- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 06 حزيران/يونيو 2015 19:58

كم هي المسافة بين أصابع التشكيلي العظيم/ العجوز رينوار وأصابع مودلياني؟، وما هو فرق الألم بينهما؟، ولو كان مرفها وله حاشية اجتماعية أنيقة تحيطه دائما مثل بيكاسو فهل كان مودلياني يتعرض للضرب الشرس في ليل مثلّج؟، وأي سذاجة ناصعة جعلت مودلياني يدخل الحانة وجيوبه لا تحتوي سوى دفتر صغير لرسم التخطيطات.
واستمارة المشاركة في مسابقة اللوحة الواحدة؟، ويا لها من ثقة مطلقة بموهبته المتسيدة حين يعلن مودلياني لصاحب الحانة أنه بعد قليل سيكون ثريا، فهو متيقن أن لوحته ستنال الجائزة الأولى ومقدارها آلاف الدولارات من خلال مسابقة اللوحة الواحدة التي اشترك مودلياني وبيكاسو ورسامون آخرون فيها، اني أتكلم عن الفلم الذي أخرجه الكاتب والمخرج الاسكتلندي "ميك دايفز" في 2013، أدى دور مودلياني الممثل "آندي غارسيا"، أمريكي من أصول كوبية، كما أدت "إيليا زولبرستين" دور عشيقة مودلياني "جين هيوترن"، والممثل "أميدو غاليلي" بدور بيكاسو..
مجاورة مع السياق لا أسأل أحدا سواي: لو كان لدينا صالة سينما، فكم عدد المشاهدين لهذا الفلم؟، هل بعدد الذين شاهدوا فلم المحاكمة عن رواية كافكا؟، تمثيل "توني بركنز" في سينما الوطن الشتوي، في منتصف الستينات من القرن الماضي؟، رأيت القليل من لوحات مودلياني، حين كان لدينا في البصرة "أورزدي باك".. كان هذا الاورزدي باك أشبه بالمول الآن، وفيه قسم يحتوي على ألبومات متنوعة الحجم للرسامين العالميين، وكان هذا الاورزدي، خلف سينما أطلس المجاورة لسينما الرشيد، ولا يفصل بين السينمتين سوى محل عرضه أقل من مترين، وطوله عدة أمتار، مطعم "سبمبوسة" وباكورة وعنبة بإدارة هنود مسلمين، نطلق عليهم "البهره"، وهم من "الشيعة الاسماعيليين".. ويلي هذا المطعم سينما الرشيد، وهي الآن محلات أزياء!..
أعود الى مودلياني، أكون ثالث الأثنين: بيكاسو، مودلياني وأنا..
عين الكاميرا لم تركز طويلا على أصابع التشكيلي العظيم رينوار، بل اكتفت بتلك الممرضة وهي تطعمه الحساء بالملعقة كما يطعم الطفل في سنواته الأولى، كانت أصابع يد رينوار محدودبة الجذور تكاد خرزات منابت الأصابع تشق الجلد المتخشب للكف.. لكن انتاجيات أصابعه وفرّت له رفاهية باذخة وشيخوخة أنيقة.. لا ينتظر رينوار أحدا سوى ذلك الزائر الأخير.. فقد اكتملت حياته بزهو فرشاته وتأرجت أحلامه كلها.. لكن أي مصير ينتظر أصابع مودلياني؟، هناك أصابع لم ترد في الفلم، لكن ذاكرتي رأتها في ملعب سانتياغو بعيون عمال مناجم النحاس مع ابادة سلفادور الليندي في أوائل الثلث الثالث من القرن العشرين، انها أصابع عازف الغيتار مغني الثورة الشيلية فكتور جارا...
فلم مودلياني يستحق أكثر من مشاهدة، فهو يتوقف عند حقبة تشكيلية صاخبة بخصوبتها، 1919 وهي السنة الأخيرة من حياة مودلياني وحياة رينوار.. استوقفتني الكاميرا وهي تصور المباني والبيوت من الخارج، كان للتصوير مذاق السرد الروائي الوجيز، ثم تنتقل لتصور الفضاء الداخلي للأمكنة نفسها. الغيم يكتنف الفضاء من بداية الفلم حتى نهاية، لكن نوافذ المراسم وبيت راعية الثقافة آنذاك الروائية غروترود شتاين مشرعة للنور، وثمة موسيقى تصويرية نحيلة كالألم الذي ينحت بقلب عشيقة مودلياني.
لعبة الانتقال بين المكان وضديده كانت بلاغة حادة كشفرة حلاقة جديدة.. فضاء مشع بالإنارة والعطور والأناقة.. حشد نخبوي ينفلق مع دخول بيكاسو وحاشيته، جروترود شتاين وجان كوكتو وسواهما بيكاسو الذي يملك الشهرة والمال والسيارة ويضع مسدسه بجوار كأسه دائما.. تقتله الغيرة من موهبة مودلياني التي يعرف بيكاسو جيدا تفردها، فبيكاسو لم يهتم بالطفل الذي كأنه بيكاسو نفسه، خلافا لمودلياني الذي تتقدمه طفولته في خطواته وأصابعه وروحه ذات الأجنحة، هذا الطفل الذي يراه في العتمة الداخلية لشباك مرسمه، ويرى في كل أمرٍ يقصده الطفل وبوظيفة قرين لمودلياني..
هم.. أعني النخبة في تلك الأضوية، ومودلياني في عتمة تلك الحانة، يسقي مرض السل الذي يكابده ويسقي موهبته خمراً وقد أقتصر الفلم على لقطة عابرة حيث تفحصه الطبيبة.. أقدام تهرول باللوحة، وأقدام تركل وترفس مودلياني، يد تمسك حبالا رفيعة لتزيح الستائر عن اللوحات.. وكؤوس ترفع في الشارع المضاء بالثلج، هرواتان ترتفعان وتهبطان على جسد مودلياني.. الاحتفاء الأنيق الدافئ بالخمور والعطور والأنوثة، عشيقة مودلياني بثوبها القطيفة الأزرق، الذي انتزعه لها بعد أن كسر واجهة زجاج محل الأزياء .. الحبيبة الأخيرة لمودلياني مثل جملة اعتراضية بينهم. الستائر تنزاح عن اللوحات تستوقف العيون لوحة الفنان المقيد بأربع سلاسل، والمقمّط برداء الجنون السميك، فيعلو التصفيق وهي لوحة مرآوي، لكن التراسل المرآوي بين الأنا والآخر سيتجسد بلوحة بيكاسو التكعيبية فهو رأى نفسه بوجه مودلياني، وما بيكاسو سوى قناع متعدد كما في ذلك الكرنفال الذي لم يره سوى مودلياني في احدى هلوساته، وحين ينتزع القناع من أحد الوجوه سيطالعنا وجوه مودلياني.. حين يزاح الستار عن لوحة مودلياني .. يتسيد صمت متشنج.. صمت متآمر ضد مودلياني، وما ان يستعيد بيكاسو توازنه من هذه اللوحة الانطباعية حتى يعلن بيكاسو اعجابه مصفقا، فيتبعه قطيع الحضور.. بإستثناء عشيقة مودلياني، فهي تثبت عينيها بعينها التي في اللوحة وتتذكر جملة مودلياني التي كان يرسمها مغمضة العينين، ها هي أمام اللوحة الأولى والأخيرة لمودلياني وهو يرسمها بعينين مفتوحتين، وها هو مودلياني قد حقق وعده لها.. "حين أدخل روحك وأعرفها أرسم عينيك"..
الفلم يتناول مودلياني بالمقارنة مع ضديده الاجتماعي/ والابداعي بيكاسو، وما يشوب العلاقة بين الأثنين، توحدهما لطخات الفرشاة وتفرق بينهما الامزجة/ الغيرة المهنية/ التمايز الاجتماعي.. استوقفني البعد الجواني لشخصية مودلياني، ذلك البعد المتماوج بين الهلوسات/ البوهيمية/ الفقر النبيل الوجع الداخلي الشرس، وهنا أتساءل هل استطاعت لوحة بيكاسو والتي اسمها مودلياني المشاركة في المسابقة أن تكشف خبايا مودلياني وتقاطعاته؟، وكم نسبة بيكاسو نفسه في لوحته عن مودلياني؟، هل سيطر بيكاسو على مودلياني وسيقوده بيديه كما فعل مع ذلك الطفل في المقبرة الذي كان يتأمل مراسيم دفن مودلياني؟، ألم تقل عشيقة مودلياني لبيكاسو بعد موته مقتولا: انك لن تتخلص من عبقرية مودلياني الى آخر يوم في حياتك...