فضاءات

في الذكرى الأربعين لرحيل فؤاد نصّار / ليلى نصار *

أربعون عاماً مضت منذ أن غادرنا أبو خالد، وهي فترة طويلة لغياب عزيز جعلتني أتذكر الماضي وأفكر بالحاضر وأستحضر المستقبل.
بالنسبة للماضي، وعلى الرغم من قصر المدة، فإن البشرية شهدت في الأربعين سنة المنقضية تحولات كبيرة كانت تحتاج عادة عدة قرون لحدوثها. لقد تم تدمير النظام الاشتراكي في أوروبا وأجزاء من آسيا، كما تم تحويل الدول الاشتراكية السابقة الى مستودع للمواد الخام والى سوق استهلاكي لمنتجات الشركات الاحتكارية الكبرى. وشهدت تراجع الحركة الشيوعية وانحسار زخم حركات التحرر الوطنية، كما غرق الشرق الأوسط بالدماء، وفقدت ليبيا والعراق كينونتها كدول كاملة السيادة، واستمر العدوان الإسرائيلي على فلسطين غائباً عن الرقابة والمحاسبة. أما سورية، فقد خاضت صراعاً من أجل البقاء لست سنوات خلت.
لقد أصبحت الرأسمالية خلال العقود الأخيرة متوحشة ولا إنسانية بما ينذر بأفول نجمها، إن لم يكن بفنائها. إن مؤشرات الاضمحلال المتوقعة أصبحت واضحة للعيان، فالولايات المتحدة الأميركية ومؤسساتها الدولية العابرة للقارات بدأت تفقد قوتها تدريجياً ولم تعد صاحبة المبادرة كما كانت قبل عقد من الزمان.
إن سياسة العولمة التي هدفت لفتح الأسواق أمام ائتلاف الشركات المتعددة الجنسيات أصبحت تواجه تحديات حقيقية أمام المقاومة التي تبديها الاقتصادات الوطنية في شرق آسيا ودول أميركا اللاتينية، وبهذا لم يعد العالم أحادي القطبية.
لقد استعادت روسيا دورها كلاعب أساسي على المستويين الاقتصادي والعسكري، بما جعل من المستحيل تمرير السياسات الدولية بمعزل عنها. وعلى الرغم من المقاومة البطولية التي أبداها الشعب السوري ونظامه الشرعي، إلا أنه أصبح واضحاً بأنه ما كان لسورية أن تصمد ولا أن تبقى موحدة بدون الدعم الروسي ولكانت نهبت عن بكرة أبيها.
لقد حجزت كل من الصين وإيران والهند مكاناً مهما لها في النظام الاقتصادي الدولي، كما أن علامات الضعف قد بانت على كل من الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، وبدت مظاهر انحلال عقد الاتحاد الأوروبي تلوح بالأفق، بسبب عدم رضى كثير من حكومات هذه الدول عن تصرفات بيروقراطيي الاتحاد الأوروبي الذين يأتمرون بالإملاءات الأميركية. إن هذه الدول ترغب في استعادة سيادتها وأن يغدو الاتحاد الأوروبي اتحاداً لدول مستقلة.
لقد لعبت اعتداءات داعش الإرهابية الأخيرة في مدن بروكسل وباريس وميونخ وكذلك استقبال موجات كبيرة من اللاجئين القادمين من الشرق دوراً مهماً في إيقاظ الشعور بالتهديد المباشر وبالتالي التكاتف لحماية الذات من الخطر الخارجي. لم يعد خافياً على أحد بأن داعش قد أسست من قبل قوى دولية عابرة للحدود الوطنية وهي تمارس أبشع الجرائم ضد الإنسانية لتستخدم كفزاعة عند الطلب من قبل الدولة الاستعمارية.
لقد أصبحت ردات الفعل المقاومة للسياسات العدوانية للرأسمالية تزداد قوة وتنظيماً يوما بعد يوم، وبالأخص من قبل جيل الشباب في أنحاء كثيرة من العالم. وشهد العام 2008 موجات من الحركات الاحتجاجية ضد الأوضاع المتردية للناس العاديين، وضد البطالة وانخفاض الأجور وسوء أنظمة التقاعد في معقل الدول الرأسمالية كالولايات المتحدة الأميركية، حيث لعب الشباب دوراً مهما في تنظيم مثل هذه الاحتجاجات. وبرزت الحركات اليسارية في هذا المشهد الاحتجاجي مثل حركة سيريزا وبوديموس واليسار بالمانيا واندوجونادوس باليونان واسبانيا والبرتغال وحركة عبر- أوروبا للمثقفين (ديم 25). كما انتشرت حركة "احتلوا وول ستريت" وكذلك برزت أصوات هزت ركائز الرأسمالية المتوحشة من خلال المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز الذي وصف نفسه بالاشتراكي، كل هذا وأكثر يعطي دلالة واضحة على أزمة الرأسمالية التي تبشر بانهيارها لدرجة أن حتمية فنائها أصبحت حقيقة لا يمكن تفاديها.
وعلى الرغم من استشعار النظام الرأسمالي لهذا الخطر، فإنه ما يزال يمتلك من القوة التي تجعله مستعداً لفعل أي شيء للاستمرار بما في ذلك الدخول بحرب قد تكون مدمرة للعالم ككل، وهذا ما يتوجب علينا مقاومته حتى آخر رمق.
إن العالم ينظر بعين الأمل للشباب عموماً ولليساريين منهم على وجه الخصوص كطوق نجاة من خلال الإنعطافة الاجتماعية نحو السياسات اليسارية وتجويدها لتواكب التنوع الجغرافي والعرقي. إن نظرنا يتجه نحو روسيا آملين أن لا يخيب أملنا في إرساء مثل هذا النظام المنشود. علينا أن نواصل النضال، لأنه الخيار بين الحياة أو الموت. أنا لا أشك بأن شباب الأردن وفلسطين سيلعبون دوراً مهماً في هذه المعركة النضالية، وأعتقد بأن نضال أبو خالد ورفاقه ومريديهم سيشكل مثالاً يحتذى بهم بدون أدني شك. لقد كرس أبو خالد كامل حياة الرشد منذ سن الخامسة عشرة حتى وفاته في النضال من أجل الحرية والعدالة. انه لم يكن يعرف حياة أخرى خلاف حياة النضال والكفاح.
لقد قال أبو خالد لرفاقه وأصدقائه في آخر أيام حياته: "لو كان بإمكاني أن أولد من جديد، لاخترت ذات الطريق الذي سلكته" فلنجعل من هذه الظاهرة ومن سيرة رفاقه الأيديولوجية مصدر إلهام لنضال الرفاق والمريدين من الجيل الحالي، ومن اليساريين عموماً ومن التقدميين لتجاوز المحن على طريق إشاعة المساواة وعالم أكثر عدالة.
دعونا نكرم ذكراه العطرة ونترحم على رفاقه الذين غادرونا من قبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* زوجة الرفيق الراحل فؤاد نصار الامين العام الاسبق للحزب الشيوعي الاردني
عن «الغد» الاردنية