- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الخميس, 28 كانون2/يناير 2016 10:20
عبدالكريم العبيدي
هذه قوة الحياة العراقية، وهذه مظاهرها وملامحها وأسرارها، فالأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة والعبوات والموت والاختطاف والقتل والسلب تستطيع ان تدمر وتخرب وتسفك الدماء، لكنها تعجز على ما يبدو عن قتل إرادة العراقيين وتمزيق حياتهم وأملهم في السلام، حتى لو جاء متأخرا.
أخبار التقشف وتخفيض رواتب الموظفين والحرب على داعش، تقابلها أخبار تظاهرات الجمعة، والحراك الشعبي والإصرار على محاربة حيتان الفساد، مقابل أخبار الخطف والقتل والسلب ومخاطر الشوارع والزحام.. صور مختلفة.. "شي ميشبه شي"! رقص وأهازيج وتصفيق، عروسان أمام واجهة الفندق، يحيط بهما الأهل والأقارب والأصدقاء، فرح يغمر الوجوه، وقبل وعناق وتهانٍ.. أمنيات تبدأ خطواتها الأولى من إكليل وثوب أبيض وليلة زفاف جميلة.
مؤتمرات ومهرجانات وملتقيات سياسية وثقافية. ندوات نسوية في القاعات والنوادي. حضور مكثف لشباب وشابات وطلبة ومثقفين. حوارات ساخنة عن مستقبل العراق ونبذ الطائفية وتفعيل الحس الوطني لبناء عراق جديد.. تشكيل فنتازي لن تجده في أشد لوحات "بيكاسو" غموضا!
صورة طالبة عراقية
هذه صورتي بالأسود والأبيض، أنا طالبة في معهد الفنون الجميلة للبنات، جاهدت كثيراً وتحديت قرار عائلتي بثني عزيمتي عن الانتساب لهذا المعهد وتمكنت من إقناعهم.
في المساء أذاكر دروسي وأساعد أمي في أعمال الطبخ والتنظيف، وفي الصباح أستيقظ على أصوات الانفجارات.
وكثيراً ما حدثت اشتباكات مسلحة في منطقة سكناي وأغلقت الطرق والشوارع وسقط العديد من القتلى والجرحى، ولكنني رغم كل هذا أعقد العزم على الذهاب الى المعهد ومواصلة التعليم.
أنا طالبة تعشق الموسيقى، وتتدرب على آلة الكمان، أريد أن أغدو عازفة عراقية متميزة، أنا لا آبه بما يقال عن امرأة عازفة، بل يحثني هذا النوع من الحديث على المواصلة والتحدي، أحب الملاك التدريسي، وأحب زميلاتي وأشاطرهن المخاوف والمخاطر، نحن نحث بعضنا البعض على التحدي ومحاربة قوى الظلام والشر، وها نحن نتحول من مرحلة إلى أخرى، ونتعلم العزف والرسم والنحت والخزف والخط والزخرفة وكل فن جميل.
نحن وجه العراق الجديد، نحن براعم الجمال والحب. نخلق من هذا العدم وجودا آخر، نخلق وجوداً قد لا تعرفه الفضائيات الدموية، ولكننا سنرغم الجميع على الالتفات إلينا والاعتراف بوجودنا، فمن تشتري "المَلازم"، وتعمل بهذا الممكن الشحيح وتحمل في أعماقها كل هذا التحدي والعنفوان، لابد أن تكون فنانة مبدعة.
تلك هي حكايتي القصيرة، سادتي
حوارات عجوز
الحوار بدأ هكذا، أبو عيسى عجوز في السبعين من العمر، بدا متفائلاً وهو يشاهد رتلاً عسكرياً عراقياً يمر من جانب سيارة "الكيا" التي تقلنا، قال:"الواحد يفرح من يشوف الجيش العراقي متواجد في الشوارع". وأضاف:"تواجد الجيش يبعث الاطمئنان في القلوب، إن شاء الله يحمونا".
راكب آخر عقب على حديثه:"الله ينصرهم على الإرهابيين".
ولكن أحد الركاب بيّن أن السيطرات والتفتيش تحدث زحاماً خانقاً في الشوارع وتتسبب في تأخير وصولنا إلى دوائرنا.
أحد الركاب رد على الراكب "المتأخر": التأخير ليس ضرورياً أمام الأمن.. الآن المهم هو الأمن وفرض القانون والقضاء على الإرهابيين.
- آمنا بالله ولكن العمل ضروري أيضاً.. يعني إشلون انبطل من الشغل!؟
كان رد الراكب حاداً، ولذلك دخلت الحوارات في أجواء صاخبة، بدأها السائق بقوله: القضاء على الإرهاب يبدأ من الحدود.. الإرهابيون يأتون من دول الجوار، والتمويل من دول الجوار.. والسلاح والدعم.
عدد من الركاب بدأ يروي وقائع عن مسك الكثير من الإرهابيين من حملة جنسيات عربية وأجنبية، وتطرق آخرون إلى تورط عدد من الشباب العراقيين في أعمال العنف.
راكب بررَّ انخراط البعض من العراقيين في الجماعات الإرهابية بتفشي البطالة، قال:"لو قضوا على البطالة، ووفروا فرص عمل وخدمات وأمن، لما حصل ذلك".
الحوارات بدأت تسخن، راكب "أنيق" قال:"القضية كلها سياسية".
وأضاف:"بمجرد أن تتفق الأطراف السياسية، تحل الأزمة كلها"!
راكب متذمر قال:"هسه خلي يوفرون لنا الخدمات، خلي يقضون على الأزمات.. على..."
أجابه راكب آخر:"المهم أن يقضوا على الفساد الإداري والمالي، ومحاسبة حيتان الفساد، لو حصل هذا لتوفر الكثير من الخدمات، وفرص العمل وسط أجواء السلام والأمن" وأضاف:"هناك مساعٍ كثيرة للقضاء عليها ولكن اليد الواحدة لا تصفق"!
"شفت - رد راكب عجوز: لو كلنا نضع أيدينا بأيدي بعضنا ونتكاتف وننبذ الطائفية ونتعاون في بناء بلدنا.. "ترى محد يبني العراق غير العراقيين وهاي أزمة وتعدي، والخير كثير، بس لو انصفي النية".
راكب، كان صامتاً طوال الرحلة قال مخاطباً العجوز:"جدو.. إحنه متصافين ومتآخين، لكن السياسيين مختلفين.. تصريحات واتهامات.. همّه خلي يتصالحون ويتعاونون ويحلون المشكلة".
رد عليه العجوز قائلا:" بويه.. حسبتنه ينراد إلهه صبر وتفاؤل وكل شيء له حل.. وكل شي له نهاية. ولابد أن تفرج.. والله أرحم.. مر علينا الكثير من المصائب والله لطف بنا.. من نتعاون ونتكاتف ونتفاهم تحل المشاكل ونكون بخير".
راكب آخر قال:"حجي إلمن تتكلم؟ ومنو يسمعك".
- "ليش"؟، قال العجوز.. "الدنيا بعدها بخير، وإن شاء الله يعود الأمن والأمان وتعود المياه إلى مجاريها، ما تبقى هالشكل". ثم بدأ يروي عن أزمات عديدة مر بها هو وعائلته في العقود الماضية.. تحدث عن الحروب والحصار والفقر والعوز والأمراض والأزمات، مبيناً أن ما جرى للعراق جعله يتراجع في العمران والاقتصاد والبناء قياساً لما حصل في دول الجوار وبالذات الدول الخليجية.
كان حواره ممتعاً وهو يستعرض هذه المفارقات بطريقة بسيطة ولكن بنظرة ناضجة، وحين أنصت الجميع إلى حديثه، شاع الأمل في نفوس الركاب وبدا وكأننا نعيش في أجواء جديدة، لا تشبه الأجواء الصاخبة التي كانت تحيط بنا قبل حوارات العجوز وعراقيته.
قارب الذهب
سكان الهور يعتزون بقواربهم ويطلقون عليها أسماء أولادهم.. وقد دخلت في أمثالهم وحكاياتهم الشعبية وفي تراثهم وأساطيرهم أيضاً.. فما يروى عن "قارب الذهب" إنه يظهر في كل ليلة جمعة قرب تل الذهب أو جزيرة "حفيظ" المليئة بالكنوز والتحف الأثرية والذهب والأختام ويوجد على متنه ملاحون يرقصون ويقرعون الطبول ويؤدّون بعض الأغاني بمصاحبة الدفوف، تصل إلى أسماع كل أهل الهور الذين غالباً ما يرون بريقاً مصاحباً لظهور قارب الذهب الحامل لأناس لا يفهم من أناشيدهم شيء وكل ما يعرف عنهم أنه يخرجون في ليالي الجمع فقط.
ويروى أن الكثير من شيوخ الأهوار حاولوا في فترات مختلفة اصطياد قارب الذهب هذا، لكن أحداً ممّن كلفوا بمهمة الوصول إلى تلك المنطقة لم يرجع، وإن الذي طمح أو فكر بالوصول إلى هناك لاحقه الموت وحلت عليه اللعنة وأصيب بالجنون!
ولا تعرف بالضبط أصول هذه الحكاية ومدى علاقتها بأرواح أولئك الملاحين الذين هبطت أرواحهم من سر الخلود الذي بحث عنه "كلكامش"، وهل كان بكاؤه على أنكيدو، هو صورة من رحيله إلى تل الذهب، مكان أحيفظ الغامض والمليء بالألغاز؟
الحق إن ما يقال عن شجرة الملوك الذين كانوا يغزون بعضهم بعضاً يصوّر معارك الأهوار وسط الطوفان انّها تخور مثل الثور، وكان الموتى يملؤون النهر وكأنهم فراشات وقد احتشدوا كالأكلال على حافة النهر.
فهل دارت هذه المعارك حول قارب الذهب الذي يظهر في كل ليلة جمعة وعلى متنه يرقص الملاحون ويغنون أغاني الخلود؟
يقال إن أكثر ما كان يزعج النظام السابق هو القوارب!. كونها أفضل وسيلة لنقل المعارضين وإخفائهم في وسط الدغل والأحراش.
ولا يكلفهم ذلك أكثر من مشحوف مغطى ببارية ويسكنه أحد الهاربين - يسمون هذه العملية "شكص" و"المختبئ، وامشكص" والملفت للنظر إن إجراءات النظام السابق اقتضت بث الجواسيس "الشمامة" وتسجيل القوارب وإعطائها أرقاماً للسيطرة على عميلة الهرب والاختفاء في عمق الهور..
ولكن المشحوف انتصر على النظام السابق، وتسلل بين القصب والبردي بخفة ودراية ذهبت بكل إجراءات النظام السابق إلى أدراج الريح، ما جعل النظام يقدم على أبشع كارثة إنسانية وبيئية وهي ما أطلق عليها جريمة تجفيف الأهوار والقضاء على عوالم الطيور والأسماك والقوارب.
أحلام وشخير وأماني بالجملة
صعد الراكب ببطء في سيارة أجرة نوع "كيا" دون أن يحيي الراكب الجالس الوحيد الذي كان ينتظر امتلاء السيارة بالركاب بعد المرور بطور الـ " ناقص نفر واحد" حتما.
جلس على المقعد الخلفي لوحده وسرعان ما "طفه الدكمه" وشغل ماكنة شخيره الرهيبة وراح يعزف أنواع الموسيقى الشخيرية من نوع "سويحلي ونايل ومحمداوي وطويرجاوي"، على حد رأي السائق الذي كان ينادي "ضاحكا" على السابلة للصعود بسيارته.
صعد راكب آخر بعد ما يقرب من ربع ساعة مكتظة بمعزوفات من الشخير وفوجئ بفنون صاحبنا فصاح:"بيييه، ها خويه سالمين!؟، ثم التفت نحو السائق وسأله ساخرا: "بله اشكد صارله يعزف الشفيَّه"؟
تغيرت نبرة الشخير فجأة وارتفعت بحدة عالية فقال الراكب المرح: "استفاد"...
بعد عشر دقائق أخرى همت امرأة عجوز بالصعود إلى السيارة لكنها توقفت مندهشة من صوت الشخير ونغماته الصاخبة فقال لها الراكب: "ما كو شي حجيه، جناح خاص للعوائل بالكيا، اصعدي".
صعدت العجوز وجلست إلى جانب الراكب الثاني وراحت تنغمر بموجات الشخير الصاعدة والنازلة شديدة الصخب ثم سألته:"أظنه صارله اسبوع لازم خفاره ومضايك النوم، شنهي الطركاعة"؟
فرد عليها الراكب ساخرا: "هسه عزف منفرد وابلاش وين لاكينهه"؟
زاد الراكب النائم من شخيره منتقلا إلى أعلى درجة بالسلم الشخيري، فردت عليه العجوز:"بعد خالتك لا تقصر دوسلهه".
دقائق شخيرية عديدة مرت حتى امتلأت السيارة بالركاب الذين أعربوا جميعا عن استغرابهم من ذلك الشخير الغريب وانهالوا عليه بمختلف التعليقات الساخرة. ولما حان موعد جمع "الكروة" بدأت معضلة إيقاظ الراكب "المشوخرجي" لاستلام كروته.
- "يابه كعدوه يمعودين"، قال السائق مخاطبا الركاب، فانبرى الراكب "المسكين" الذي كان يجلس إلى جانبه وقال وهو يهزه من كتفه:" عيني، أخونه، حبيبي، شنو ميت"؟
-: "صبوا على راسه طاسة مي"، اقترح أحد الركاب والتفت نحو الشارع باحثا عن أحد باعة قناني المياه، لكن الركاب رفضوا اقتراحه وفضلوا إيقاظه بصوت عالي.
وضع الراكب المكلف بإيقاظه فمه لصق إذن الراكب النائم وصرخ بأعلى صوته:"أبو الشبااااااااااااااب.. ففز الراكب مذعورا وهو يردد: "ها، اجت "الوطنية"؟
ضحك جميع الركاب وغاصوا بقهقة جماعية صاخبة. بينما رد عليه راكب أريحي قائلا:"يمعود يا وطنيه، يا ملكيه، سقط النظام من سنة 2003 وهسه احنه حرب ويه داعش والقاعدة وتقشف"...
مسح الراكب وجهه بكفه وفهم بعد عشر دقائق من الحوار أن السائق جمع الأجرة من الركاب كافة باستثناء "جنابه الكريم" فأخرج "كروته" أخيرا وقدمه لأحد الركاب ثم عاد إلى شخيره الهزاز والكارثي فضحك الركاب مرة أخرى.
احد الركاب قال: "البارحة كنت أتحدث عالماسنجر مع صديقي بهولندا وانقطعت الكهرباء خمس مرات وكل ساعة فاتح المولدة وسادهه، صديقي أخبرني أن التيار الكهربائي انقطع مرة في مدينة "روتردام"، المدينة الهولندية التي يسكنها، لمدة ساعتين بسبب خلل فني قاهر، وبعد إصلاحه وعودته في تلك الساعتين تم تعويض كل عائلة تسكن في تلك المدينة بمائتي يورو، أي مائة يورو عن كل ساعة للتعويض عن الضرر النفسي والإزعاج الذي تكبدته العائلات بسبب انقطاع التيار الكهربائي المفاجئ لساعتين فقط!!!!
ضحك الركاب وأطلقوا الحسرات المقرونة باندهاشهم وسخطهم وآلامهم ومعاناتهم من انقطاعاااااات التيار الكهربائي في عاصمة الدنيا أيام زمان بغداد الحبيبة.
أحد الركاب ظلت الدهشة تتملكه فتساءل بجدية واضحة:
-:" زين هسه احنه على هاي الانقطاعات اشكد نطلب الحكومة باليوم الواحد"؟
فرد عليه راكب آخر:
-:" يمعود لو ينطونه على جية الكهرباء مو انقطاعهه قابلين، وطبعا أصرف للحكومة بهذا التقشف الدايخين بيه".
-: "اذا باليوم الواحد عشرين ساعة قطع اشكد ايصير التعويض بكل يوم"؟ تساءل أحدهم.
-: ألفين دولار.
-: "رأسا انبطل من دوائرنا ونكعد بالبيت، بعد شكو مشتغلين"
-: "آني أتزوج على مرتي ثلاث نسوان"
-: "الله...، أطكلي سيارة باجيرو بيضه اتخبووول".
-: "لا والله أروح جوله بأوربا بأمريكا سنه كامله، أتونس وأنطلق".
-:" لو اتصير، أغير عدسات اعيوني لو أسوي عملية بالليزر وأرجع شباب".
-: "بهالحالة ينقضي على البطاله، ميبقى ولا عاطل"
-: "هالنوب نندعي يا ربي تطفه الكهرباء كل دقيقة، أو تحترك الطاقة الكهربائية كلهه"
-: "لا ونشتري مولدات أمريكية يابانيه، بعد ماكو صيني وداعا".
-: "وبعدين ازيد حركة السوق، الناس تشتري قطع أراضي وتبني بيوت".
-: "والله آني أهم شي أزوج اكويظم وخلص منه ذبحني ايون أربع وعشرين ساعة".
أطلق جميع الركاب قهقهة عالية
ففز أبو الشخير وتساءل: "ها، جتي الوطنيه"؟
-:" ولك يا وطنيه، راح ايعوضوك بالملايين على كل ساعة انقطاع التيار الكهربائي وتعيش بالعلالي"
-: بشرفكم؟، حجي جرايد، لو من مجلس الوزراء؟
-: لا، بس انته لا تشخر، هسه انشوف البرلمان على الانتخابات الجايه انشالله"
-:" البرلمان!؟، أهووووو...."
مال الراكب برأسه "وطفه الدكمه وذبه عالرابع دفع رباعي" وراح يجلجل بشخير "امعدل".
المقاهي بالأبيض والأسود
قديماً قيل:"في بغداد، بين كل مقهى ومقهى مقهى" في إشارة واضحة إلى مئات المقاهي الموزعة في شوارع بغداد وأزقتها، وعلى ضفاف دجلة وفي كل زاوية وسوق وتجمع.. وقد شهدت المقاهي البغدادية تحولات عديدة منذ نشأتها قبل قرون، فكانت مأوى وملاذاً وواحة وانطلاقة ومقراً ومنتدى و... مكاناً مهجوراً.
نعود إلى أصل الحكاية، ونستذكر أول مقهى "خان جغان"، فقد روي إن هذا المقهى أفتتح في العام 1590 في عهد الوالي العثماني "جغالة زادة سنان باشا"، وقد كان يرتاده الأهالي، ولم يتميز بحضور ثقافي أو أدبي، وكان مأوى للراحة وقضاء الوقت، وورد أيضاً إن مقهى "الخفافين" تأسس قبل أكثر من "300" سنة وكان ملتقى للوجهاء والساسة والأدباء.
وهناك إشارات إلى أن مقاهي "أيام زمان" كانت ملتقيات لرجال العلم والأدب وهواة الفن واللهو البريء، وثمة مقاهٍ للقراءة ومطالعة الصحف التركية، أيام العهد العثماني، وكانت المقاهي جميلة وموزعة على جانبي الكرخ والرصافة، وتعد من الأماكن المكتظة بالناس، وكانت ملتقى للراحة والتسلية وقراءة الشعر والقصص.
ومن الطريف "أن أصحاب المقاهي كانوا يستخدمون الفتيات عاملات في المقاهي، فضلاً عن الموسيقى لاجتذاب الزبائن، وكان بعضها مكرساً لفعاليات شعبية وترفيهية.
ولكن العديد من هذه المقاهي اندثر واندرس مكانها بعد هدمها وتحويلها إلى محال تجارية، ومن أشهر هذه المقاهي "عارف آغا" الذي كان يرتاده الشاعر معروف عبد الغني الرصافي، ومقهى السنك والبرازيلية والمربعة والبرلمان وعبود وصاحب وخليل القيسي وسبع و"كل وزير" ووهب والأمين والقيصرية ومقهى فاضل وأموري والفضل وعزاوي والبلدية والمميز والبولنجية وعطية وناصر حكيم وغيرها.
وهناك مقاه كانت تطل على شاطئ دجلة منها مقهى الشط ومقهى البيروتي - قرب الجسر القديم من جانب الكرخ - ومقهى صاحب قرب المدرسة المستنصرية بجانب الرصافة.
ومن المقاهي التي كان يغنى فيها المقام العراقي، مقهى الشابندر الذي قرأ فيه المرحوم رشيد القندرجي وغيره، وفي مقهى السنك كان يقرأ المقام عباس كمبير الشيخلي، أما في مقهى البلدية فكان يغني عباس الشيخلي وقدو الأندي، وفي مقهى الشط غنى أحمد زيدان ورشيد القندرجي وآخرون.
صورة قديمة
يرى "البغادلة" أن مقاهي أيام زمان كانت "مقاهي طرف". إذ لم يكن السهر في الأحياء البعيدة ممتعاً إلا في تلك المقاهي، فكان رجال المحلة يقضون أمسياتهم في المقاهي ويتناولون أقداح القهوة ويلعبون "الطاولي والدومينو" ويكثرون من طقطقة "السبحة"، وفي الصباح الباكر يهرع الكثير من البغداديين إلى المقاهي لتناول "القنداغ" ويدخنون "النركيلة" قبل ذهابهم إلى أعمالهم، وكان المقهى يشكل مفردة مهمة في حياتهم، فهو المكان الذي ترتاده شرائح اجتماعية متنوعة، وقد تخصص كل مقهى برواده الذين تربطهم اعتبارات اجتماعية أو مهنية، ولم تقف الضوضاء حائلاً للتحاور والتباحث في أمور الحياة وتفاصيلها، فكان الكثير من الرواد يتحدثون في ما بينهم وهم يجلسون على أرائك خشبية أمام السماورات والقواري الموضوعة في "الأوجاغ" الذي يغلي فيه الماء ويخدر منه "الشاي المهيّل".
وفي أيام الجمع عموماً تكتظ المقاهي بروادها، ولا يعثر فيها على مكان للجلوس طيلة ساعات عديدة.
صالونات أدبية
يقارن البعض مقاهي بغداد التي كانت تقام فيها الجلسات الشعرية والحوارية بالصالونات الأدبية في مصر، بسبب اجتماع الكثير من طبقة المثقفين في تلك المقاهي للتباحث في الشؤون الأدبية والثقافية، خصوصاً حين يستذكر أشهر روادها الأوائل أمثال السياب والجواهري وبلند الحيدري وحسين مردان ومظفر النواب وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وغيرهم.
وكثيراً ما كانت تحتدم المناقشات في أمور الأدب وغيرها لتصل إلى حد الصراخ وتعالي الصيحات المطالبة بالكفّ عن النقاش في بعض الأمور، ثم يعقبها الهدوء ومواصلة الأحاديث المختلفة.
أوكار سياسية
المقاهي: هي البيت الثاني للناس، ملاذ المثقفين والعمال والكادحين والعاطلين وشرائح اجتماعية واسعة، وكانت المدارس حيث يتعلم فيها الرواد الكثير من العلوم والمعارف من خلال الحوارات التي تعقد بين الأساتذة والمتعلمين.
ومع تقدم الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي وازدياد عدد المتعلمين وبتأثير الثقافة القادمة من الغرب، أصبحت المقاهي بمثابة مراكز استقطاب لرجالات الأدب والسياسة والفنون، وبات المقهى أشبه بالوكر السياسي ومكاناً للبحث في شتى الأمور من أجل الوصول إلى صيغ جديدة في التفاعل مع الحياة والمدارس الفكرية الوافدة وتيارات الوعي الجديدة، وقد أنجبت المقاهي نخبة لامعة من المثقفين لما كانت تمثله من مأوى لمختلف المكونات الإبداعية.
وبعد 9 نيسان2003، عادت الحياة مرة أخرى إلى المقاهي، وباتت تحتضن من جديد الكثير من المثقفين المتلهفين للحوار والمناقشة على هامش الحرية التي توفرت لهم، فأقيمت من جديد الكثير من المنتديات والملتقيات والاتحادات التي اتخذت من المقاهي مكاناً لها.
وباتت أيام بعينها من الأسبوع، مشخصات ثابتة لزيارة هذا المقهى أو ذاك لغرض المشاركة في نشاط هذا الملتقى أو ذاك.
والآن نشاهد ظهور مقاهٍ جديدة واختفاء غيرها، وقد برز في الآونة الأخيرة مقهى الرغد - مقابل مرآب الباب المعظم. حيث بات مقراً جديداً للمثقفين وللقاءات اليومية، بعد تعذر وصول المثقفين إلى الكثير من المقاهي بسبب تردي الوضع الأمني.
المقاهي فقدت بريقها على ما يبدو، وتحولت إلى مأوى للكسالى من كبار السن وغيرهم، فيما اختفت أو اندثرت مقاه أخرى ولم يبق منها سوى اسمها في الذاكرة العراقية الجمعية.