ادب وفن

المنْجم اللغوي للحب / محمد رشيد السعيدي

تجتمع نصوص المجموعة الشعرية التي تحمل عنوان "نشيد الجسد في اليوم الثالث عشر" للشاعر زهير بهنام بردى، في ثيمة واحدة؛ إنها سيرة حب! وعلى الرغم من حجمها الكبير نسبيا - تتألف من 224 صفحة - ومن استعارة لفظة سيرة من قاموس أغاني أم كلثوم، إلا أنها ليست حكاية طويلة، بل هي قصة قصيرة واحدة، تحتوي على شخصيتين فقط، الراوي العليم، والمركزي الدور والواسع الانتشار، على المساحة الورقية، والأحداثية.
انه الراوي والبطل.. انه النص كله، وإن جاء بشخصية أخرى شاركته النص من خلاله، فلا وجود لها إلا في كلامه، الذي لا ينقطع حتى في غيابها: "أنام الليلة تحت السرير/ احتجاجا على بدلة زرقاء شاغرة"، الذي يصوره غيابا جزئيا بواسطة حلم اليقظة:"أمس في عتبة الغياب وسط الضجيج كنت اسمع ضجيج حلمتيك"، في حالة عكسية، فالراوي يسمع هنا، ولا يتكلم إلا على الورق. لكنه يبدو مثل شهرزاد، لا تنقطع عن الكلام إلا لتتكلم، كي يصور وجودها الغيبي "ليلة أمس/ كنت ضيفتي"، أو غيابها الفعلي، وإن كان غيابا بأقسى صوره، فلا يستدرج من الكلام ما يناسب المقام: "اعرف انك يا امرأة متلألئة/ بجواهر ونشيد الجسد/ تتقلبين بين أحضان رجل آخر" لأن حروفه لا تجيد غير الحب.
هذا الولع المنداح من المشاعر الى الورق، كان محفزا لاختيار عنوان إشاري؛ هو "الجسد"، وإن كانت إشارة مقيدة، محدودة؛ بسبب استخدام لفظة تدل على المفرد "نشيد"، ولا تدل على النصوص الأربعة والعشرين التي تضمها المجموعة، فضلا عن الكم الهائل من المقطوعات، وبوجود أكثر من قصيدة مقطعية، يكتب مثلها شاعران قراقوشيان آخران هما: شاكر مجيد سيفو ووعد الله إيليا. لكنه يمكن أن يكون تعبيرا عن الثيمة الواحدة، والتواتر اللفظي الشبيه بقاموس متخصص، أو انه بحث في المعاجم اللغوية عن المترادفات، أو المرتبطات بعلاقة المحكي عنه: الجسد.
إن وحدة الموضوع، في أناشيد هذه المجموعة، جعل منها نشيدا واحدا، يحتوي على كمٍّ - يحتاج الى جهد كبير لإحصائه - من الألفاظ الحسية، المتعلقة بالجسد في أوج حالات تجليه، وفي ما يمكن أن يكون قليل التناول، أو أقل انفلاتا - مما هنا - من أعراف متفق عليها. تربط تلك الألفاظ بالجسد علاقات مختلفة، منها: الاتصال، والانفصال، والانزياح، والرمز، وتلك هي مداخل هذه الدراسة.
1. علاقات الاتصال
وتنسجها الألفاظ التي تستخدم ضمن النظام اللغوي المباشر والواضح، مستندة الى تعداد وتواتر لأسماء أعضاء الجسد الإنساني، المنتشرة على كل صفحات المجموعة، مثلها مثل الألفاظ الاتصالية.
فقد وردت ألفاظ أسماء الأعضاء: "جسد، يد، أصابع، راحة، شفة، زغب، خصر، قلب، شعر، قدم، إبط"، مثلما وردت الألفاظ الوصفية لتلك الأعضاء: "نعومة، أعمى، نعاس، نوم".. الخ، أو الألفاظ الدالة على وظائف الأعضاء وحركاتها وحالاتها: "العق، ترقدين، تترنح، نوم، أنفاس، الخ، وغيرها مما له تماس مباشر بالجسد، مثل: "سرير، ثوب، عذراء، المخدة، الملاءة، قميص النوم، بنطال" وغيرها، مما يثير التساؤل: هل بقي شيء لم يذكر في هذه الأناشيد؟ لذا يمكن تشبيه هذه المجموعة بقاموس الجسد! لكن هذا الرصد والتمثيل المفرد قد يوحي بانتشار تلك الألفاظ عبثيا، وهو ليس كذلك فقد اعتمدت على توظيفات كثيرة، منها: التصاعد العددي في: "الفم إيقونتي/ وجنيتي شفتاك" الى "معلنا إيماني الأبدي بجنيتي شفتيك"، أو في علاقة الدال بالمدلول من الانفصال اللفظي بين جنية وشفة الى الاتصال في الدلالة من خلال الجنون بالشفة.
2. علاقات الانفصال
يأتي هذا التوظيف القصدي لإبعاد أية شبهة علاقة بين الجسد والألفاظ المرتبطة به في النص، والمنفصلة عنه بالفعل، إلا تلك العلاقة التي لها "أفق ومشاعر، وحتى أفكار، غير الأفق والمشاعر والأفكار التي ألفناها في داخل العلاقة بين الدال والمدلول أو خارجها أيضا". كما إنها تستفيد من تسام وصفي: "يا لهذا الجسد المقدس/ يا لرخاماته العالية كأكتاف الجبال"، على الرغم من البون الشاسع، والتشبيه الثقيل، للجسد بالرخام وبالجبل، فلا يكتفي باستعارة ألفاظ لرسم صورة الجسد، بل يستعير من الجسد ألفاظا "أكتاف" يضيفها الى أشياء لا تمت للجسد بصلة. كما يمكن لوصف الوقت أن يكون وصفا لحدث ذلك الوقت: "ليلك الفوضى"، باستخدام لفظة دالة على حركة معينة في وقت محدد لفعل معروف! حتى أن هذا المعجم اللغوي إن عجز عن إيجاد المناسب يذهب الى النحت.
ويتبادر الى الذهن الخطأ المطبعي، أو حتى خطأ الشاعر في رصف ألفاظه: "خرم فحيح كنت اسمعه"، أو انه استند على علاقة التقديم والتأخير، ليكون التعبير: فحيح خرم. ليدل الخرم على أكثر من ثقب في الجسد، ويدل الفحيح على أصوات لا يرغب بها إلا في حالات استثنائية!
ويذهب الى أبعد من ذلك في: "وبنطالك البنفسجي/ مثل غيم يكشف عن قمر خجول"، فيلاحظ انتفاء العلاقة بين البنطال والغيم، أو التوظيف والانتقال غير الموفق بين "تهزين رطبا" الاستعارية والكنائية الى المباشرة الفجة، كما لا توجد إلا علاقة الانفصال في: "بوح/ يتساقط بسخونة/ ويستنشق نقرات بلبلي"، فما يجمع البوح بالاستنشاق بالنقرات إلا الانقطاع، المؤكد بالعلاقة الاتصالية بين النقرات والبلبل. ومثل ذلك في: "بلور بالشمس/ قدمك على التراب/ وتر من مطاط/ يرن جسدك في الفضاء"، فعلاقة الانفصال بين البلور والشمس، تؤكدها علاقة الاتصال مرتين بين الشمس والقدم، والقدم والتراب، والأخرى الأكثر وضوحا بين الوتر والمطاط والجسد والرنين والفضاء.
3. علاقات الانزياح
الانزياح، ببساطة، هو: ممارسة استيطيقية لخرق النظام اللغوي المعتاد، حسب جون كوهين. وهي من العلاقات الأكثر تواترا في "الشعر المنثور" أو قصيدة النثر.
"أكتب في كراسة جسدك موسيقى القبب البيضاء"، ولو استخدم حرف الجر على، إلا إن قصد التوغل؛ كناية عن توغل آخر.
"كهرمانات جسدك". تعدد الدال والمدلول، في الألوان والأشكال، والجمال.
الرشيقة مثل البحر. بون شاسع في الحجم،
إلا في الرؤية!
"صنوج جبيني وصولجان خدي".
"هذيان أصابعك". دمج الحركة والصوت، أو استعارة الصوت للحركة.
"برج آيل للرقص". تحريك ما لا يتحرك، أو بالاعتماد على لفظة "آيل"، فقط.
4. الرمز:
إن الفضاء الذي يتسع لكل ذلك القاموس اللغوي لا يحتاج الى توظيف الرمز، الذي يستوجبه الأفق الضيق! إلا للغايات الجمالية، وباستثمار أقصى استخدمه الشاعر في مجموعته هذه لمختلف فنون البلاغة، والخصائص المستورة والمكشوفة للألفاظ.
وقد تضيق اللغة، أو تفتقد الألفاظ المباشرة للجمال، فتستبد بالكناية في: "يندلق نبيذي.. آه من لحظة لا تستوعب أي عنوان"، فبرر الجزء الثاني من السطر الشعري جزأه الأول. كما يصعب الإفصاح في: "تأخذ جرعة من نبيذ يسكبه جسدي"؛ باستخدام الجزء "جرعة" من كل، والكل جسد من جزء.
وحيث إن النقد اذا لجأ الى التفسير فقد يصاب بالشيوع، ويسقط في ساحة الاستهلاك والعمومية؛ فيكفي المثل عن التوضيح:
1."الرضيع"
2."كأسك"
3."أطرزك بحرير
4."نمارس طقس الفراشة والورود"، إلا المفرد في "الفراشة" والتعدد/ الجوع في "الورود"، ذلك الجوع الذي يشوب النصوص كلها، مثل: "وتدسين حلمتي نهديك بين شفتي"، والذكورية التي تفتقر اليها النصوص.
5."زهرتي صدر".
6."أبواب نهرك"، "باحة شفتيك"؛ ألفاظ الاستقبال والاستيعاب لمسميات لا يستطيعها الموقف الشعري!
7."فردوسك الأرضي"، الأكثر إفصاحا!! و "كنت أدفع مرديا في فيضان شطك"؛ ذات العنف الكلامي، التابع للموقع الذكوري في اللغة، لم تشفع له النعومة في "شطك"، بل عززه "فيضان"!
كل ما سبق ليس إلا جزءا يسيرا مما مبثوث في النصوص من ألفاظ وصور وكنايات ورموز للجسد ووظائفه، ولعلاقات الذكر بالأنثى. وحتى المصابيح الكاشفة "علاقات الاتصال، وعلاقات الانفصال، والانزياح، والرمز"، لم تتسلط على علاقات أخرى، يمكن أن تجمع بضعا منها في سطر أو مقطع شعري واحد: "... آنية خزفك البيضاء/ والكرسي الذي يجلس في حضنك/ يغسل ليلك...".
يمكن أن يؤكد ن ذلك الحشد اللفظي، حب الحياة والأمل والبقاء، في البحث عن عشبة كلكامش، من خلال: "وأنت مليئة بنيزك أسطوري"، وفي الوقت عينه يمكن أن يبعث على الملل، بسبب التواتر اللفظي والتكرار الصوري، والثيمة الواحدة، الممتدة منذ البدء، من عنوان المجموعة، الى عناوين أكثر من خمسة نصوص، لكن القارئ يمكن أن يخرج من ذلك كله بـ "العالم ليس إلا أنت.. وأنا".