مدارات

عن الراحل الكبير د. غانم حمدون / مصطفى كاظم

كنت بالكاد أفكّ الحروف وأجمعها عندما قرأت اسمه ضمن هيئة تحرير مجلةٍ كانت في البيت اسمها "المثقف". وذات يوم دخل بيتنا الحرس القومي أو "داسه" بالتعبير السائد في بلدتنا الهادئة في عمق الجنوب، فصادر عدد تلك المجلة الوحيد الذي فلت من بين الكتب التي ألقيت في نهر الفرات، في ليلة من ليالي شباط 63 المظلمة. لكن الاسم ظل عالقا ببالي.
رأيته، للمرة الأولى، سريعا في الجزائر، كما رأيت غيره ممن لم التق بهم من قبل. كانت مرة واحدة لم تتكرر هناك، فهو مقيم في العاصمة وأنا في الجنوب، لكن الانطباع عن شخصه المتواضع الهادئ كان مختلفاً.
في دمشق، تعرفت أكثر إلى د. غانم وتعلمت منه الكثير. استقبلني بكل محبة في واحته الغنّاء حيث يشعر المرء بالألفة تحت ظلال "الثقافة الجديدة" وشقيقاتها. وكم بدا سعيداً حين رويت له كيف كنّا - نحن الشبيبة - نعتز بالمجلة ونتداول أعدادها حتى يهترئ ورقها، في تلك الأيام العجاف، عندما كانت تصدر في أحلك الأزمنة ظلمة، وعليها أسماء كبيرة مثل صفاء الحافظ وصلاح خالص ومن ثم مكرم الطالباني.
في لندن، نهاية المطاف، عرفت د. غانم عن قرب وتعلمت منه أكثر. وما أثار إعجابي جمعه بين اللطف والجدية بثنائية مذهلة التوازن، فهو الإنسان المحب صاحب الملاحظة الثاقبة الذي لا يفوته ما ينبغي أن ينبه عنه.
وطوال معرفتي به وأنا في حيرة كيف أخاطبه مع أن صفاته كثيرة؛ فهو الدكتور، الأستاذ، المربي الجليل، الأخ الكبير، الأب الحنون... إلا أنه لم يكن يحبذ الصفات والألقاب، وأنا لا يطاوعني لساني على مخاطبته باسمه المجرد!
كم كان نبأ رحيل د. غانم حمدون قاسياً على كل من عرفه. له الذكر الطيب أبداً.