مدارات

صفحة المجد والخلود : الحاج بشير أحمد مختار الحجازي / محمد علي محيي الدين

كتبت ذات يوم عن الفقيد عامر الصافي ،ونضاله في الحزب الشيوعي العراقي ،فكانت مداخلة للدكتور عدنان الظاهر فيها بعض العتب أو التنبيه بضرورة الكتابة عن الحاج بشير ويومها لم املك من المعلومات ما يمكنني من الكتابة عنه وعن دوره في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي ،فأخذت بالبحث والتنقيب والسؤال والاستفسار من قدامى الشيوعيين عنه وعن تاريخه لأنه قتل وأنا أبن ثلاث سنين،ولأن جمع المعلومات وتوثيقها يحتاج إلى جهد ووقت ،فقد واجهت صعوبة في الحصول على ما اريد فكانت معلومات عامة لا ترقى إلى مستوى الكتابة، وأطلعت على كتاب أصدره الباحث عامر تاج الدين عن تأريخ الأحزاب السياسية في الحلة فوجدت فيه الكثير من المعلومات المفيدة عن الشهيد الشيوعي الحاج بشير ،فكانت دافعا لإعادة التحرك والبحث مجددا بعد أن توفرت لي معلومات ممن عرفه أو سمع عن أخباره وخصوصا من أسرة السيد حسين أبو ناصر التي جلبته من الحجاز.
قال الدكتور عدنان نتفة (أحسنَ الأستاذ محمد علي محيي الدين صنعاً إذ ْ شرع بتقديم مذكرات شخصية توثّق تأريخ بعض وجوه مدينة الحلة وباقي أقضية ونواحي محافظة بابل من الساسة القدماء الذين قضوا عقوداً من أعمارهم مناضلين مع أو في صفوف الحزب الشيوعي العراقي . كانت الحلقة الأخيرة مخصصة للمرحوم عامر السيد حسين الصافي قرأتها منشورة في بعض المواقع . نعم ، أحسن الأستاذ محيي الدين ولكن،كان يمكن أن يكون إحسانه أكثر وأكبر وأعم لو تطرق إلى أمر هام جداً ما دام الكلام عن مناضلي الحزب الشيوعي العراقي . أقصد أن يذكر حادثة مقتل ( الحاج بشير ) في سجن بغداد على أيدي قوات شرطة نوري السعيد والعهد الملكي الذي ناصبه المرحوم عامر العداء فكان أحد ضحاياه المعروفين في مدينة الحلة . فمن هو الحاج بشير وما علاقته بالسيد عامر الصافي ؟ إنه أجير آل الصافي ... يعرفه الحلاويون تمام المعرفة ... كان حارسهم الشجاع الأمين الذي لا تفارقه بندقيته ، و كان مسؤول إعداد وتجهيز القهوة العربية لضيوف آل الصافي . كان مضيفهم المفتوح على مصراعيه نهاراً وليلاً يشغل الحجرة الأولى من بيتهم المتواضع الواقع على الشارع الرئيس الذي يربط مركز مدينة الحلة بباب المشهد ، أي بداية الطريق الذي يربط الحلة بالنجف التي يسميها الحلاويون " المشهد " أو " مشهد النجف " . وكان يشغل الجزء الآخر من هذا البيت مكتب المحامي السيد منصور الصافي)) ( ).
في العام 1941 توجه السيد حسين الصافي إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج،ولأنه من الوجوه الاجتماعية المعروفة وأصحاب المجالس في الحلة ،ومن الملاكين الكبار في قرية الزرفية التابعة إلى ناحية القاسم فقد جلب معه الحاج بشير أحمد مختار ليقوم بتوزيع القهوة على رواد مجلسه اليومي ،وحراسته على عادة شيوخ تلك الأيام،ومارس الحاج عمله بكل جد ونشاط بما توفر عليه من نفس طيبة وقابلية فريدة في عمل القهوة العربية التي كانت يوم ذاك من لوازم الحياة ،وحل محلها الشاي في الوقت الحاضر،فكانت قهوته مثار إعجاب شاربها لما تميزت به من نكهة وإتقان،واستطاع من خلال عمله في منزل السيد أن يجعل له مكانة خاصة في نفوس الناس لما عليه من طيبة وخلق رفيع وتعامل محبب مع الأوساط ألاجتماعية المختلفة التي كانت تؤم دار السيد،وأستطاع أن يكتسب الكثير من المعارف من خلال حضوره الدائم في المضيف ومن خلال استماعه لما يدور من أحاديث في المجلس لأن المجالس مدارس كما يقال ، فنمت في نفسه الكبيرة الكثير من الأمور التي نمت مداركه وفتحت عينيه على الحياة، وجعلته ينظر إلى الواقع الطبقي نظرة جديدة من خلال الحياة التي تعيشها القلة من الملاكين والتجار والأكثرية الساحقة من المعدمين- فلاحين، عمال، كسبة- وتمكن من فهم الصراع الطبقي على طبيعته الماثلة مما جعله يفهم مستقبلا طبيعة الصراع من خلال النظرية التي مارسها عمليا ووجدها مسطرة في صفحات الكتب، وربما كان لتأثير الأحاديث التي تدور في المجلس أن تحدد توجهاته السياسية فيما بعد نظرا للفارق الكبير في حياة الطبقة الغنية وطبقات المجتمع الأخرى، وقد ذكر لي الفقيد عامر الصافي أن الحاج بشير كان يستغل توافد الفلاحين إلى منزل السيد حسين الصافي لكسبهم إلى الحزب، وكان يعقد اجتماعاته في بيت السيد لأن السيد كان كثير التنقل والتجوال بحكم علاقاته مع الآخرين ، فوصلت الأخبار إلى القوى الأمنية وكشفت العلاقة التي تربطه بالحزب، فقد أخبر بهجت العطية السيد حسين بنشاطات الحاج بشير وطلب منه منعه من ممارسة العمل السياسي ونشر الأفكار (الهدامة) بين الناس، وعندما طلب السيد من الحاج بشير ترك العمل السياسي رفض ذلك ورأى الاستقلال بعمله والخروج إلى الحياة العامة، فانصرف للعمل على حسابه الخاص بعد أن عرف بين الناس بإجادته لعمل القهوة ، فكان يحمل الدلة بيده ويطوف على المقاهي والمحلات والفنادق والأسواق ليشربها الناس فيعطيه كل منهم على قدر منزلته الاجتماعية وقدرته المادية،فاستقامت حياته الاقتصادية باعتماده على هذا المورد،وجعل لنفسه مكانا جديدا في المجتمع.
وبتأثير لقاءاته مع الطبقة المثقفة أستطاع الإلمام بشيء من المعرفة التي أهلته فيما بعد لاختيار موقفه من الصراع الناشب بين السلطة والشعب، فكان انحيازه الكامل لطبقته التي عاشت المأساة الحقيقية بما أحاق بها من ظلم كبير جراء التعامل اللاإنساني للطبقة الحاكمة، فكانت البداية لتأثره بالأفكار الشيوعية التي تجد أرضيتها الخصبة بين الطبقات المضطهدة، لأنها تناغم مشاعرهم بإزالة الفوارق الطبقية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وربما كان لتأثير أبناء السيد حسين على توجهاته الأثر الكبير فقد كان السيد عامر الصافي من الشيوعيين المعروفين في الأربعينيات وشقيقه منصور من العاملين في التيار الديمقراطي العراقي، وربما كان لهذين تأثيرهما على تحديد توجهاته مما يضاف إلى وعيه المبكر لطبيعة الصراع من خلال معاناته الذاتية بوصفه مملوكا أو تابعا للطبقة الثرية، التي قسم المجتمع بموجبها إلى سادة وعبيد، لذلك أختار طريقه وانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي وأصبح في طلائع العاملين لنشر أفكاره وتقوية تنظيمه كما سنبين ذلك في القادم من الصفحات.
وكان لعمله بائعا جوالا أثر كبير في عمله النضالي فكان يوزع البيانات والمنشورات من خلال تجواله وتوزيعه القهوة فيدس المنشور خفية دون أن يثير الانتباه ،ولعلاقته المتميزة بالكسبة والعمال والفلاحين أستطاع كسب الكثيرين منهم لحزبه المجيد فكان مسؤولا لعدد من الخلايا،وربما كان لتأثيره وتأثير عامر أثره على الريف فقد أصبح في قرية الزرفية تنظيم واسع للحزب الشيوعي العراقي كان من طلائعه آل الصافي وخصوصا السيد علي السيد ياسر صافي الذي كان من أوائل الشيوعيين في المنطقة في العهد الملكي،و كان في مقدمة المشاركين في وثبة كانون الوطنية التحررية عام 1948، وشارك في التظاهرة الكبرى التي جابت شوارع الحلة وأحرقت دار الاستعلامات البريطاني ،وبعد فرض حالة الطوارئ وإعلان الأحكام العرفية على خلفية تحرك الجيوش العربية لبيع فلسطين أصدر النظام الملكي العاثر حكما بالإعدام على قادة الحزب الشيوعي العراقي بحجة مواصلتهم العمل السياسي وهم في السجن من خلال الرسالة التي عثر عليها في جيب يهودا صديق،فكان هذا القرار المجحف بداية لانطلاق تظاهرة كبرى يوم 21/1/1949 قبل تنفيذ حكم الإعدام بثلاثة وعشرين يوما سبقها جمع التواقيع في عموم لواء الحلة لإيقاف تنفيذ الحكم وإلغائه وقد خرجت المظاهرة الكبرى في اليوم المذكور شارك فيها المئات من أبناء الشعب العراقي، وكانت بداية انطلاقتها من سوق الحلة الكبير باتجاه حديقة النساء وقد رفع المتظاهرون الشعارات المنددة بالسلطة الملكية العميلة وعملاء حلف بغداد ومطالبين بإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وقادة الحزب الشيوعي العراقي وبعد أن جابت شارع المدينة توجهت إلى منطقة الهيتاويين وتفرقت هناك ولم تستطع قوات الشرطة تفريقها لوصولهم متأخرين أولا وخشية من إثارة الرأي العام وتحول الأمر إلى انتفاضة عارمة مما يؤدي إلى إثارة إشكالات كانت السلطة العميلة تحسب لها حسابها، وبعد تفرق المتظاهرين جن جنون السلطة فقامت بحملة اعتقالات واسعة طالت الكثير من أبناء الحلة من الشيوعيين وأنصارهم، وقد أظهرت التظاهرة القوة القاهرة للشيوعيين وهيمنتهم على الشارع العراقي مما أثار رعب السلطة، ومن الشيوعيين المعتقلين، الحاج بشير الحجازي وجاسم محمد العنيبي وموسى نادي علي الطائي وعدنان يحيى وخليل كمال الدين وعبد الرزاق جمعه ورفيق كاظم وعبد الله عبد الشهيد وكاظم المرعب ومحمد علي الماشطة وعلي عبد الصاحب وعامر الصافي وطالب حسين الشبيب ومحمد جواد مجيد الشريفي وعبد الجبار حسن ووجيه عبد الله وعلي الماشطة وحمزة محمد حسين الحلي وكاظم الجاسم وبدر كاظم الحبيب ومحمد علي اللبان وكاظم جواد عبد الجبار وكريم كربل واحمد شهاب الكوماني وعبد الحسين الجنابي وراضي السيد علي وسيد حسين السيد موسى ومحمد علي البزاز وجابر محمد الغركان وهاشم محمد وفخري مطلوب وعنون مهدي ومكي صالح ومهدي محمد سعيد وكاظم حسن وممتاز كامل وجعفر اللبان ومحمد علي رفيق وحليم منجي وجليل المعروف وحليم المرعب ونعيم صالح ويوسف نسيم وداود الياهو وعباس كربل وغالب ياسر وكاظم طالب وطالب حسين الشبيب وخالد محي الدين، وغيرهم كثيرون.( )
وقد أصدرت محاكم النظام الملكي أحكامها القاسية بحق المشاركين وتراوحت الأحكام من سنة إلى ثلاث سنوات وأطلق سراح البعض منهم لعدم كفاية الأدلة أو لتأثيرات العلاقات الاجتماعية والوساطة السائدة تلك الفترة،وكان للرأي العام تأثيره في تخفيف تلك الأحكام فقد أنبرى للدفاع عنهم خيرة المحامين الوافدين من بغداد ممن كانوا حماة أباة لجميع المناضلين في العراق يتوكلون للدفاع عنهم دون طمع بمغنم أو كسب.
وفي سنة 1952 بعد انتفاضة تشرين الثاني القي القبض على الكثير من الخلايا الشيوعية في الحلة على أثر الانتفاضة الشعبية العارمة، نتيجة اعترافات عبد الرزاق جمعة سكرتير محلية بابل الذي أنهار وأدلى باعترافات خطيرة،والقي القبض على أعضاء المحلية وهم كل من :علي عبد الصاحب وعبد الله عبد الشهيد ورفيق كاظم وكاظم ناجي المرعب ومحمد علي الماشطة، وقد أعترف عبد الرزاق جمعة على مسؤولي اللجان والخلايا واشتراكهم في التظاهرات وهم كل من: جابر محمد حسن مسؤول الطلبة، طالب حسين الشبيب غالب ياسر وعامر الصافي ومحمد جواد الشريفي وعبد الجبار حسن ووجيه عبد الله وكاظم طالب وكريم شهيد وعلي الماشطة وحمزة محمد حسين وبدر كاظم الحبيب واحمد عبد الحسين وعبد الله عبد الشهيد وكاظم جواد وكاظم المرعب وكريم كربل ورفيق كاظم وأحمد شهاب الكوماني،وكانت هذه الضربة الموجعة سببا في ضربات متتالية حيث القي القبض على عبد الله عبد الشهيد فأعترف على عبد الحسين الجنابي وراضي السيد علي والحاج بشير وجماعته وهم كل من عبد الزهرة ونوري حسين وحسين سعيد موسى ومحمد علي البزاز، واعترف على أعضاء المحلية وهم كل من جاسم محمد حلاوي وعبد الله محمد علي ومحمد عبد اللطيف وجاسم محمد العنيبي،ومحمد حسن الوائلي وهادي كاظم وشاكر فياض وأعترف على مسؤولي الخلايا واللجان الأخرى، حمزة محمد الغركان وهاشم محمد وفخري الخياط وعنون مهدي ومهدي محمد صالح، وكاظم حسن وممتاز كامل وجعفر عبد الحسين اللبان ومحمد علي رفيق وحليم منجي وجليل باقر المعروف وحليم المرعب ورزاق عبد اللطيف المعروف ونعيم صالح ويوسف نسيم أبو زنة وداود الياهو وهاني كاظم ومحمد علي اللبان وغيرهم.
ولضعف صمود المذكور فقد أدلى بكل ما لديه من معلومات عن شيوعيي بابل وأعترف على مسؤولي الخلايا وأسماء أعضائها فعمت الاعتقالات المدينة ولم يسلم بيت من معتقل أو أكثر،ورغم الضربة الموجعة إلا أن الشيوعيين كانوا يمارسون نشاطهم من خلال الخلايا الأخرى التي سلمت من الاعتقال والرفاق الآخرين الذين لم تستطع الشرطة إلقاء القبض عليهم،وكان هذا النشاط يثير قوى الأمن ، فجرى الاتفاق بين التحقيقات الجنائية والمنهار هادي سعيد على كشف الخطوط الأخرى وإرشادهم إلى محطة تسليم البريد الحزبي فأرسل إلى الحلة بصحبة مجموعة من افراد التحقيقات الجنائية على أساس أنهم شيوعيون لكشف وإلقاء القبض على الناجين من الاعتقال،وإنهاء التنظيمات الشيوعية في اللواء، وقد زود المذكور ببعض الأدبيات الشيوعية لتمرير القضية،على أن يطلب من محطة البريد الحزبي اللقاء بالمسؤول الأول لوجود تعليمات شفوية لإبلاغها له،وعندما وصلوا الحلة اتصلوا بكاظم ناجي المرعب المسؤول عن البريد واستلم الرسائل الواردة وطلبوا منه تبليغ المسؤول بالحضور فوعدهم بذلك،وبعد ساعة أخبرهم بموعد اللقاء والعلامة المتفق عليها وساعة اللقاء، وقد حضر شخص في الموعد والساعة والعلامة المتفق عليها فألقت الشرطة القبض عليه،وسيق إلى أمن الحلة وكان الرفيق (علي عبد الصاحب الكريمي) وهو نائب السكرتير ،وقد أنهار جراء التعذيب وأرشدهم إلى مكان المسؤول ومن يعرفهم من الشيوعيين فالقي القبض على عبد الرزاق جمعة ومعه نشرات وتقارير ونسخ من جريدة منطقة الفرات الأوسط (صوت الفرات)،ولم يستطع الصمود أمام التعذيب البشع الذي تعرض له فانهار وأدلى بمعلومات عن التنظيمات الشيوعية ومسؤولي المناطق وأعضاء المحلية وكانوا كل من الرفاق،رفيق كاظم عضو محلية وكاظم ناجي المرعب عضو محلية ومحمد علي عبد الكريم الماشطة وبدر كاظم الحبيب مسؤول المدحتية،وصاحب حسون مراسل الحزب بين الحلة وكربلاء وكريم كربل مسؤول خلية ومسؤول نقل البريد بين السجن والمنظمة،وعبد الحسين علوان مسؤول الطلبة،واحمد عبد الحسين عضو لجنة مدينة،وجابر محمد غركان مسؤول العمال، ومجيد محمود مطلب مسؤول خلية،واحمد شهاب مسؤول طلبة الثانوية المسائية،والحاج بشير مسؤول لعدة خلايا فلاحيه وعمالية،وأعضاء آخرين زادوا عن العشرة أشخاص.
وقد قامت التحقيقات الجنائية بتعذيب المعتقلين ،الحاج بشير وجواد كاظم وهادي كاظم ورسمية كاظم ومسلم مهدي وصادق قدير وهادي الشيخ ناجي،،فأقام هؤلاء دعوى لدى المحاكم على التحقيقات الجنائية تولى الدفاع عنهم المحامون كاظم جعفر ورزوق تلو ومحمد بابان ،وشهد لصالحهم أثنا عشر شاهدا متهمين المفوض جواد محمد الربيعي بتعذيبهم مع منتسبي الدائرة، وقد أثارت الصحف العراقية اهتمام المواطنين بنشرها أخبار الدعوى، وقدمت نقابة المحامين مذكرة إلى وزارة العدل في 18-3-1952 وصفوا فيها ما تعرض له المعتقلون من تعذيب ومخالفة التحقيقات الجنائية للقوانين المرعية في البلاد،وعرض الحاج بشير وجماعته الموقوفين في سجن الحلة أمام محكمة جزاء الحلة في 1-4-1952 ولعدم حضور الشهود أجلت الدعوى إلى يوم 8-4-1952 ،وأصدرت مديرية الدعاية (وزارة الأعلام) بيانا نددت به بقيام الصحف بنشر أخبار التعذيب وما يقدمه المعتقلون من برقيات، لأن هؤلاء يقومون بنشر الأفكار الشيوعية(الهدامة) واعترفوا بانتمائهم أمام قاضي التحقيق دون جبر أو أكراه أو أي ممارسة لتهديد أو تعذيب،وإنهم لم يرفعوا أي طلب إلى المنطقة العدلية في الحلة حتى يوم 10-3-1952 حيث قدموا عريضة إلى الرئاسة أدعوا تعرضهم للتعذيب فشكلت لجنة لتحري إدعائهم برئاسة الدكتور عبد الرسول حداد وعضوية الدكتور هيتر هيزل النمساوي الجنسية لفحصهم لمعرفة الحقيقة وقد رفضوا عرض أنفسهم على اللجنة المذكورة وواصلوا إرسال البرقيات إلى الصحف والجهات المسؤولة وقام أهاليهم بإثارة الشغب والدعاية لتخليص أبنائهم من العقاب ،لذا يمنع منعا باتا نشر مثل هذه البرقيات أو الأخبار دون موافقة السلطة الرسمية،ورد المحامون على بيان الحكومة مشيرين إلى أسماء من نالهم التعذيب ونشر ذلك في الصحف مؤكدين على حصول التعذيب بما توفر لديهم من أدلة وإثباتات.
وصباح يوم 8-4-1952 انعقدت المحكمة برئاسة ياسين طه الشيخلي وحضرها احد مفوضي الأمن ممثلا عن الادعاء العام ورافع عن المتهمين المحامون محمد بابان وكاظم جعفر ورزوق تلو وأمين رؤوف الأمين وصاحب الفلوجي وكان التعب والإعياء قد ظهر على وجوه المتهمين بسبب الإضراب عن الطعام واستمعت المحكمة إلى إفادات أربعة من الشهود واكتفت بقراءة إفادات غير الحاضرين واستمعت إلى إفادات المتهمين كل على انفراد فاظهروا للمحكمة المعاملة اللا إنسانية ووسائل التعذيب التي مورست معهم فقررت المحكمة تأجيل النظر بالدعوى إلى الخامس عشر من الشهر ذاته، ولكن التحقيقات الجنائية قامت بنقل لدعوى إلى محكمة كربلاء خوفا من أثارة الرأي العام الذي تابع المحاكمة وما سيصدر بحق المتهمين من أحكام تعسفية وفعلا حكم عليهم المجلس العرفي بإحكام مختلفة تراوحت بين سنة وسنتين وثلاث سنوات، وأرسل الحاج بشير إلى سجن بغداد المركزي لقضاء فترة الحكم.( )
وقد جاء شقيقه من المملكة السعودية لمقابلة الملك ومعرفة القضية والتوسط لإطلاق سراحه ،وكان ضابطا في الحرس الملكي السعودي وعندما علم بالتهمة المسندة إليه داخله السرور لأنه سجن لقضية مشرفة وليس لقضية تجلب العار لأسرته ،ولم تنفع الوساطة والاستنكارات التي قوبل بها الحكم الجائر.
كان سجن بغداد المركزي قد أفرد قاعة للسجناء السياسيين بعد عزل السجناء العاديين عنهم،وكان الشيوعيين قد أرسوا مبادئ جديدة للعمل في السجون وذلك بتشكيل لجان خاصة من السجناء تأخذ على عاتقها أدارة الأعمال اليومية في السجن،وكان وجود هذا الكم الهائل من السجناء مدعاة لمواصلة النضال والعمل السياسي فلا توجد قضبان أو سدود تمنع الشيوعي العراقي من إدامة الاتصال بحزبه وإقامة علائق رغم الرقابة المشددة التي فرضتها سلطة السجن، ولحراجة تلك الفترة والغليان الشعبي فقد أخذ السجناء دورهم في النضال وقرروا الإضراب عن الطعام بسبب سوء المعاملة وعدم منحهم الحقوق الخاصة بالسجين السياسي ،فاتخذت السلطة العميلة اجراءات مشددة ونسبت المجرم المقبور عبد الجبار أيوب مديرا لسجن بغداد ،وهذا المجرم معروف بأجرامه وحقده على الشيوعيين وكان وراء المجزرة التي حدثت في نقرة السلمان وأدت إلى قتل وجرح المئات من الشيوعيين والديمقراطيين ، وتصريحاته الخطيرة بضرورة قلع شأفة الشيوعيين والقضاء عليهم لما يحملون من أفكار هدامة وكتابه عن السجون مليء بالكثير المنبئ عن أجرامه وقسوته، وهو القائل (لو كان الأمر بيدي لما أبقيت على واحد منهم فهم كالجراثيم القاتلة يجب استئصالهم والقضاء عليهم) ،ولكن الحزب الخالد الهازئ بأيوب وأمثاله جازاه بما يستحق فأصدرت عليه محكمة الشعب الخالدة قرارها الجريء بإعدامه لما أرتكب من جرائم ونفذ فيه الحكم وذهب إلى حيث يقبع الأرجاس من أعداء الشيوعية في جهنم وبئس المصير يحف به زبانيته من أعداء الشيوعية في العراق ،وظل الحزب رافعا لواء النضال فيما ذهب أعداؤه إلى مزبلة التاريخ.
والمعروف عن هذا الطاغية أنه ما ذهب إلى سجن إلا احدث مذبحة أو كارثة لذلك كان تعيينه من قبل السلطة يحمل في طياته النية للقيام بمجزرة جديدة، وعندما أعلن السجناء إضرابهم عن الطعام ودام 23 يوما حشدت السلطة أكثر من 400 شرطي مزودين بمختلف الأسلحة والقنابل المسيلة للدموع وسيارات الإطفاء، وأشرف على الحملة البعثي المقدم صالح مهدي عماش ومحافظ بغداد عبد الجبار فهمي وقام بالتنفيذ عبد الجبار أيوب ،وفي يوم 18-6-1953قامت القوات المهاجمة بإطلاق القنابل المسيلة للدموع ورش الماء من سيارات الإطفاء لإخراج السجناء من القاعات التي اعتصموا بها وتهديم السجن على رؤوسهم ،وقامت بإطلاق الرصاص العشوائي على السجناء فأستشهد ثمانية منهم وجرح ما يزيد على الثمانين ،وكان بين الشهداء المناضل الحاج بشير الشيوعي والشهم الذي لم ترعبه السلطة العميلة ،فكان في مقدمة المتصدين للقوة المهاجمة.
وعندما علمت الجماهير بما أقدمت عليه السلطة خرجت التظاهرات الشعبية المنددة بالجريمة تتقدمهم أسر الشهداء والجرحى بأشراف مباشر من الحزب الشيوعي العراقي مما دفع السلطة إلى استعمال القوة المفرطة في تفريق المتظاهرين وإطلاق النار عليهم،وقامت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بتقديم مذكرة استنكار للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وقدم الحزب الوطني الديمقراطي مذكرة شديدة اللهجة إلى وزير العدل ،فيما قامت الصحف الوطنية بالتنديد بالمجزرة والقائمين بها ،فواجهت السلطة الحملة بإجراءات قاسية ،وقامت بنقل السجناء إلى سجن بعقوبة ،وعاملتهم معاملة السجناء العاديين ،وبعدها بشهرين ارتكبت جريمة سجن الكوت وهكذا عبرت السلطة عن حقدها الدفين على الشيوعية والشيوعيين ،فسعت إلى أبادتهم في سجونهم ،وقد نالت جزاءها العادل في غضبة الشعب عندما اندفعت الجماهير الشعبية لتدك صرح الخيانة.
ويصف الشهيد الخالد عبد الجبار وهبي "أبو سعيد" في كتابه من أعماق السجون المنشور سنة 1955 باسم "محمد راشد" ويقول: يميز المرء بين الجثث جثة سوداء نحيفة فارعة الطول ،وعلى الجبين الأسود قطرات عرق لما تجف بعد،تلمع كدرر الليل ،تلك هي جثة السجين السياسي الزنجي الحاج بشير الذي بعثت بطولاته المتميزة رعبا حيوانيا في صفوف المهاجمين،ولا يسعني إلا الإشارة إلى البطولات الخارقة التي شهدتها مذابح السجون ،أشارات عابرة نتركها لشعراء العراق وأدبائه وفنانيه ، واجبا مقدسا لأحياء تلك البطولات وتخليدها في ملاحم وقصص ورسوم وأغان، ويبدو لي أن الجماهير البسيطة أخذت منذ الآن تنسج حول السجناء قصصا رائعة ،سمعت بعضهم يروي أن الحاج بشير "الأسود" كان يقذف على الشرطة أثناء مذبحة بغداد لهبا من نفط مشتعل في فمه".
وبذلك انطوت صفحة لامعة من صفحات المجد التي سطرها الشيوعيون بدمائهم الطاهرة ،وظل الحاج بشير علما من أعلام الحزب له مكانه في الحركة الوطنية ،وأسمه بين الشهداء الخالدين.
وبعد انتهاء المجزرة قامت الشرطة بسحق جثث القتلى بأحذيتهم الثقيلة واعتدوا على الجرحى والأحياء بالضرب والتنكيل وهم مقيدون بالسلاسل ، وقاموا بإرسال الجرحى وعددهم (23) إلى المستشفى القريب من السجن ليتركوا دون علاج ،ونقل السجناء الآخرون مكبلين بالسلاسل من الأيدي والأرجل وجرى سحلهم لمسافة طويلة وأركبوا في سيارات سارت بهم إلى سجن بعقوبة المركزي.
والغريب أن السلطة العميلة أصدرت بيانا حملت فيه ما حدث السجناء أنفسهم الذين قاموا بالاعتداء على الشرطة وجرحوا "73" شرطيا؛ مما دفع السلطة لإطلاق بعض العيارات النارية في الهواء لتخويفهم ،وقامت بالتسلية عنهم بنقلهم إلى سجن جديد تتوفر فيه جميع وسائل الراحة،وأن بين السجناء (22) سجينا يهوديا شيوعيا كانوا وراء الفتنة،ولعل المنطق يرفض هذه الادعاءات المخالفة للعقل والمنطق فكيف لسجناء عزل جرح هذا الكم الهائل من الشرطة،وما مدى الضعف الذي يتصف به الشرطة حيث يصاب منهم هذا العدد من قبل سجناء عزل ،وكيف حضر هؤلاء الشرطة وبهذا العدد بالسجن وكم العدد الحقيقي للشرطة حتى يجرح منهم هذا العدد الكبير،وما هو ملاك السجن من الشرطة، حتى يحضر منهم هذا العدد الكبير؟!
لقد انطوت صفحة لامعة من صفحات المجد التي سطرها الشيوعيون بدمائهم الطاهرة، و بقي الحاج بشير علماً من اعلام الحزب له موقعه في الحركة الوطنية و اسمه بين الشهداء الخالدين