفاً ومتسائلاً في داخلي ماذا يريد؟ انه يعرفني وينظر الي بود وحب اجتاح كل كياني... بهدوء اخرج من جيبه قلماً وعلبة سكاير (لوكس ملوكي) . كان ينظر في عيوني وباغتني سؤاله: من هم الشيوعيون في (شهربان) ؟.. لست أدري لماذا؟ ولم استغرب من سؤاله، وفي تلك اللحظات كانت أفكاري تستعرض كل حارات وبيوت مدينتي الجميلة... مستذكراً ما أعرفه او سمعته عن هؤلاء الناس.. الذي كنت احياناً اشاهد احدهم مع همسات الناس انه شيوعي... أحياناً سمعت ذلك في اطراف محلتنا "النجاجير" او في السوق كنا نحبهم ونفرح عندما نلتقي بهم: ذكرت له: ان "فلان" نسيت اسمه كان جندياً غير مسلح كريم العين وقد هرب من الجيش ويسكن في بساتينهم قرب "امام مسافر" واحياناً كنت اراه يسلم ويختفي مسرعاً.. وآخر أسمه "خليل كندوري" كان صاحب دكان لبيع التتن والسكاير.. كنت أذهب اليه باستمرار لشراء سكائر "المزبن" لوالدتي... كنت اشاهد العديد من اصدقائه موجودين أمام الدكان، يحادثهم ويبيع للزبائن... يقولون عنه.. انه شيوعي! وثالث آخر، دكان يوزع الشاي من قهوة والده الصغيرة الى الدكاكين المجاورة، وكنت أعجب به عندما أراه حاملاً اكثر من أستكان في يد واحدة، يتنقل بين الدكاكين بسرعة وهو يدندن أو يغني.. كان محبوباً كانوا يقولون انه شيوعي، أتذكر كان.. "أسمه فخري الياس"..كان الذي جاء يسأل عني يكتب ملاحظاته على ظهر باكيت السكاير!! وينظر الي مبتسماً ومشجعاً لكي أسترسل... وسألني فجأة من هو الذي يمكن الاعتماد عليه من هؤلاء الثلاثة؟! أحسست أنه يعرفهم!! وبتلقائية مغموراً بسحره، اجبته انه "خليل" وأضفت لديهم بقالة في بداية المدينة، يمكن الاستفاة منها واللقاء فيها بعيداً عن الآخرين!! وتوصيل النشرات!! أبتسم وسألني هل أنت متأكد؟ لماذا هو وليس غيره؟ انه محبوب من الناس ودائماً كان العديد يقفون امام دكانه يحادثهم ويضحكون وهو يكلمهم ويبيع السكائر والتتن وخاصة "المزبن" وأصفن اني لا اذهب للسوق إلا لشراء سكاير المزبن لوالدتي!.. أعتقد أنه شيوعي...وهنا توقفت مفكراً بأسئلته وأجوبتي السريعة وهناك شيء مهم أخر هو أنني لم أكن شيوعياً.. أحياناً كنت أقرأ بيانات "اتحاد الطلبة" عن طريق صديق للعائلة من بعقوبة انه "فاروق عبد الله" أو "حامد مقصود" عند مرورهم ببيتنا بعد ثورة تموز 1958. حصلت على شرف عضوية الحزب الشيوعي، وكنت طالباً في كلية الزراعة وعضواً في اتحاد الطلبة ولجنة ريف ابو غريب.وفي تظاهرة أول ايار 959 كنت بين حشود المتظاهرين والحشود التي تحتفل بعيد العمال وتطالب باشراك الحزب الشيوعي بالحكم حتى الشرطة كانت تهتف أسأل الشرطة ماذا تريد؟ وطن حر وشعب سعيد.. وحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم!!.. وفي شارع الرشيد، قرب اورزدي باك لمحته أيضاً كان وآخرون في مقدمة التظاهرة، ركضت نحوه وعانقته وسألني عن حالي، قلت له كما تراني!! ثم انتقل بسرعة بعد همسة من أحدهم وأردف زين... زين... ثم أختفى ولم أره بعد ذلك مطلقاً...
- في سجن الكوت كنت موقوفاً بعد انقلاب شباط الدموي... وهناك سمعنا خبر أعدام قادة حزبنا الشيوعي وكان هو من بينهم لقد أنطفأت شمعة، ولكن ذلك الوهج الساحر، ذلك الرجل البسيط في المدينة ...
اجاب: أعرف ذلك..!! فكرت انه يعرف، يعرف كل شيء؟ من هو وكيف يعرف كل ذلك؟. هذا ما كنت افكر به!! وضع باكيت السيكاير " لوكس ملوكي" في جيبه وأنتقل في حديثه فجأة الى الدراسة والامتحانات والكتب التي أقرأها وهي روايات بوليسية ومجلة الهلال وبعض القصص كما قلت له: احب "دارون".. رفع رأسه وأتسعت ابتسامته ونظر الى ساعته وغادرنا.. لقد ذهب كأنه خيال... لم يقل أسمه ولكني كنت أجيب عن اسئلته بتلقائية لقد كان يجول في داخلي.. كم تمنيت ان يطول اللقاء معه.
بعد نحو عامين من هذا اللقاء كنت في ثانوية بعقوبة رئيساً لاتحاد الطلبة ونشطت وأقترحت مع زملائي أصدار صحيفة جدارية، وبعد اسابيع كانت الجدارية ازهرت بمجاورة لوحة الاعلانات مكتوبة باليد.. قصص، اشعار، صور كاريكارتير، نكات، اسماء المتفوقين في الدراسة وسميناها "صوت الطلبة" أتذكر ذلك اليوم السعيد عندما نجمع الطلاب امام الجدارية.. هذه النشرة الغريبة عليهم والتي ظهرت فجأة حيث تم تعليقها بعد دخول الطلبة للدرس الأول وشاهدوها لدى خروجهم.. وخرحت أيضاً عندما توقف مدرس الرياضيات ومعاون المدير وأخذ يقرأ مواد الجريدة.. قبل مواصلة السير الى الغرفة بعد فترة أعتقلت في مركز شرطة بعقوبة وهناك التقيت بالعديد من الموقوفين وكان بينهم بعض الشيوعيين والذين يحظون بأحترام الجميع... حتى الشرطة!! أتذكر منهم "جبار أبودية"، عبد الله أبراهيم الكبابجي وعبد الخالق جودت، كنت أستمع لهمساتهم.. أحياناً كنت أسمع اسم "ابو سلام!!" يتردد في همساتهم.. يتكلمون عنه ومن خلال همساتهم علمت ان الشرطة والامن تبحث عنه حيث أختفى!!.. وكانوا يتهامسون سوف لن يلكوه ابداً... لست ادري ولكن هذا ما فكرت به هناك، كنت متأكداً انهم يتكلمون عن ذلك الشخص الغريب الذي التقيته قبل سنتين! نعم أنه هو الرجل الذي أعجبت به، انه ( ابوسلام!!) هذا ما كنت اعتقده؟! المتوهج شعلة وحناناً، كان يدخل قلوب الناس ويتنقل فيما بينهم كانه ساحر جميل.. تسمعه هنا، ويظهر هناك ويترك أثاره كرائحة قداح البرتقال.. ذلك الانسان البسيط والرجل، الذي التقيت به ولم أكن شيوعياً.. بعد ذلك وحتى الان لا اتمكن نسيانه ابداً انه يعيش في ذاكرتي ويشد عزمي وتعلمت منه حب الناس، علمني التواضع والعطاء...
اليوم أنحني له في ذكرى استشهاده، انحني لتواضعه الجم، كان دائماً بين الناس، يعرف كل شيء عن جماهير محافظته التي كان مكلفاً بمسؤولية قيادتها... في محافظة البرتقال، محافظة ديالى ولا يزال أريج عطره خالداً يتجدد مع رائحة القداح..
انه الشهيد البطل حسن عوينه.