- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الخميس, 28 نيسان/أبريل 2016 19:30

قد يكون غير مفهوم ، بل ومُلتبساً لدى القارئ المتمعن عنوان المقالة ، فهو يجمع الضدّين في آن : الانسان والدولة ! الانسان بكل نوازعه الدنيوية ، الإنسانية التي حباه له بها الرب ، من جهة ، وبما أضاف لها هو ، أي الانسان لنفسه ، ككينونة مستقله ، ذات سياده، خلال حياته . النوازع الإلهية للإنسان معروفه ولا تحتاج إلى فحص DNA للتأكد منها. هي الإنسانية ، وهي الطيبة ، وهي الصدق والمروءة ، وهي الرحمة وهي الفرح لفرح الاخرين من بني الإنسانية ، مهما إختلفت ألوانهم وأجناسهم ، وهي الحزن لبلائهم وبلواهم . هي التخلّق والابداع وإضافة يوميه للخيرات والنعم من خلال العمل ، والعمل وحده . أما تلك " النوازع " التي يضيفها الانسان لذاته ، فهي معروفه لدينا ، أعني العدوانية والطمع في الرغبة على الاستحواذ على ما لدى الآخرين من خيرات ماديه . هي الاستكبار، هي اللاأباليه تجاه معاناة الاخرين، هي اللانظام والفوضى وتأليه النفس ، هي ... والقائمة تطول .
المقالة ستتصدى لذلك ، وأرجو صبرك علي قليلاً .
ألإلتباس الثاني يكمن ، ربما ، في أنني أهديت هذه المقالة إلى الاخ علي العضب . ما الرابط بينهما ؟ للقارئ الغير عارف أسوق له بعض المعلومة عن المُهدى إليه هذه المقالة . علي العضب، شاعر عراقي ومناضل شيوعي من البصرة ،
اعرفه منذ ما يزيد عن الاربعين عاما ، في أوائل السبعينات من القرن الماضي ، عندما كنا في خضم النضال المنظم ، من اجل الديمقراطية والحياة المقبولة ، على الاقل ، للشعب العراقي . ولك ان تتصور تلك الاجواء الدافقة في البصرة آنذاك عندما كانت تحفل بشكل شبه يومي بالفعاليات الثقافية والفنية والأدبية ، من خلال نادي الفنون ، وجمعية الاقتصاديين والمهندسين وجمع من النوادي الليلية على الجانبين من شارع الوطني والكورنيش التي كانت ، ولا زالت ذكرياتها ، تبعث وتشيع الفرح والبهجة . في تلك الاجواء تعرفت على شاعر البلم العَشّاري ، ولكن عن بعد ، حسب متطلبات تلك المرحلة . وفيما بعد ، وعندما إستعصى علي الامر في الحصول على موافقة مديرية الامن على تعييني في وظيفه في إحدى دوائر الدولة وتقديمي شكوى مباشره وشخصيه إلى سعدي عياش عريم ، محافظ البصرة في حينها في يوم الاستقبال الاسبوعي في مكتبه ، وبحضور مفاجئ غير متوقع لمدير أمن المحافظة ماجد السامرائي ، ومن ثم إنتزاع هذه الموافقة بعد لأي ، واجهتني معضله آخري وهي الحصول على وظيفه بعد التخرج من جامعة البصرة . هنا كان دور( واسطة ) علي العضب في أن أحصل على وظيفة ( معاون ملاحظ ) في مديرية بلدية البصرة عام 1972 ، فَلَهُ الشكر والعرفان وإن كان بأثر رجعي . ومنذ مغادرتي العراق ، الوطن ، عام 1973 ، للدراسة الأكاديمية ومن ثم استطالة هذا الترحال إلى أربعين عاما ونيف لم نلتق خلالها إلا في العام الفائت . وتشاء الصدف الطيبة ان يكون اللقاء في باحة جمعية الاقتصاديين في البصرة الحبيبة بعد اربعين عاما في التمام والكمال ! لم يكن اللقاء لقاءً بدون إستذكار وإستحضار تلك الايام الفائتة . وكان أن حدث تجمع عفوي من عدد من المثقفين حول طاولتنا، وجوه جُدد شابه ، بصراوية السحنة ووجوه اخرى ألقى الشيب على وجناتها ما لا يُحتَمل ومن ثم كان لابد من إستعادة ذكريات تلك الايام الخوالي . ولكنني توقفت لحظه في إستذكار تجربة سنغافورة ، عندما تهيئ لي الامر في مقارنة المبنى الجديد لجمعية الاقتصاديين في البصرة ، جمعيتي التي أفتخر بل وأتمايل جذلاً في تفعيل عضويتي فيها من جديد ، بكل ما فيه من مهابه وجمال وحسن تطلع وتفاؤل والوضع المزري المحيط بالمقر، من أوساخ مرميه بدون أي رادع، بل وان المنزل الذي يقع أمامها ويحجب فسيفسائها ، كما علمت ، إنما هو بناء عشوائي !! .. شعرت لوهله بالألم ، ولوهلة أخرى بالوجع الانساني الذي ينبع من حب البصرة ولكل ما هو جميل .
ساءلت ذاتي ، دون مظنّة ، كيف هكذا تترك البصرة بمثقفيها ، بعمالها في ميناء المعقل أو في حقل مجنون ، وهو مجنون حقاً ، ربما لأنه أخطأ عنوان اين يجب ان يكون ، وبفلاحيها في نهر خوز والسيبه والفاو، وبِغِرارها الغوادي، السُمّرْ، اليَوافع ، اللذين يتدنى الشجر الصفصاف من سحر نواغجهن وتدلّل نظراتهن ومن تَهافت ما يحمل القلب من ثقل ما في صدورهن !
كيف ، وهذه الفوضى في كل زاويه .(ما خفّف) من ألمي إنني رأيت الصورة ذاتها في كل مكان زرته في بلدي ،العراق، بعد أربعين عاماً ونيف في حل وترحال ! ... ذَهبتُ ، ضامِئاً ، كَدِيماً ، إلى شط العرب ، تَيممتُّ بمياهه الفواحة طيبة وبنفسجاً ، وأكلت سمبوسة أبو ألعباس ، وتَمضّختُ نَكهةً ، حتى التلذذ بالصُبور من السمك في موسم كرمه لساكنيه على جانبي الشط وتُرَعهِ ، وكأني به ، وهو في تضحيته هذه ، يحاول أن يبدد شيئاً من العبوس على وجناتهم الخجلى. وفي إحتفالية مع جمع من أحبائي تَرشّفتُ مذاقاً حلاوة نهرخوز ، تلك الحلاوة ، التي خلدّت مذاقها وعطورها من ورد الرازقي ومن سُمر سَواقي تُرعها ، وإلتقيت عن طول إنتظار ، يا للعجب ، مع تلك الصبية الخرساء ، التي لم تعد ، كما في عنفوانها، آنذاك ، تلك الغزالة ، النمرودة ، وتمشيت ، تمايلاً ، في سوق الهنود ، وتَعبّقتُ ، خيلاءً ، عن قرب ، هواء الكورنيش وبيت بدر شاكر السياب في جيكور ، تلك القامه الشعرية ، التي يكفيها ، حتى ولو لم تكتب نواظم أخرى ، أنها خلدت إنسانية كينونيتها في بيت قصيد واحد : عيناك غابتا نَخيلٍ ساعة السحر .. أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر . ثم إلى أين ؟ إلى الحُسَينْ وطهارة مرقده وفسيفساء شهادته وروحانية مأثرته، وإلى والديّ في مثواهما الابدي ، حيث كان يمكن لي ، أخيراً ، أن أنهَلْ تلك الدمعة ، التي طيلة أربعين عاماً، طال إنتظار مآلها ، وإلى شارع أبو نؤاس ، الذي لم يعد يؤنس أحداً ، وإلى أطلال شارع الرشيد ، الذي لو عَرف ألرشيد نفسه عما آل إليه لقدم طلباً لتغيير إسمه عليه !..
هكذا إستحضرت تجربة سنغافورة . لماذا ؟ ... لأن سنغافورة في عشية إستقلالها من ماليزيا كانت بالضبط ، بل وأكثر حالها حال البصرة ، بل والعراق اليوم . تجربة ، منذ ان تعرفت عليها ،لم أكف عن قراءتها . لم يكفيني ذلك بل زرتها ورأيتها رؤيا العين وليس وحسب من الكتب والمراجع . سأحاول في السطور القادمة ان أفكك وأسترشف تلك العلاقة الأزلية ما بين العجز بين الطاقة والموارد، أو وفرتها ، بل وأحياناً تخمتها ، والنقص، وربما هلامية الهمّه والإرادة. لا ادري ، ولكني هنا إستحضرت مقوله لهنري كيسنجر ، بطريارك الدبلوماسية العالمية وعلم السياسة ، يقول فيها : "إن إحدى مفارقات التاريخ تكمن في إنعدام التكافؤ ما بين قدرات بعض القادة والزعماء والإمكانيات التي تمتلكها بلدانهم"
يبدو لي ، كما أظن ، أن لتلك المقولة لهذا السياسي المكيافيلي الداهية ، أكثر من صله وموضوع مقالتي هذه . لنتمعن سوية في ذلك ، إن سمحت .
إعتدنا ، نحن البشر ، يوماً بعد يوم ، على النقد والانتقاد للحكومة ، للقائمين على أمرنا. تلك نزعه مشارقية تضرب في القِدم جذورها ، أشار إليها إبن خلدون في " مقدمته " ، وأشبعها بحثاً عالِمنا الدكتور علي الوردي . لكن النقد ، اي نقد ، لا يعدو كونه الخطوة الاولى في التصحيح . المهم طرح البديل العملي ، ذي القدرة الفعلية على التغيير نحو الافضل . من واجبنا ، نحن ،الذين سنحت لهم الفرص ألتعّرف على تجارب بلداناً اخرى ، ان نعرض تلك الجوانب المشرقة منها ، لدراستها عن تمعن ، والإتعاض منها، دون الدعوة إلى إستنساخها او تقليدها بالضرورة ، وإن شئت فليكن ذلك إن تحققت مصلحة الجماعة في ذلك . مقالتي هذه ، تصب في هذا الاتجاه . هي مقاله ، اردت لها ان لا تكون أكاديمية ، فالمقام ليس مقامها ، بل معرفية ، مبسطّة ، ولهذا فان منهجية السرد سوف تتوخى ذلك .
في مقالتي هذه لمحات مِن وعَن تجربة سنغافورة ، تلك المستنقعات المتنافرة ، التي كان من ألُمحال ان ترقى إلى دولة ، بالمعايير الاقتصادية ، حسب تعبير مؤسسها لي كوان ذاته ، ولكنها ابت إلا ان تكون إلا ذاك .
مقالتي هذه ، تهدف فيما تهدف إليه إلى التركيز والتمعن في مقولة دور الفرد ، الوحداني ، في قيادة هذه النخب المتنافرة المصالح والاهواء نحو هدف واحد ، وهو بناء دوله متقدمة ، مؤسساتيه ، لا تضمحل ولا تتهاوى بزوال هذا الفرد ، ألأُحادي ، الذي له الباع الاول في هذا البناء . هذا يعني ان هذا الفرد ، القائد ، قد قصَد من البداية ان تتماهى ذاته ، الأنا ، مع مصلحة الجماعة . في ذلك ، وفي ذلك بالضبط يتمحور دور الفرد في صنع التاريخ . فالتاريخ ما هو إلا سلسله لامتناهية من صنع الفرد ، الوحداني ، في مهارته وحذاقته في قيادة وترويض تلك الجموع ، التي نطلق عليها، تعارفاً ، إسم الشعب ، وبالمعنى الاوسع الأمه .
ليس مهماً في صناعة التاريخ ، ان تكون الاهداف وبالتالي النتائج لعملية صنع وإنتاج الاحداث إيجابيه، تخلقّيه ، او ان تكون سلبية هادمة للتاريخ ذاته وللحضارة . ذلك موضوع آخر ، له منهجيته الخاصة في البحث والتتبع ليس مقامها هنا . مقالتي الموجزة هنا تحاول ان تركز على الحالة الاولى، الإيجابية ، البناءة ، في شخص السنغافوري لي كوان ، مؤسس وباني سنغافورة .
أُسارع بالقول ، خوف الملامة ، من انني لست من المناصرين الى إعلاء مقولة الفرد ، الأنا ، في صنع التاريخ ، معاذ الله . ذلك موضوع فلسفي ، تأويلي ، وتاريخي له مرجعياته ، ولكن ألا تتفق معي أنَّ فرداً ما ، في لحظةٍ ما ، يمكن ان ينتِجَ طاقه فيزيائية ، بقيادته لهذه الجموع المتنافرة ، إما نحو التخلّق والتقدم والخير ، وإما إلى الظلامية والتخلف وهدم الحضارة الإنسانية . تلك حقيقة ناطقة ، بل حقائق ، وما عليك إلا ان تصبر وتتريث قليلاً في قراءة وإستنطاق التاريخ . الجماعة ، الشعب ، هي مجموعة وخليط يجمعها المكان ( الجغرافية ) والاحداث المشتركة ( التاريخ ) وعلاقات القربى ، وربما أشياء اخرى ثانويه ، ليس إلا . بيد ان ما يفرقها هي المصالح الاقتصادية ، الدنيوية ، المادية ، التي هي المحك الاساس في حركة الانسان وفعله اليومي . الاخلاق والقيم ترتد، شئت أم أبيت الى المرتبة الثانية ، واحياناً إلى مرتبه متدنية ، منحطة عندما تتماحك مع المصالح المادية للناس . قد تقول لي إنني مبالغ في الامر ! قد ! بيد ان سيماء يومية الحياة الإنسانية تقول غير ذلك .
ثمة هذه المقولة لرئيس وزراء إنكلترا الراحل - تشرشل- " من السُخْف ان تتّخفى من تلك الرصاصة التي إنطلقت للتو . لم تصبك ، هذا يعني إنها لم تقصدك " . إختصرنا فلسفتها، نحن بني يعرب ، إلى " قسمه ونصيب " ! والحق ، هي ليس كذلك ، بل على النقيض تماماً. لنتمعن في ذلك في الرجوع إلى موضوعنا عن سنغافورة .
لنبدأ من البداية : سنغافورة ( المساحة 710 كم مربع وعدد السكان 5,5 مليون نسمه ) مستنقع آسن ، لا موارد طبيعية ، لا مياه عذبة ، بطالة بلغت نصف السكان ، تشتت أثني وديني ، فقر وتسّول وزبالة ، فوضى ولا نظام ... هذا هو حال سنغافورة عندما أعلنت الاستقلال من ماليزيا في 19 أب عام 1965 ! .
هذا المستنقع تحول في وهلة من الزمن خلال ثلاثين عاماً الى دولة ذات كل مقومات السيادة ، يضمنها : إقتصاد متطور، جيش كفء، قياده حازمة ، نزيهة، لا رشوة ولا مزابل في الشوارع . القانون والانضباط مهيمنان على كل مرافق المجتمع وعلى كل افراده ، لا فرق في ذلك البتّة بين رئيس ومرؤوس مهما كان سلمهما الوظيفي . هذا هو الحال في سنغافورة . وإذا كانت ماليزيا ، الدولة المستعمرة ، قد ضاعفت من الدخل السنوي لمواطنيها خلال عشرين عاماً بعد عام 1965 بعشرين ضعفاً ( 12 ألف دولار )، وهي نسبه معتبرَه بحد ذاتها ، فإن سنغافورة لذات الفترة ضاعفته ب 80 ضعفاً بالتمام والكمال ( 31 ألف دولار ) ، وفوق ذلك أضحى الدولار السنغافوري في عداد العملات الصعبة على المستوى العالمي . وسنغافورة الآن هي خامس مرفأ بحري في العالم من ناحية الحركة والدخل ، ورابع أهم مركز مالي في العالم والثاني في آسيا ( بعد هونكونغ ) . وعلى الرغم من ان سنغافورة ليست لديها أية موارد طبيعية إلا انها تحتل المرتبة الثالثة في العالم في معالجة وتكرير المنتجات البتروكيميائية بعد هيوستن في الولايات المتحدة الأمريكية وروتردام في هولندا ، ويعمل في سنغافورة اكثر من 115 بنكاً عالمياً بإستثمار وسيولة منضبطة بأكثر من 850 مليار دولار أمريكي . والرقم الاخير يعني ان لدى سنغافورة فسحة هائلة في القيام بإستثمارات ومشروعات تنموية بمليارات الدولارات ، من خلال إستخدام وتشغيل تفعيلي لهذه الودائع ، دون أن تخشى المخاطرة ،أو شحة في التمويل الاستثماري ، بسبب الثقة العالية لأصحاب هذه الودائع في النظام المالي لهذا البلد. لقد توحدت هذه المدينة - الدولة بسكانها من الملاويين والصينيين والهنود والاسيويين نحو هدف واحد وهو تخليق دوله علمانية متقدمة ومُرفهّة .
إستقلال بنّاء ، تخلقي ، وليس إستقلال يُضفي إلى تخلف وتشرذم وعودة إلى جاهليات السراويل المقصرة وسبي الحرائر .
أكمل " لي كوان " دراسته العليا في بريطانيا ، وأشرف شخصياً على إستقلال وطنه من ماليزيا عام 1965، وأصبح أول رئيس وزراء لسنغافورة بعد الاستقلال وأُنتخب ل 8 مرات متتالية إلى ان إستقال وترك السلطة طواعية ، أُؤكد طواعية عام 1990 ، وودعته الملايين إلي مثواه الاخير في 23مارس عام 2015 عن عمر 91 عاماً .
بادئ ذي بدء إعتمد لي كوان في بناء الدولة عقيدة إحلال النظام والانضباط في المجتمع ، وفي هذا يقول " لا اعتقد ان طريق الديموقراطية تؤدي إلى النتيجة ، بل أرى ان البلد يحتاج إلى النظام اكثر من الديمقراطية " . قد تتفق أم تختلف مع الرجل ، ولكنه إنطلق من حقيقة انه في مجتمع تسوده الفوضى والأمية وعدم المسؤولية فالأولوية إلى ترويض هذه الجموع ( الرعاع ) وضبط إيقاع حركتهم اليومية بدلاً من توجيههم إلى صناديق إقتراع لا يفقهون منها شيئأً سوى التصويت لِأناس غير نزيهين بل وسرّاق المال العام. إبتدأ لي كوان هذه المهمة بالتصدي لظاهرة الرشوة والمحسوبية والواسطة ، وهي ظواهر وجزء لا يتجزأ من التقاليد الشرقية الأصيلة على مر الازمان . تم في لحظة واحدة حل جهاز الشرطة بالكامل فإعاد تشكيله من جديد وعلى اسس جديده لم يعهدها السنغافوريون . مقدم الطلب للالتحاق بالجهاز الجديد عليه ان يثبت ليس فقط حسن سيرته و" نظافته " بل وحسن سيرة جميع أفراد عائلته . ثانياً ، تم تفعيل المكتب المركزي للنزاهة بحيث مُنح صلاحية وحماية دستورية في ان يتعقب اي موظف حكومي ، مهما كانت درجته ، إذا ما لاحظ انه يعيش فوق مستوى دخله الوظيفي . ليس هذا فقط بل عليك ايها المواطن ، بحكم القانون ان تقدم لمصلحة الضرائب طواعية وفي أجل لا يتجاوز الشهر عن مصدر الدخل الذي مكّنك من شراء بيت او سيارة وما إلى ذلك من المكونات القيمية الاخرى . إن لم تفعل ذلك في الاجل المحدد ستحال على القضاء ، وإن ثبتت لا قانونية الدخل ، يصادر العقار أو السيارة وما إلى ذلك ، وفي كل الاحوال ، سواء كنت نزيهاً من عدمه ، فانك ستدفع غرامه معتبره لأنك لم تبلغ السلطات في الاجل المذكور . تم في هذا الاطار إنهاء علاقة المواطن ( المُراجع ) والمسؤول وإحلال علاقة المواطن بالدولة . بمعنى انك ، أيها المواطن سوف لن تعرف البتّه من هو المسؤول عن البت في معاملتك في أروقة الدولة . معاملتك تأخذ سياقها وروتينها وفق القانون ، وبهذا تنعدم اية إمكانية أو فرصه لتقديم الرشوة . هذا ما معمول به ، بالمناسبة ، في الدول الأوربية ، عدا القليل منها . جاء الدور حول الانضباط . بمعنى كيف يمكن ان تحّول هذا الجمع المتنافر المصالح والاهواء وتفكيك حالة الأنا المتوغلة حد المطواة في الذات السنغافورية ، وليس فيها وحسب ، بل ولكيما تصهرها من جديد وتحولها إلى طاقه خلاقة ، بناءّة ، لمصلحة الجمع ذاته . كيف ؟ أقول لك من خلال المثال السنغافوري التالي : البداية كانت من الشارع ! كان التوقف عند الإشارة الحمراء مثار تَندُّر وإستخفاف السائقين . صدر أمر بمصادرة السيارة ، أو بدفع غرامه تعادل القيمة السوقية لها للمخالف . إنتهت المخالفات فوراً. كان لابد أيضاً ، وفي السياق ذاته ان ينتظم المواطن في إيقاع حركته ونشاطه اليومي في إحترام القانون . تجاوز الإشارة الحمراء للمُشاة ، حتى في الشوارع الضيقة ، يعني لا محاله انك ستستلم إشعاراً مهذباً في ان عليك ان تدفع ، خلال اسبوعين لا أكثر ، غرامه تعادل 75 دولار ( 60 دولار أمريكي ) . لم تدفع ، سوف تُضاعف الغرامة ، أولاً كمتوالية عددية ومن ثم متوالية هندسية . هكذا وقفت أنا بالذات مُتسّمِراً أمام الإشارة الحمراء ووقف الناس الاخرون، بتبرم أو بدونه ، في شارع غير ذي سعة في سنغافورة . قد تسأل كيف يتم ذلك في غياب أي حضور ملحوظ من رجال الشرطة في الشارع ؟ الجواب يكمن في رصد كاميرات المراقبة ، المثبتة في كل مكان ، ربما سوى في مخادع النوم ! قد تعترض جمعيات حقوق الانسان على ذلك ، ولكن السيد لي كوان قال النظام أولاً وأخيراً . وفي هذا توكيد لحقيقة انه لا يوجد فرق بين الحياة البرية للكواسر وبين الحياة الإنسانية لبني البشر . من حيث الجوهر هي واحدة . الاختلاف يكمن في ان ثمة قوانين وضعيه تُؤطِّر الفعل الانساني ، ولا يوجد ما يقابلها في عالم الحيوان . إذن نحن من طين وأكسير حياة واحد.
الخطوة الاخرى كانت إتخاذ إجراءات لاستكمال النظام بإشاعة البهجة والجمال والنظافة على المحيط والبيئة . هكذا صدرت عقوبات رادعه لمن يرمي الاوساخ أو العلك( اللبان) أو ، لا سامح الله ، البصاق في الشارع ، وهلمجرا .
وعلى الرغم من ان لي كوان رفع شعار لا رشوة ولا مُرتشين ، إلا ان النفس أمارّه بالسوء والخديعة والارتزاق على حساب الاخرين. وهنا بالضبط وُضعت عقيدة تطبيق القانون على الجميع ، دون إستثناء، على المحك والمصداقية. هكذا كان في حالة السيد ( أدفين يو ) الرئيس السابق لمكتب النزاهة ومكافحة الفساد المالي . فعندما ثبت بأنه قام ب 372 (زيارة) ، موثٍّقه بالطبع ، لكازينو لعب القمار ، وفي انه قد خسر فيها بالإجمالي 400 الف دولار . وعلى الرغم من أن الرجل أقّر بذلك وأعاد ألى الخزينة كاملاً ما سرقه من المال العام ، ألا ان ذلك لم يشفع له وحكم عليه بالسجن لمدة عشرة أعوام بالكامل . لماذا ؟ لأنه خالف مادة جنائية أخرى ، والتي بموجبها تلزم المواطن بإبلاغ مصلحة الضرائب عن إرتياده لكازينو لعب القمار والمبالغ التي كسبها أو خسرها. صاحبنا لم يفعل ذلك . وعندما أُكتشف وزير التنمية ( تي سزيفان ) بإستلام رشوه ، قُدم للمحاكمة فوراً . لكنه ، كان حاذقاً ، لم ينتظر المحاكمة، إنتحر وخلّص نفسه . وعندما قرأت مؤخراً انه في الصين حينما تبين ان احد المسوؤلين الكبار في الدولة يؤطر معصمعه بساعة قيمتها أربعة عشر ألف دولار ، أحيل إلى لجنة النزاهة ، وحيث انه لم يستطع إثبات مصدر رفاهيته حُكم عليه بالسجن لمدة أربعة عشر عاما ! إي نعم ، سنة سجن لِقاء كل ألف دولار من المال السُحتْ ، لم يخطئ ظني في ان بلاد المليار نسمة ونيف قد أحسنت إستلهام تجربة جارتها الأسيوية . بربك ، ألا تقف إجلالا لهكذا دوله وهكذا نظام ! والشي بالشئ يذكر ، وأنا المولع حد الثمالة ، بقراءة التاريخ ، ألم يكن هكذا هو الحال في زمن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز ؟
أستدرك بالقول إنني عن عمد ، وليس عن خباثة ، أمسكت بالمؤخرة قبل المقدمة ، أي بالخبر قبل المبتدأ ، حيث إبتدأت بالعقاب قبل الثواب ، وليس العكس ! ذلك ليس عسفاً أو تطاولاً أو عدم دراية ، أو ربما إتساقاً مع الروح الشرقية !! لا ، ليس هذا أو ذاك ، وإنما هو قراءة فعلية للعقيدة " السنغافورية " ، التي وضعها لي كوان ، وأحكم قبضته في تطبيقها على شعبه ، والتي تقول بأولوية الواجبات ، ومن ثم الحقوق ، وليس العكس . تذكرت هنا، إننا في التدريس الاكاديمي على مستوى الجامعة ثمة فصل خاص في الاقتصاد الجزئي Micro economy نُدرِس فيه للطلاب منهجية المدخلات والمخرجات Input-output ولم نقل العكس . والحق ، فإن هذه العقيدة الاجتماعية في قيادة الدولة والمجتمع هي السائدة في دول العالم ، الذي يحلو لنا ، دون تبصّر ، ان نطلق عليها مسميات من مثل " متحضرة " أو " راقية " أو توب توب !! والحقيقة أنها ليس هذا أو ذاك . هي مثلنا ، ذات الجينات التخلقين التي مازال علماء الاحياء والفلسفة ، على السواء ، في حيرة من مصدر غلوائها وتضاداتها ولا إنسانيتها . السر، مَولانا ، يكمن في قوة القانون . السر ، يكمن ، في انها ، إنما رُوضِت وإستُونِسَت بفعل تلك اليد الطولى ، التي نسميها السلطة ، القانون ، والحزم القاطع في تطبيقه على الجميع . العبرة تكمن في تفقّه فلسفة الرجوع إلى آخر ما توصل إليه فريق من العلماء من ان النمل في مستعمراته تحت الارض يستنكف ان يتناول أي غذاء قبل ان يقضي ساعات طوال في نقل وحمالة ما لذ وطاب من الخيرات إلى مستعمرته . العجب، انه في هذا الرواح والإياب اليومي لهذه الملايين من جيراننا الكادحين ، سوف لن ترى أي تصادم ، أو أية عرقله لاحدهم للآخر. الكل في انسيابيه وخفة ظل ، رغم غياب أية إشارات مرور حمراء أو خضراء وذلك اللون الاصفر ما في بينهما ! لقد كان سليمان الملك في امثاله وتعاليمه عن الحكمة ليس بغافل عن ذلك حين عبّر بدقه فلسفيه عن ذلك بقوله " النمل جماعة لا قوة لها ، لكنه يُهيئ في الصيف طعامة " - الكتاب المقدس ، الطبعة الاولى ، بالعربية عن جمعية الكتاب المقدس في لبنان، 1993 ، صفحه 824 - وفي القرآن الكريم ثمة سوره باسم سورة النمل ، ولم يكن ذلك قط إعتباطاً ، بل تكريماً إلهياً لهذه المخلوقة ، المنتجة ، الولادة ، ولم يغفل فيلسوف الاسلام الاكبر ، أعني به الإمام علي إبن أبي طالب ، تفقّه حياة النمل عندما ذكر في إحدى خطبه " أُنظروا إلى النملَةِ في صِغرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتها، لاتَكَادُ تُنالُ بِلحظ البصر ، ولا بِمُستدرَكِ الفِكر، كيف دبَّتْ على أَرضِها ، وصُبَّت على رِزْقِها ، تنقلُ الحبَّةَ إلى جُحرِها، وتُعِدُّها في مُستقرِّها . تَجمعُ في حَرِّها لِبَرْدِها ، وفي وِرْدِها لِصَدَرِها، مَكفُولُ بِرِزقها، مَرْزُوقَةُ بِوِفْقِهَا ... " ( نهج البلاغة 361-362 ) ، عند ذاك يصّح ويحق لها ان تتناول ما تريد بعد يوم العمل هذا . عند ذاك يحق لها ولأقوام جنسها ان تستغرق في نوم عميق ، ذي أحلام ورؤى ، إلى صبيحة يوم العمل التالي . سوف لن يدر في خلدها قط انها ستتلقى ، لقاء كدحها أية "مكرمه" من السيد الرئيس القائد ، أو ان يضحى بعضها من ضمن زمرة "أصدقاء ألرئيس" !!.. يا لِسفاهة أولئك ، الذين إبتكروا ، لِفَدمهم ، تلك المقولات . هنا في سنغافورة ، في أوربا ، سوف لن تتلقى قط كلمة شكر لأنك أديت عملك . ذلك واجب . أعني بالأمر ، بداهة ، اولئك ، اللذين يعملون وليس اولئك الذين يقفون بلاهةً في طوابير المساعدة "قل الصدقة" الاجتماعية ! أولئك ، وما أكثرهم ، لهم ثواب ومثاب آخر ، ذي منهجيه مغايره !! هم ، أولئك اللذين أعنيهم ، يعرفون ، ويا لخيبتهم ، ذلك .
الآن ، حان لي أن التفت ، في بضع سطور ، إلى مبتدأ الكلام وإلى مقدمته ، كما أسلفت أعلاه . هكذا تم إعتماد سلم مغري لمرتبات موظفي الدولة ، خصوصاً تلك الأجهزة ذات التماس المباشر مع مصالح الناس والسهر على أمنهم . يكفي القول ان المرتب السنوي للقاضي يبلغ مليون دولار سنغافوري ( 750 الف دولار أمريكي ) ، ويتمتع منتسبي الشرطة والامن بجوائز مادية هائلة إلى جانب مرتباتهم العالية. كان ذلك لوضع حاجز مادي مناعي مُحصّن ضد الرشوة والمحسوبية . هذا يعني أن إستلام رشوة، في لحظة من ضعف إنساني ، تفضي لا محالة إلى فقدان هذه الامتيازات كاملة ، ولا تعفي متلقيها ، فضلا عن ذلك ، من العقوبة الجنائية .
كانت المعضلة الاخرى بعد الاستقلال ،التي تصدّى لها لي كوان، والتي تستوجب الحل ، بدون إبطاء أو تسويف ، هي مشكلة السكن. عشوائيات في كل مكان ، فوضى عارمة ، جوع وتسّول ، غياب مصطلح ملكية عقار ، إلا للقادرين على ذلك . في عام 1970 كان 90% من سكان سنغافورة يعيشون في بيوت مؤجرّة ومتهالكة ، وفقط 9% في شقق مملوكه. الآن فأِن 97 % من السكان يتملكون شققا خاصه بهم . كيف تحقق ذلك ؟ كان أن أُعلن مبدأ : سكن مُلك للجميع . أنشأت الدولة من الميزانية الحكومية ، المعتمدة أصلاً على الضرائب ، صندوقاً سياديا خاصاً ، تقدم بموجبه 30% لتمويله ، وفي نفس السياق فإن هذا الصندوق ألزم كل سنغافوري ان يقتطع من راتبه 20% لتمويل هذا الصندوق . بمعنى إقامة تعاونية شعبية على نطاق الوطن لإشاعة التملك . هنا يحضرنى تلك المناجاة التي ما انفك يوماً طيلة حياته المبسترة العالم والمفكر العراقي الراحل هادي العلوي، والتي ، ويا للعجب وهو المفكر اللاإقتصادي في التخصص ، إستطاع عن دراية فلسفيه ان يمسك تلابيب فن وعلم إدارة المجتمع ، بدعوته ، التي لم تلق صدى ، في إشاعة التعاونيات وغيرها ، وغيرها . سنغافورة ، لحسن طالعها ، أقامت تعاونية شعبية لتمويل التملك العقاري . في بلوغ هذا الهدف تم إلزام البنوك بتقديم القروض للمواطنين ، الراغبين في التملك ، بنسب فائدة متدنية . في ذلك فقد ضربت مجموعة عصافير ، كما يقال ، بحجر واحد. قروض ميسره أضفت إلى تسهيل التملك العقاري وحل مشكلة السكن ، وثانياً إقامة مناعة اقتصادية ضد التضخم وإرتفاع الاسعار . التضخم ونسب الفائدة المتدنية على القروض ضِدان لا يجتمعان قط . بديهية في علم الاقتصاد . ليس هذا وحسب ، بل ان هذا الاستثمار العقاري ( الذي مصدره القروض الاستثمارية الميسرة ) حفزّ بأليته النمو الاقتصادي الكلي . هكذا فإن سنغافورة عملت على ألا يكون دولاراً واحداً مودعاً في بنوكها بدون عمل ، شغّلته ، وبكفاءة . وفق ذلك تم إشاعة بناء عقاري للسكن على مستوى البلاد من 25 طابقاً ، وفق رقابة قانونية صارمة ، ولم تسمح الدولة للقطاع الخاص للاستثمار في السكن إلا في عام 2005 بعد ان تملك 97% من السنغافوريين لسكن ، بتملك كامل ، خاص بهم .
أحاول ان أختم ، ببضع سطور ، مقالتي هذه ، للتطرق إلى أهمية العلم والبحث العلمي في التجربة التنموية السنغافورية . أعلن لي كوان شعار : الأولوية للعلم وللتحصيل العلمي ومن ان " الفقر لا يحول ابداً من أن يتمكن أي معوز من ان يكمل تحصيله الجامعي ". تم ترجمة ذلك عملياً في ان إجمالي إنفاق الدولة يبلغ اكثر من 20% في الموازنة المالية السنوية ، وهي أعلى نسبه في أسيا ، وتحتل الطليعة سوية مع بضع قليل من بلدان العالم . أعتمدت اللغة الإنكليزية ، لعالميتها ، اللغة الرسمية الاولى . ويُعفى المتفوقون وأولئك ألُمنهون دراساتهم الجامعية والعليا في أوانها، من المصاريف الدراسية ( بالمناسبة هذا ما معمول به في هولندا وفي بضع اخر من الدول الأوربية ) . وحسب تصنيفات ( اليونسكو ) فإن الجامعات السنغافورية تُصنف من ضمن أرقى الجامعات في العالم وشهاداتها الجامعية مُعادلة على ذات المستوى مع نظيراتها الأوربية . وعندما تذمرت الفتيات من ان التحصيل العلمي العالي كان من شأنه إنصراف الفتيان عنهن ، بسبب إنشغالهن بأمور العلم ، أصدر لي كوان قراراً حكومياً ملزماً ، بموجبه نصّ على ان من يتزوج من فتاة ذات شهاده عليا يحصل على علاوة نقدية تضاف إلى مُرتبه . تصوّر، جنابك ، ما أثر هذا القرار ؟ هكذا..فأنتِ ، أيتها الحلوة ، الشفافة ، في الرُؤّى والاحلام ، وذات المقاييس النواسية ، سوف تُضيفين ميزة جديدة إلى رصيدك هذا ، عندما تكملين تحصيلك الجامعي فما فوق ، دون أن تخشين من العنس ، فمِن مِن بني فصيلتنا الرجالية من لا يرغب في ان يقترن بفتاة في مثل هذه الاوصاف ؟ من ؟ لا أحد ، حسب علمي !
الحديث ، عن ، وحول ، هكذا تجربه مُغر للكاتب ، وربما وللقارئ أيضاً، كما أظن ! بيد ان فسحة المكان لهذه المقالة محدّده ، ولهذا سأكتفي بما أوردته ، عسى أن اكون قد وفقت في عرض ما أردت عرضه . غايتي الاولى الاستفادة منها في إعادة بناء وطننا،العراق، على اسس حضارية ، علمانية ، غايتها الاولى والأخيرة مصلحة الغلاب ، لا مصلحة البعض ، مصلحة تلك السواعد السمر ، من الشغيلة ومن المثقفين ، وما أكثرهم . مصلحة العراقيات، أمهاتنا وأخواتنا ، فليس من العدالة بشئ ان يستمر نزيف تضحياتهن إلى اللامنظور !
* المقالة مُهداة إلى الاخ علي العضب