- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 24 آذار/مارس 2015 20:37

تنخر آفة الجهل في مفاصل عديدة من الحياة، وربما وصلت الى أبعد مفصل في المجتمع العراقي، هذا ما خلفه الطغاة والحروب، وما أفرزته من نزاعات وصراعات مستمرة، بالإضافة الى افرازات الجهل والفقر والجوع والتخلف، وعدم استقرار المجتمع يوماً ما، كي يعالج هذا الخلل الملتصق بالعادات والتقاليد والقوانين الجهلوية التابعة للبعض، للاستفادة من استمرارها، كي تخدم مصالحهم وادامة سيطرتهم واحتكارهم، فهذه الفئة أخذت تزداد بازدياد الجهل المجتمعي والوضع الاقتصادي المتردي، الذي ألقى بظلاله على المرأة بالذات، لذا لابد أن نسلط الضوء على هذه الشريحة الكبيرة من مجتمعنا، المرأة وحقوقها المهدورة في أكثر من مفصل، سواء قضية زواجها خارج المحكمة، عن طريق عقد زواج يبرم عند رجل الدين وما يسمى "بالسيد/ الشيخ/ الملة"، وهذه الظاهرة أخذت تزداد في الآونة الأخيرة، بسبب الجهل القانوني للمرأة، وعدم وجود تغطية قانونية لرجال الدين بسبب خلط الدين بالدولة، فأصبح هم "البعض" هو كيف يصول ويجول ويحجر المرأة ويخفيها ويجعلها تابعاً له أو يجعلها سلعة رخيصة يرميها وقت ما يحب ويشاء بسبب كثرة الزواجات الشرعية غير القانونية أي "زنا شرعي" لمجرد شهود اثنين وعقد زواج عند الملة، بدون توثيقه في المحكمة، بينما هذا النوع من هذا الزواج يعتبر منقوصاً غير كامل، اذا لم يوثق في المحكمة ويضمن للمرأة والطفل حقوقهما.
تنكّر لها ولأولاده
زرنا الكثير من العوائل والتقينا بالكثير من النساء اللواتي ضاعت حقوقهن بسبب زواج طارئ خلف وراءه كوارث انسانية لا تحصى ولا تعد، والتقينا بإحدى هذه العوائل، بيت أم زهراء، فتحدثت الأم عن ابنتها وزواجها، قالت:
ابنتي عمرها 15 خمسة عشر عاما وتقدم لنا ابن جيراننا وطلب الزواج من ابنتي وكان عمره 43 عاما، متزوج وله خمسة أولاد.
كيف تمت الموافقة عليه وهو متزوج ويكبرها سناً؟
- نحن عائلة فقيرة جدا،ً والأب متوفى. وأنا لا أستطيع تحمل مسؤوليتها لوحدي ناهيك عن خوفي عليها من المجهول فقررت الموافقة.
سألنا زهراء، كيف تمت إجراءات الزواج
فقالت: ان والدتي وافقت على الزواج لأن الرجل حاله ميسور، ولم تفكر بالفارق بيننا، من حيث العمر ولم أستطع الاعتراض، لأنني صغيرة ويجب ان أطيع أخي ووالدتي وتزوجت وانجبت منه ولدين وبعدها طلقني بسبب المشاكل المستمرة مع زوجته الأولى.
وهل حصلتِ على حقوقك وحقوق اولادك ؟
لا، لأنني لم أعقد في المحكمة، وزواجي كان عند "السيد" والشهود هم اصدقاؤه ولا توجد عندي اي وثيقة كي اثبت حقوق اولادي، وحاولت الاتصال به أكثر من مرة، لكنه قام بطردي، وكان يقول ليس لك عندي اي حقوق، حتى أولاده تنكر لهم، والان ابني الكبير عمره 6 اعوام ويعمل في السوق، يبيع اكياساً للمتسوقين، ولا استطيع ان اسجله في المدرسة لعدم حصوله على هوية الأحوال المدنية، لا هو ولا اخوه، بالرغم من مراجعتي المحكمة عدة مرات، لكن لا أملك الأوراق الثبوتية للزواج ولا اعرف مصيري ومصير أولادي في المستقبل.
هل من كلمة توجهينها للمرأة العراقية؟
أقول.. هذا نداء الى كل ام وكل عائلة حريصة على بناتها ان لا تجعل من بناتهن سلعة رخيصة جاهزة للبيع مهما كان الظرف قاسياً لأنهم سيتلقون الأصعب والأقسى من هكذا زواج غير قانوني وغير متكافئ.
في بحر المجهول
المدرسة وعمرها تسعة وثلاثون عاما تزوجت من شخص متزوج بعد ان احبته ووثقت به وكان زواجه بالسر كي لا تعلم زوجته الاولى، بالإضافة الى ان عقد الزواج تم بمكتب "سيد" وبشهود لا تعرفهم جلبهم السيد بنفسه كي يشهدوا على هذه الوثيقة. وبعدها علمت زوجته الاولى بزواجنا هي واولاده واخذوا يهددوني اذا لم اترك والدهم بالرغم من اني انجبت منه بنتاً وهي الان بدون وثيقة ولا هوية احوال مدنية واصبحت ضائعة ولا اعرف ماذا أو كيف اتصرف.. كلفت المحامي بقضيتي ولكن دون جدوى ولم املك اي ورقة تثبت انني متزوجة حتى انني والمحامي ذهبت الى مكتب السيد لأحصل على ورقة زواجنا، لكن السيد أنكر زواجنا ولم يعطني اي دليل يثبت انني متزوجة.
وأضافت: هذا كله جرى بسبب ثقتي العالية به وأمنته وصدقته عندما قال لي سأوثق زواجنا في المحكمة حالما ظرفي يسمح بذلك وبعدها هجرني. لكنه ترك ابنته التي عمرها عامان دون ان يسأل عليها او يعترف بها وبقينا نعوم في بحر المجهول علني أعثر على قشة اتمسك بها. غلطة كانت بدافع حسن النية لا اكثر.
ضحية
التقينا بـ "هيفاء" في احدى اشارات المرور، امرأة تتسول مع ابنتها التي لا تتعدى السنتين، تزوجت وعمرها 13 عاما من شخص مريض نفسياً وكان زواجهما قد تم على يد شيخ في بيته ولم يوثق هذا الزواج في المحكمة بسبب معارضة اهله وعدم موافقتهم بتوثيق هذا العقد بالمحكمة وعاشت معهم في نفس البيت ومن اسباب تزويجها لهذا الرجل المريض هو الوضع الاقتصادي المتردي للعائلة، بالاضافة الى خوف العائلة على ابنتهم كون الزواج للبنت هو "ستر" واصبح لهيفاء ثلاثة اولاد وبنت وفي يوم استفاقت هيفاء على صراخ والدة زوجها، فاذا بزوجها قتل بانفجار ارهابي، واصبحت هيفاء ارملة ولها اربعة ايتام "في رقبتها" غير قانونيين، ليست لديهم أية وثيقة او هوية احوال مدنية ولم تستطع اثبات حقهم بعد ان طردها اهل زوجها واصبحت متسولة في الشوارع هي واولادها. هذه ضحية اخرى من ضحايا الفوضى المجتمعية التي نعيش فيها.
ضحية أخرى
الضحية الاخرى هي فتاة جامعية في الثاني والعشرين من عمرها احبت طالبا في نفس المرحلة الدراسية وتكلل هذا الحب بالزواج، لكن هذا الزواج تم بعقد في مكتب السيد مع شهود من السيد نفسه ولم يوثق هذا العقد لأن الزواج تم بالسر بسبب ممانعة عائلة الزوج لاسباب طائفية، وبدأت المشاكل بين الزوجين، واحد اسباب هذه المشاكل هو عدم توثيق الزواج في المحكمة وخوف البنت من اهلها، وحدث الانفصال وبقيت الفتاة كالوقف لا تستطيع ان تثبت بأنها تزوجت وطلقت وتركت الجامعة بسبب التساؤلات التي تتعرض لها عن قصة زواجها، والان تعمل عاملة في صيدلية واهلها لا يعرفون القصة وتعيش واقعاً نفسياً مريراً بسبب جهلها للقانون والانجرار وراء عواطفها.
الجهل هو السبب
ذهبنا الى احدى المناطق الشعبية وطرقنا باب أحد البيوت، وفتحت لنا الباب امرأة متوسطة العمر هي "ام علي"، سألناها ما رأيك في الزواج خارج المحكمة أي "زواج السيد أو الملة"، فأجابت: بعد ان تصورت اننا من المحكمة جئنا لها لنساعدها في اثبات حقوق ابنتها وقالت لنا في نغمة حزينة "كأنكم في قلبي"، أن ابنتي هي احدى ضحايا هذه الزيجات، حيث زوجت ابنتي الى ابن جيراننا وكان رجلا يتمتع بأخلاق جيدة ووثقت به واعطيت ابنتي له وكان زواجهما عند السيد وجرى في مكتبه وكان الشهود من اقرباء الزوج، وانا من جهلي لم أطالب بتوثيق هذا العقد بالمحكمة وانجبت منه اربعة اولاد وبعدها حصلت مشاكل بينهما وتم الفراق وطالبت بحقوق ابنتي منه فتنكر وطردني ولم يعطني أي شيء اثبت به حق ابنتي وأولادها ونسبهم الى والدهم، والاولاد الان بدون هوية الاحوال المدنية، وبدون حق في التعليم والصحة والمعيشة، وأحد الأولاد تكفله أخي وسجله باسمه، والباقون يعملون في السوق، لا حول لهم ولا قوة، ولا ندري كيف نثبت بنوتهم ونحصل على حقوقهم؟. هذا كله بسبب جهلي للقراءة والكتابة، حيث انني انسانة امية فقيرة الحال لا أملك اي سلاح لأدافع به عن ابنتي او حتى عن نفسي.
الأمية وتردي الوضع الاقتصادي
هذه عينة بسيطة جدا من معاناة النساء المتزوجات على ورقة لا تغني عن جوع أو تروي من عطش تحت مظلة السيد او الملة او الشيخ وما اكثرهم في هذا البلد الجريح، والفارق في الجهل والنزاعات والحروب، حيث ان هناك جيوشاً من النساء، وخاصة في المناطق الشعبية والقرى والأرياف، تم زواجهن خارج المحكمة دون اثباتها وتوثيقها، ولتسليط الضوء اكثر ذهبنا الى احدى المحاكم والتقينا بالأستاذ المحامي كريم الشمري واخذ يعرّف الزواج خارج المحكمة وهو "الزواج الذي يبرم بعقد من قبل رجل الدين فقط، والذي يتمثل بالسيد/ الملة/ الشيخ، ولا تترتب عليه اي حقوق قانونية او مادية للمرأة واطفالها ولعدم وجود عقد رسمي مصدق من قبل المحكمة" هذا تعريف بسيط للزواج خارج المحكمة.
اما عن اسباب هذا الزواج مخصوصة فقال: ان من اسباب الزواج خارج المحكمة هو الجهل المعرفي والقانوني للمرأة وعدم تفعيل المواد القانونية التي تحد من هذا الزواج كالغرامة والسجن وهذه العقوبة لو طبقت من قبل رجل القانون لقضي على هذه الظاهرة، بالإضافة الى عدم وجود تغطية قانونية لرجال الدين والزامهم بالقانون، اضافة الى الوضع الاقتصادي المتردي والذي تدفع ثمنه العوائل لتزويج فتياتهم دون السن القانوني للزواج بأقل من "18 سنة"، زائداً المستوى التعليمي المتدني وتفشي الأمية بين المجتمع.
اما بالنسبة للأعراف والتقاليد فلها الباع الاول في تزويج الفتيات دون السن القانوني بحجة "التخلص من مسؤوليتها ورميها برقبة رجل اي سترها" لان المرأة تعتبر بنظر المجتمع الذكوري "عورة" يجب سترها.
أما السبب الآخر فهو الاجراءات الروتينية المتبعة والمطلوبة لاتمام عملية عقد الزواج في المحكمة، بالاضافة الى عدم امتلاك اوراق ثبوتية للمقبلين على الزواج.
اما نتائج الزواج خارج المحكمة وسلبياته فهي ضياع حقوق المرأة القانونية والمادية وعدم امكانية حصول الاطفال من هكذا نوع من الزواج على اوراق ثبوتية، بالاضافة الى حرمان الأطفال من حقهم في التعليم والرعاية الصحية والضمانات الاجتماعية وبالتالي عدم الحصول على فرصة عمل في المستقبل، وسيؤولون الى حالة بائسة وضياع كامل يؤدي الى الانعزال والانحراف وربما سهولة استغلالهم من قبل العصابات الارهابية وبالتالي تعريض الامن المجتمعي للخطر.
هؤلاء الأبناء سيتزوجون بنفس طريقة أهلهم بسبب عدم امتلاك الاوراق الثبوتية، وبهذا استعادة دورة حياة الزواج خارج المحكمة. ولمعالجة هذه الظاهرة والحد منها لابد من اصدار قانون لمنح صفة او اجازة قانونية لمكاتب رجال الدين والزامهم به وذلك لضمان تسجيل عقود الزواج بشكل تلقائي ابتداء من المحكمة، من خلال ربط رجل الدين بالمحكمة حيث سيقوم رجل الدين بإبرام عقود الزواج بسجلات خاصة بالمحكمة صادرة منها لضمان حقوق النساء والاطفال القانونية والمادية.
أما الحل الآخر فهو الغاء مكاتب رجل الدين لأنها اصبحت عبارة عن اكشاك "لبيع المرأة" بورقة صادرة من جهة غير معترف بها، وتعيين قاض شرعي وقانوني بالوقت نفسه يقوم باجراء العقد وفرض عقوبات شديدة كالعقوبة بالسجن والغرامة المالية تلزم والدي الفتاة ورجل الدين الذي يعقد بدون علم المحكمة بالاضافة الى الزامهم بالقانون لان القانون يوظب البشر وينظم حياتهم.
واخيرا يجب ادراج دراسة القانون في المدارس منذ الابتدائية وجعله منهجاً ثابتاً وبالتدريج لانه السبيل الوحيد لجعل المواطن متمسكاً بالقانون وخاضعاً له بشكل طوعي عندما تكون هناك قناعة بأن القانون هو الضمان الحقيقي وحماية حقوقه وحرياته، ومن هذا المنطلق لابد من نشر الوعي والثقافة القانونية بين المجتمع، كحالة ملحة جدا حيث تعتبر الثقافة القانونية من ضرورات الحياة الاساسية في كل مكان وزمان بما له من تأثير كبير على استقرار النظام الاجتماعي وحماية المرأة والأسرة التي تعد الركيزة الاساسية للمجتمع حيث تنظم علاقة الفرد بالفرد وعلاقة الفرد بالدولة وهي لا تقل أهمية عن نشر الوعي الصحي والسياسي والاجتماعي، لأن الجهل بالقانون لا يحمي من يقع تحت طائلته وخاصة المرأة لأنها لا تجد من يحميها لكونها الحلقة الاضعف في المجتمع لذا فان من الضروري ان يكون المواطن لديه دراية واسعة في الثقافة القانونية التي تجعله على دراية ومعرفة وتحصنه من الوقوع بالخطأ. اذن ما المانع من ان يكون هناك منهج خاص بدراسة القانون في المدارس، وايضا تكون هناك حملات واسعة تنشر بين القرى والأرياف لتنشر الثقافة القانونية لمنع مثل هذه الحالات والوقوع بها والحد من هذه الظاهرة وانهائها.