- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأربعاء, 17 شباط/فبراير 2016 18:59
تقييم الحراك الشعبي
انطلقت شرارة التظاهرات في محافظة البصرة على شكل احتجاجات شعبية محدودة تقف وراءها بالاساس بعض الكتل والأحزاب السياسية المتنفذة، والتي قوبلت بالقمع الذي ادى الى استشهاد المتظاهر الشاب (منتظر الحلفي)، واتخذت التظاهرة في بغداد في 31 تموز2015، والتي تمت الدعوة اليها بالاساس من قبل مجموعة من الناشطين المدنيين تضامنا مع متظاهري البصرة، طابع هبّة جماهيرية واسعة، فاجأت بعض الأوساط السياسية والقوى المتنفذة عموماً.
العوامل المؤثرة في انطلاق الحراك الشعبي
إلا أن هذا التفاجؤ يعكس عدم الانتباه الى مجموعة عوامل التأزم في الأوضاع و تصاعد الاستياء والتململ لدى شرائح اجتماعية عديدة واتخاذه طابعا احتجاجيا، وقد شكل التأثير المتراكم لكل ذلك مقدمات مهدت لانطلاق الحراك الجماهيري الذي لا يزال متواصلاً.
فالبلاد تعيش على مدى السنوات الماضية ازمات نظام المحاصصة الطائفية والأثنية المتتالية والذي لا يعجز عن ايجاد حلول لها وحسب، بل ينتج المزيد منها لتصبح أزمة عامة تشمل مناحي الحياة كافة والتي تنعكس آثارها الوخيمة على حياة الناس واحوالهم.
وتقترن الأزمات باشتداد الصراع من أجل المصالح المتعلقة بالسلطة والثروة بين القوى المتنفذة المتحاصصة في جميع مفاصل الدولة، وهو صراع متجدد باستمرار من أجل اقتسام وإعادة اقتسام المغانم، بين الكتل المتنفذة وداخلها جميعا من دون استثناء.
وقد امتدت الصراعات إلى داخل الكتل الرئيسة جميعاً؛ التحالف الوطني، واتحاد القوى الوطنية، كما لم يكن التحالف الكردستاني بمأمن من الصراع بين اطرافه كما عكس ذلك مؤخرا ما يحصل حول رئاسة الأقليم، والتداعيات السلبية الاخيرة.
وشملت دائرة الصراع العلاقة مع الأقليم التي تأزمت مجددا بسبب عدم الالتزام بتطبيق الاتفاق النفطي المبرم بين الحكومة الاتحادية والأقليم، فيما تواصل النزاع بين الحكومة الاتحادية والمحافظات ارتباطاً بالتلكؤ في نقل الصلاحيات إلى المحافظات والتخفيض الحاد في الأموال المخصصة لها والتلكؤ في اطلاقها.
وحصل التلكؤ في تنفيذ الاتفاق السياسي بين الاطراف المشاركة في الحكم نتيجة لهذه الخلافات بين الكتل كما اصبح بدوره سببا في استمرارها وتعمقها، وترافق ذلك مع الفشل في تمرير عدد من التشريعات المهمة.
وكان لا بد لكل هذه الصراعات من أن تترك تداعياتها على أداء الدولة بمختلف مؤسساتها والتي تجلت في المزيد من الإهمال والفشل والتدهور في الخدمات، وفي العجز عن معالجة القضايا الملتهبة وذات المساس المباشر بحياة الناس ومعيشتهم، كتلك المتعلقة بالرواتب والخدمات الاساسية، ولا سيما الكهرباء، إلى جانب الأوضاع الأمنية.
ولعل من أهم العوامل التي أججت الاستياء الشعبي وتحوله إلى غضب واحتجاج هو تفشي الفساد واستشراؤه في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها، وتغوله ليصبح اخطبوطاً تمتد اذرعه الى حلقات اساسية في مراكز القرار تتيح له نهب المال العام واستنزاف موارد الدولة وتعطيل عملية البناء والاعمار، وفي ظل غياب المحاسبة والرقابة الجدية تنتشر الرشوة وابتزاز مراجعي معظم دوائر الدولة بحيث لم يعد ممكنا تمشية اية معاملة من دونها إلاّ ما ندر. وباتت تتضح اكثر شبكة المصالح التي تربط بين شريحة من كبار المتنفذين في السلطات الثلاث وبين مفسدين من أصح?ب الثروة والنفوذ في قطاع المال والمقاولات والتجارة، داخل العراق وخارجه، الأمر الذي يفسر عدم فتح الكثير من ملفات الفساد وإحالتها الى النزاهة والقضاء على الرغم من الاقرار بوجودها من قبل من هم في قمة هرم السلطة.
ومن أهم العوامل الأخرى التي ساهمت بقوة في تأزيم الأوضاع وتشديد معاناة الناس، الحرب الضروس ضد داعش، والإختراقات التي حققتها داعش في حزيران 2014 نتيجة فشل وتصدع المؤسسة العسكرية والأمنية بسبب سوء الإدارة والفساد والخلل في بنائها. ومما يشيع عدم الثقة ويثير الاستياء البطء والتردد الذي رافق انجاز ونشر تقرير اللجنة البرلمانية المكلفة بالتحري عن أسباب سقوط مدينة الموصل وتحديد المسؤولين عنه، والملابسات التي رافقت وترافق احالته إلى القضاء، في حين لا تزال لجنة مجلس النواب التي تتولى التحقيق في مجزرة سبايكر لم تكشف عن النتائج التي توصلت إليها، وكذلك الأمر بالنسبة لقضايا أخرى مماثلة.
ان العديد من العوامل التي ذكرت كانت قائمة ومؤثرة منذ فترة طويلة نسبيا، إلاّ أن الوفرة المالية الناجمة عن ارتفاع اسعار النفط العالمية كانت تسمح بالتغطية على مواطن الخلل والعجز في الاداء الحكومي وفي السياسات المعتمدة، ولكن هذه الامكانية تبددت مع الانخفاض الحاد في ايرادات مبيعات النفط، ما ترتب علية ظهور مشاكل مالية ونقدية جسيمة نتيجة التقليص الكبير في تخصيصات الموازنة وخفض الانفاق العام الجاري والاستثماري وما نجم عنه من انحسار في الأعمال وفي النشاط الأقتصادي وعدم ثقة وركود الأسواق والأعمال. وأدى تدهور الأوضاع الأقتصادية إلى مفاقمة الأزمة السياسية وزيادة الصعوبات المعيشية وتلاشي آمال اوساط شعبية واسعة في تحسن احوالها، وخصوصا لدى الشباب.
وإذ تشتد الصعوبات الحياتية لمعظم شرائح المجتمع، فقد اصبحت التفاوتات الصارخة في مستويات الدخول والثروة وفي نمط العيش والتمتع بالخدمات اكثر استفزازا لمشاعر الغضب والرفض، وبشكل خاص منظومة الامتيازات الفائقة والرواتب والمخصصات العالية للرئاسات الثلاث والعاملين فيها ولأصحاب الدرجات الخاصة. كما ينبغي تأشير الارباح الطائلة التي يجنيها التجار الكبار، وتلك التي تواصل المصارف الاهلية تحقيقها والثروات الهائلة التي تواصل مراكمتها شريحة اجتماعية ضيقة ذات طبيعة طفيلية على حساب فقر الأكثرية.
وفي خضم هذا التراكم والتشابك في المشاكل والتعقيد في الأوضاع السياسية، تفاقمت المعاناة الانسانية لأكثر من ثلاثة ملايين ومائتي ألف نازح ومهجر، بسبب الشح في الموارد وتقلص مصادر تمويل أعمال الأغاثة من قبل الدولة والمنظمات العالمية، وضعف القدرات الادارية للدولة ومؤسساتها ووجود الفساد الذي يحول دون وصول نسبة غير قليلة من التخصيصات والمساعدات الى مستحقيها من المهجرين والنازحين.
الممهدات المباشرة للحراك الجماهيري
وقد افرزت هذه الأوضاع تململاً وتحركات احتجاجية مطلبية واسعة في كل انحاء العراق. كان أبرزها حراك العاملين في مؤسسات التمويل الذاتي في وزارة الصناعة، والذي امتد الى قطاعات أخرى.
وعلى خلفية عوامل التأزم المذكورة آنفاً، جاء الانخفاض في تجهيز الكهرباء الوطنية في الوقت الذي ارتفعت فيه درجات الحرارة الى مستويات استثنائية وتصريحات وزير الكهرباء التي تستهين بالمشكلة وبمعاناة الشعب ، ليستثير ردود فعل جماهيرية غاضبة شكلت شرارة انطلاق موجة من الاحتجاجات والتظاهرات في بغداد امتدت إلى محافظات أخرى ممتزجة بمطالب خاصة بكل محافظة.
وإذا كانت مشكلة تجهيز الكهرباء وسوء الخدمات السبب المباشر الذي أشعل فتيل التظاهرات، فإنها ما كانت لتتفجر بهذه الصورة وتكتسب زخما جماهيريا غير مسبوق منذ التغيير، بل من عدة عقود سابقة له، لولا تضافر عوامل عديدة معنوية وسياسية واقتصادية عمقت التوتر الاجتماعي والاحتقان السياسي ومن خلالها تفجر الحراك الجماهيري.
ولعل من بين هذه العوامل البطء في تقدم العمليات العسكرية في الأنبار وافتضاح حالات فساد طالت المسؤولين الجدد وشغلتهم عن إدارة المعارك، واشتداد النشاطات التخريبية والتعطيلية على كل الصعد للقوى المتضررة من التغيير الذي حصل في رئاسة مجلس الوزراء واسنادها الى العبادي.
ولعب الموقف الايجابي من التظاهرات ومن الحركة الاحتجاجية للمرجعية العليا في النجف دوراً مؤثرا في تعزيز زخم الحراك وتوسيع قاعدته الأجتماعية، كما شكّل تفاعلها مع مطالبها المشروعة وإصدارها مواقف حازمة، وداعية رئيس الحكومة الى التحلي بالشجاعة والحزم والضرب بيد من حديد على الفاسدين، عنصر ضغط قويا على الحكومة للمضي في الاصلاحات ودعما لرئيس الوزراء في مواجهة المعارضين للاصلاح.
سمات التظاهرات الجماهيرية في بغداد والمحافظات
يمثل هذا الحراك الشعبي المتواصل منذ ما يزيد على الشهرين وبمشاركة واسعة، رغم الصعود والهبوط النسبي في أعداد المتظاهرين، يمثل اهم فعل جماهيري منذ سقوط الدكتاتورية. وهو حدث في حالة سيرورة لم تكتمل بعد للخروج باستنتاجات نهائية وقاطعة بشأن نتائجه وحصيلته السياسية وتاثيراته الاجتماعية والثقافية والفكرية. غير أن السمات التي طبعت الحراك والتظاهرات، تقدم مؤشرات قيمة وتحمل دلالات غنية على حالة الوعي السياسي في المجتمع، وفي وسط الشباب الذين يؤلفون النسبة الغالبة والأكثر فعالية في نشاطات الحراك، وعلى تنامي الاستعداد للمشاركة في النشاط الاحتجاجي الجماهيري، كما تعكس التركيبة السياسية والاجتماعية للجمهور الواسع المشارك في التظاهرات، والشعارات والمطالب التي رفعتها التظاهرات وجود مشتركات يمكن ان تلف حولها اطيافا اكثر تنوعا من السابق واوسع قاعدة من الناحيتين السياسية والاجتماعية.
والحراك هو محصلة تراكم بمآسٍ ومعاناة من ناحية، وفعل نضالي وتعبوي متنوع من ناحية أخرى، وحركة مطلبية ناشطة على مدى فترة طويلة، أبرزه الحراك العمالي
تتميز التظاهرات بطابعها الشعبي، من حيث سعة المشاركة من المناطق والاحياء الشعبية إلى جانب جمهور متنوع وواسع ايضا من الشباب الناشطين المدنيين ومن المثقفين والناشطين النقابيين، الى جانب اعضاء واصدقاء حزبنا والتيار الديمقراطي والتحالف المدني، ومن انصار مرجعية السيد السيستاني، والتيار الصدري.
التزمت التظاهرات بعدم رفع اية راية او علم غير العلم العراقي، والتزمت بذلك الأحزاب والقوى التي شاركت في التظاهرات، ولم يكن هذا الالتزام شكليا بل عبّر حقا عن رغبة وارادة المتظاهرين في ان يجتمعوا تحت راية الهوية الوطنية العابرة للهويات المذهبية الفرعية. وقد انعكس ذلك ايضا في الشعارات والهتافات والسلوك العام، إلا في حالات قليلة نسبية.
كان الطابع العام للتظاهرات مدنيا، تجسد في سلميتها، وشعاراتها، وسلوك المتظاهرين الذي خلا من الاحتكاكات والتجاوزات الا في حالات قليلة ونادرة، وانعكس ايضا في العلاقة والتعامل الايجابي المتبادل مع القوات الأمنية.
معظم الشعارات والمطالبات كانت مشروعة وواقعية يمكن تصنيفها ضمن اربعة عناوين رئيسة: توفير الخدمات، تحقيق الاصلاح السياسي، مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين والمفسدين والاقتصاص من كبارهم، اصلاح القضاء. ولكن رفعت ايضا شعارات ومطالب عدمية ومتطرفة في التظاهرات الاولى، وانحسرت لاحقا.