- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 15 تشرين2/نوفمبر 2015 19:20

تركت لعرافة الشوق ذكرياتي في حثالة فنجان قهوة باردة، وغادرت أحلامي قبل أن تنتهي صلاحيتها، فقد تأخر الأمل، ولم يبق للانتظار معنى، وسقطت كل الأيادي التي يمكن أن تلوّح لنا في لحظات الوداع، تلك هي قصة وجع النهايات الحتمية التي استهلكتنا، ولم تبق منّا سوى أصوات تمشي متعثرة في تفاصيل حكاية اسمها الرقة، مدينتي التي ضاعت بين مجازات المتون المثقلة بعلامات الترقيم تعجباً واستفهاماً، مدينتي التي لم يعد لي فيها من يرتب دموعه في حقيبتي.
كنت وحيداً في أسواقها المزدحمة بالغرباء، سرقت من حقيبة العينين بعض النظرات القادرة على الرحيل، وتركتها تمشي في شوارعها حافية القلب، هكذا اعتدت أن أشغل نفسي بجمع الأمنيات التي لن تتحقق، فهي لم تعد في ظلي كما يقتضي الحب. فالرقة التي كان فيها الغريب موشوماً، أصبح الانتماء إليها وشماً! إذ أنه لم يبق من النصف مليون من سكانها سوى 200 ألف نسمة، تقطعت بهم السبل، ولا حول لهم ولا قوة، ولجأ إليها من الريف، والمحافظات السورية الأخرى ما يقارب الـ250 ألف نسمة، ويقدر عدد أفراد تنظيم الدولة "داعش" بثلث السكان، بين مهاجرين وأنصار، والغلبة للمهاجرين من حيث العدد والمكانة، يمسكون مقاليد الأمور فيها بيد من حديد، ولا أحد يتجرأ على انتحال صفتهم، ما لم يكن منهم، فما يسمى بالحواجز الطيارة، التي تقوم بها شرطتهم العسكرية، وأحياناً الشرطة الإسلامية، لا تتهاون أبداً مع أية مخالفة. والمخالفات تتدرج وتتدرج معها العقوبات، أقلها أن تكون لثيابك رائحة التبغ، وأعلاها أن تنال منهم صفة كافر، وكذلك العقوبات، أقلها أن تؤخذ بطاقتك، ويطلبون منك مراجعة أحد مقراتهم، ويلحقونك بدورة شرعية تمتد من 11 إلى 14 يوما، في أحد المساجد المخصصة لذلك، وأعلاها الإعدام، وما بينهما ثمة الجلد والسجن والغرامة المالية، وككل الأنظمة الشمولية لديهم حالات لا بيان لها، يختطف أو يؤخذ الشخص من دون تهمة واضحة، ويحتجز عندهم، والاحتجاز هذا هو التوقيف في سجون النقطة 11، وما أدراك ما النقطة 11؟! النقطة 11 لا يسمح لأحد بمراجعتها، ومن يراجعها بشأن مفقود فإنه لا يحصل منها على أية إجابة، والناس بين خوفين، الخوف منهم في الأرض، والخوف الآخر من تقاطع مصالح الدول الكبرى في السماء، فقد أصبحوا على يقين من أنها لا تتقاطع إلاّ عليهم. أما بالنسبة لعناصر التنظيم فإنهم تجاوزوا الخوف من ثورة الناس عليهم، ولم يعودوا يخشون سوى ما تحمله إليهم الطائرات، وما يقال عن شجاعتهم، ورغبتهم في الموت طلباً للجنة هو محض افتراء، وقد لاحظ الناس عليهم ذلك، إذ أنه مجرد أن تلوح طائرة في السماء يعتريهم خوف شديد، ويلوذون بالفرار إلى الأماكن المكشوفة كالحدائق، أما السكان فإنهم أصبحوا بحكم التجربة يميزون بين غارات التحالف والغارات الأخرى، فغارات التحالف تصيب أهدافها بدقة، وغالباً ما تكون أهدافها مقرات التنظيم أو عناصره، لذلك لم يعد هناك من سلاح ثقيل على الحواجز، كما في السابق، لقد أصبحت الحواجز مقتصرة على السلاح الفردي الذي يحمله عناصر الحاجز، فقد سبق واستهدفت سيارات الدوشكا التي كانت موجودة على الحواجز، لا بل اختفت من الظهور العلني كل الأسلحة الثقيلة، ولا أحد يعرف مصيرها، البعض يعتقد أنها مخبأة في أبنية أو أنفاق تحت الأرض، أو أنها موجودة في جبهات أخرى خارج المحافظة.
أما الغارات الأخرى فإنها عشوائية، ولذلك ترى الناس يخافونها، وليس إلى تفاديها من سبيل، ومما يثير دهشة الناس هو ذلك الازدحام الشديد للطائرات في سماء المدينة، حتى أن بعضهم يتساءل عن الكيفية التي تتفادى بها الطائرات التصادم مع بعضها بعضا.
لقد استفدت من لحيتي في تلك الرحلة كثيراً، خاصة بعد أن تخليت عن لباسي المدني، وارتديت الزي الريفي "جلابية وشماخ وعقال"، فالتدقيق على شخصيتي أصبح أقل مما هو عليه بالنسبة للشباب المتأنقين، خاصة في كراج البولمان، فهناك يكون التدقيق على أشده بالنسبة للمغادرين، خاصة بالنسبة للشباب من الذكور، والنساء على اختلاف أعمارهن، وثمة مشكلة أخرى تصادف المسافر، وهي الوجهة التي يغادر إليها، فالذين يغادرون إلى دمشق أو حماه، معاملتهم تختلف عن أولئك الذي يغادرون إلى طرطوس أو اللاذقية، ودائما في بداية كل شهر تصبح التسهيلات أكثر، فهم يعرفون أن غالبية المسافرين في بداية الشهر، خاصة إلى حماه، هم من الموظفين الذين يذهبون ليقبضوا رواتبهم، فرواتب موظفي الرقة أصبحت في حماه، إذ أن كل إدارة أصبح أحد موظفيها معتمداً لرواتب مثيلتها في الرقة، فموظفو الزراعة في الرقة يقبضون رواتبهم من مديرية الزراعة في حماه، وكذلك المالية، والخدمات الفنية إلى ما هنالك.. وهم يعتبرون تلك الرواتب غنائم لمواطني ولاية الرقة من النظام الكافر، وكراج البولمان يشرف عليه جهاز الحسبة، ويخاطب أعضاء هذا الجهاز بلقب "شيخ" أيّاً كان عمر العنصر.
يبدأ التدقيق في كراج البولمان على الشباب، وكل من يعثرون عنده على دفتر خدمة العلم، أو بطاقة جامعية فإن مغادرته تصبح مستحيلة، وفي المرحلة الثانية بعد التفتيش الدقيق، ينتقلون إلى التدقيق على اللباس والذقن، وقد عرف الناس ذلك فتهيأوا له، إذ أن غالبية الشباب تركت ذقونها تنمو، وصار لباسهم موافقا لأهواء عناصر الحسبة، ومن ثم يأتي دور النساء، إذ أن المرأة أول ما تسأل، يسألونها عن المحرم "المرافق من الفروع أو الأصول"، ومن ثم يسألونها عن السبب الشرعي لسفرها، وثبوتيات ذلك، ثم يبدأ التدقيق بثيابها، ومدى مطابقتها للثياب الشرعية، من وجهة نظرهم، ويستنكرون عطر المرأة أيما استنكار، مما ذكرني بتحليل قرأته ذات يوم، يقول: إن الذين كبتوا رغبات أجسادهم فهم الأكثر شهوة، ولأنّهم خافوا ألّا تفهم عقولهم ما هم فيه، خبّأوه تحت مسوح الخجل والتحريم والحرمان"، ثم يبدأ تفتيش الأمتعة بدقة بالغة، والتبغ هو أحد المحرمات القطعية! وحين يستكمل الركاب شروط السفر، غالبا ما يصعد عنصر من "داعش" يلقي نظرة أخيرة على الركاب، وقد يطلب من امرأة ثبوتيات سفرها، ويسألها عن المحرم الذي يرافقها، ويعيد التدقيق ببطاقتها الشخصية، ويقارنها ببطاقة المحرم الذي يرافقها، وقد يلقي على شاب حليق الذقن محاضرة توبيخية، وقد تأخذه الحمية الدينية المزيفة، ويعيدنا إلى المربع الأول من التفتيش والتدقيق، وهذا ما جعل طلاب الجامعات الإناث والذكور يغادرون الرقة بطرق أخرى "تهريب"، وللتهريب قصة طويلة، وكذلك تفعل، وفعلت الأسر التي غادرت الرقة، خاصة مع بداية العام الدراسي هذا 2015 2016 فقد غادر الرقة أكثر من 150 عائلة، إلى حماة ودمشق وطرطوس واللاذقية، بعد أن أصبحوا على يقين من أنه لن تقوم للمدارس قائمة في الرقة، طالما هي تحت سيطرة التنظيم.
قبل أن أصعد إلى "البولمان" بقليل، أحسست بأشواقي وكأنها وقفت في عرض الشارع تتسول النظرة الأخيرة، إذ ما الذي عليّ أن أفعله والبلاد تجسد مقولة "على قد سلاحك مد رجليك" وأنا لا سلاح لي سوى الكلمات. مشيت إلى البولمان بخطوات قصيرة كعابر لا يريد الوصول، وغادرتها ولا أدري إن كنت قد زرتها أم لا، كانت كحبيبة خاصمتني منذ سنتين ونيّف، وصالحتها في حلمي. بعد خروجنا من مدينة "الطبقة" رأيت الكثير من ناقلات النفط متوقفة على جانبي الطريق، إضافة لبرادات الخضار، تلك التي تسافر بطريقة الإرفاق، أي أنها تسافر باتفاق مع كل الأطراف، كأرتال، وليس فرادى. في استراحة "الشيخ هلال" قبل مدينة السلمية "40 كم"، توقف "البولمان"، إلى جانب "بولمانات" أخرى قادمة إلى الرقة، وخارجة منها، وصار الركاب يتخففون من شروط الخروج من الرقة التي فرضها علينا التنظيم، فالنساء اللواتي ليس من عادتهن لبس الحجاب والنقاب، خلعن حجاباتهن، وعباءاتهن، وعدن إلى لباسهن الطبيعي، وأخذ المدخنون من الرجال حصتهم من الوقت في التدخين، بعد الحرمان الطويل منه، وعادت إلى الأحاديث طبيعيتها بين المسافرين. تلك هي قصة وجعي الذي أصبح أكثر نضجاً بعد عودتي من الرقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر سوري*