ادب وفن

طرائف بشار بن برد / غريب دوحي

عملاق من عمالقة الأدب العربي، شاعر مخضرم عايش الدولتين الأموية والعباسية، مجدد وراجز وخطيب، يعد من مشاهير شعراء عصره، كان مرهوب الجانب يخشى الناس لسانه لأنه كثير الهجاء.
اسمه بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء، يقال انه ولد بالبصرة ضريراً عام 96هـ وقيل أنه ولد في طخارستان وتوفي عام 167هـ ودفن بالبصرة. والده كان طياناً أي يعمل "اللِبِنْ" من الطين وطالما يعيب عليه أصحابه مهنة أبيه وقد قدم والده إلى البصرة مع الأسرى مع زوجته التي يظن إنها كانت رومية.
وكان بشار يتردد على مساجد البصرة ومربدها واتصل بكبار رجال الاعتزال كواصل بن العطاء. وكان منذ بداية حياته مولعاً بالهجاء ولم ينفع ضرب أبيه له عن شتم الناس فقد قيل أنَّ الناس كانوا يأتون إلى أبيه فيشتكون منه فيضربه ضرباً مبرحاً فكانت أم بشار تقول له: لم تضرب هذا الغلام الصغير الضرير فيقول لها أنه يتعرض للناس بشعره فلما سمعه بشار قال له: ان الذي يشكونه إليك مني هو قولي الشعر، أليس الله يقول "ليس على الأعمى حرج"، فأخذ والده يردد هذه الفتوى على الذين يشتكون منه.
وكان منذ صباه لا يعرف الخوف والحياء، يثور على الأخلاق والأديان صراحة ويعلن حبه للنار ويفضل إبليس على آدم.
قال الأصمعي يَصف بشّار: "كان بشار ضخماً عظيم الخلق والوجه، مجدوراً طويلاً. جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم أحمر فكان أقبح الناس عمى وافظعهم منظراً".
تجرأ بشار يوماً على صديقه واصل بن العطاء شيخ المعتزلة وهجاه في شعره. وذكر رشيد الخيون في كتابه "معتزلة البصرة وبغداد" قول القاضي ابن شهبه المتوفي سنة 790هـ: زنادقة الدنيا أربعة: بشار بن برد، ابن الراوندي، أبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري.
شاعرية بشار
تحددت شاعرية بشار بكل ما موجود في البصرة من شعوب مختلفة مثل الفرس واليونانيين والهنود. فقد تفنن في البديع والتشبيه والاستعارة كقوله:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
فقد شبه شيئين بشيئين في بيت واحد فأحسن التشبيه وهو أعمى. كما استخدم حاسة السمع كحاسة شعورية بتلك الأبيات التي ظلت عالقة في أذهان الناس حين يقول:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
قالوا: بما لا ترى تهذي فقلت لهم
والإذن تعشق قبل العين أحيانا
الإذن كالعين توفي القلب ما كانا
هذا هو شعره الجاد الذي يظهر فيه مداحاً هجاء ونرى في شعره أرقى درجات البيان، كما أنه كان من البارعين في فن الرجز.
اشتهر بشار بالهجاء وكان هجاؤه مظهرا من مظاهر ثورته على المجتمع نتيجة شعوره بالنقص فقد عاش في حالة انكفاء نفسي لذلك نراه يدعو إلى التخلي عن القيم جميعاً والتحرر من كل القيود وكان يحث على الفجور فكان يقول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهجُ
وهكذا كان شعر بشار مرآة صادقة لحياته ونزواته فقد كان هجاؤه اللاذع وغزله الخليع لا يعرف التعفف ويكشف عن شخصيته الإباحية.
أما الوجه الآخر لشعره فهو شعره الغزلي العابث وتشببه بالنساء فقد كانت له جارية تسمى "عبده" التي خصها بأكثر غزلياته حيث سمعها تغني مرة فتعلق قلبه بها وقال قصيدته المذكورة: الأذن تعشق... فمثلما كان له شعر ماجن كان له شعر جاد وخاصة السياسي منه فقد قال مرة.. "إنني أشعر الناس، وأن لي أثني عشر ألف قصيدة، فويلي إذا لم يكن في كل قصيدة منها بيت جيد".
طرائف بشار:
لبشّار طرائف كثيرة وجدت مبثوثة في كتب الأدب العربي، منها أنه كان يوماً بين يدي الخليفة العباسي المهدي ينشده من شعره. فدخل يزيد بن منصور خال المهدي وكان ذا غفلة فلما أنهى بشار أقبل عليه يزيد يسأله: من أنت وما صناعتك؟ فأجابه بشار ساخراً: أثقب اللؤلؤ. ولم يستطع الخليفة أنْ يكتم ضحكته لكنه لام بشار على السخرية من خاله. فقال بشار وماذا أقول له؟ يرى رجلاً أعمى ينشد شعراً فيسأله عن صناعته.
ويروى عنه انه دخل عليه جماعة فإذن لهم بالدخول ومائدة الطعام بين يديه، قالوا فلم يدعنا إلى الطعام. فلما انتهى منه دعا بطست فغسل يديه وفمه ثم كشف عن سوأته فبال. ثم نودي للصلاة فلم يصلِّ. فقلنا له لقد رأينا فيك أشياء نستغربها، قال ما هي؟ قلنا: دخلنا والطعام بين يديك فلم تدعنا إليه، فقال إنما أذنت لكم أن تأكلوا ولو لم أرد أن تأكلوا ما أذنت لكم بالدخول. ثم ماذا؟ قلنا ودعوت بطست ونحن حضور فبلت ونحن نراك. فقال: أنا مكفوف وانتم بصراء فيجب أنْ تغضوا أبصاركم عني.
أما الدكتور طه حسين فيعرف بشدة كراهيته لخلق بشار، وينكر أنْ يكون بشار بهذه الخلقة يحب النساء والنساء تحبه، وانه في حبه لـ "عبده" منافقاً وان "عبده" لم تحبه رغم قوله فيها أبياتاً جميلة كان يرددها كل عاشق. يقول بشار فيها متغزلاً:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
وفهي يا "عبد" حينا واعلمي
أن في بردي جسماً ناحلاً
وإذا قلت لها جودي لنا
ونفى عني الكرى طيف الم
أنني يا "عبد" من لحم ودم
لو توكأت عليه لأنهدم
خرجت بالصمت عن لا ونعم
وكانت لبشّار جارة تدعى "رباب" قال فيها:
رباب ربة البيت
لها عشر دجاجات
تصب الخل بالزيت
وديك حسن الصوت
دخل عليه أحد الأدباء وهو نائم كأنه الجاموس فقال له: يا أبا معاذ من القائل:
إن في بردي جسماً ناحلاً
لو توكأت عليه لأنهدم
فقال: أنا. فقال له ومن القائل:
في حلتي جسم فتى ناحل
لو هبت الريح به طاحا
قال بشار أنا. فرد عليه الأديب فما الذي جعلك تكذب؟ والله إني أرى لو أن الله بعث الرياح التي أهلكت الأمم الخالية لما حركتك من مكانك.
يقال أنَّ بشار عشق امرأة فكان يبعث غلامه إليها وهي تمتنع. فلما ألح عليها أخبرت زوجها فقال زوجها قولي له أنْ يأتي إلى بيتنا. فجاء بشار مع امرأة أخرى ترشده إليها فدخل عليها وزوجها جالس وهو لا يعلم فأخذ بشار يحدثها ثم قال:
أمامة قد وصفت بحسن
وإنا لا نراكِ فألمسينا
فأخذت يده ووضعتها في حجر زوجها ففزع بشار ووثب. إلا أن زوجها قبض عليه وقال له هممت أن أفضحك. فقال: كفاني فديتك ما فعلت.
أراد الخليفة العباسي المأمون أنْ يجعل حماد عجرد مؤدباً (معلماً) لأبنه الفضل فتحركت غيرة بشار وأراد الإيقاع بين الخليفة وحماد فقال:
يا أبا الفضل لا تنم
بين فخذيه حربة
إن خلا البيت ساعة
وقع الذئب في الغنم
في غلاف من الأدم
مجمج الميم بالقلم
نهاية بشار:
عرف عن بشار كما ذكرت كثرة هجائه اللاذع فقد هجا الخلفاء ونساءهم والأمراء وشيوخ المعتزلة ولم يسلم أحد من لسانه وكان هجاؤه دفاعاً عن النفس أمام استهزاء الناس به رجالاً ونساء فقد هجا ذات يوم الخليفة المهدي ووزيره يعقوب بن داود ببيتين من الشعر وقد أوصل الوشاة هذه الأبيات إلى مسامع الخليفة الذي أمر بجلده سبعين جلدة، وهذه الأبيات:
بنو أمية هبوا طال نومكم
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
ان الخليفة يعقوب بن داودِ
خليفة الله بين الزقِ والعودِ
ولما سمعها المهدي ثارت ثائرته فأخذ الجلاد يضربه بالسوط. وحتى في ساعاته الأخيرة كان بشار طريفاً فكان كلما أوجعه السوط صاح "حسس" وهذه كلمة تدل على قوة الألم. فقال بعض الذين حضروا الجلد: أنظروا إليه أنه لا يقول بسم الله فرد بشار وهو يتأوه:
ويحكم أهو ثريد حتى أسمي عليه!
ثم نقل إلى بيته بعد الجلد وهو بحالة يرثى لها فما لبث أن مات من أثر الضرب المبرح. وبلغ من شدة كره أهل البصرة له أن لم يخرج للسير في جنازته سوى جارية له من "السند" تولول عليه.