- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 09 شباط/فبراير 2016 20:07

اليوم 9/4/2003 في ساحةالفردوس..هذه الساحة وهذا التمثال تحديداً ما ألهم الناس بروح الثورة واشددهم بالشجاعة،من دون الأماكن والأنصاب الأخرى!
كيف كنا سنعرف أن هذا الرجل سيغادر نهائيا صفحة العراق السياسية؟
هذه الكلمات تبدو مفتتحاً لمثاقفة سياسية في الرواية.
" المخبر السري " هي الرواية التي جعلت من هذا اليوم،ومن تلك النقطة محورا للوعي الروائي المتخصص بفن الوصف اليومي مقولاً سردياً مقنعاً يبشر بالرواية اليومية. إنها تذكرنا بالجريدة التي وجدها جيمس جويس والتي تصف أحداثا لليلة واحدة من أحداث أهل مدينة متخيلة مشابهة لدبلن،ايرلندا.
الوقوف عند شظية لا يغني عن الاحساس بعدد الجرحى ومعاناتهم من الألم. حين نرى الجموع متفقة على أن التغيير نهائي ولا عودة الى وراء فذلك يعني أنهم وضعوا أكفهم على الشظية، وحاولوا لف القيد على اسنانها القاصمة القاسية... لكنهم لم ينهلوا من التمتع بشفاء جرحاهم بعد...المخبر السري رواية فعلت هذا واكثر من هذا، إنها تمسك بالشظية وكأنها تضمد الجرحى جميعاً... كيف؟
إنها مدونة وضعت الراهن المدون بمقدم حراك دائم، يرصد الدقائق والثواني، للناس وللأشياء، يستقدم عدوانية الماضي ليسمح بالحاضر أن يمر.
الراوي وضع نفسه بديلا أصيلا للباحثين عن أحبتهم الغائبين المجهولين.الرواية عزاء صغير لمن لم يتذوق عشاءه الاخير عند عائلته.الملاذ سالم بخشي المندلاوي كتب عن أوضاع الخلل في العقلية والوجدان والاضطراب الخلقي والنفسي، لا للحكام فقط، بل وللساديين من الطبقات المسحوقة، الطامعين بالرفاه والمجون وتحقيق النزعات المنحرفة "الازدواجية والنفاق".
ترى أية وسائل ساعدت الكاتب على التوصل ببساطة وعمق الى مثل هذه النتائج؟ لنتوجه الى موضوع له اهمية خاصة على صغره وتبعثره, ذلك هو البيئة وأدواتها المادية، وامتداداتها الميثولوجية!
الشخوص هم: البطل ثائر ابن المرأة الجميلة، عفاف الأُم المرأة الجميلة، الاب المغيب، آزاد صديق ثائر، سعدي صديق ثائر، المختار أبو عروبة،العم منخي وارث زوجة أخيه. هؤلاء جميعا في بيئة واحدة ولهم المرجعيات النفسية والسلوكية واللغوية ذاتها لكنهم ليسوا جميعاً يتملكون الأدوات ذاتها...كأنني ألوح الى "أن الادوات تغير السلوك" .. نعم ذلك ما أقصد! ولكن هناك اختلافات أخرى منها "الشكل المظهري،ثم طبيعة تعامل الوالدين المربين،وطبيعة الاصدقاء،ومقدار التحصيل الدراسي، كذلك الامراض العضلية والنفسية".
إذن لكي نفهم عقلية الابطال في رواية المخبر السري علينا أن نجزئ المتابعة على وفق النموذج المقترح الآتي:-
أولاً: المؤثثات الشاملة : تؤلف نوعين من الادوات هما:
أ- الادوات العدوانية: الادوات العدوانية لا تناظر بينها، خاصة تلك المستخدمة بطريقة انتقامية منفعلة، ولقد قدم الروائي نماذج منها لا يجمعها أي توافق لا لوني ولا صناعي ولا ذوقي، بل هي أشكال مادية، العراقي وحده من يعرف كم هي متسخة، والتعامل بها هو من أكثر أبواب الاحتقار فجاجة !! وبذلك فأن مستعملها سيبلغ أعلى درجة من النشوة، بالعرف الشعبي ذي العاطفة الشجية، وسيدلل على انفعال يشابه ما مورس ضده، إذ أن الفعل الذي كان مخططاً لإملائه على الشعب، رُدَّ بطريقة غير مخطط لها وبعنف أقل، والحصيلة ،أن ثورة الانتقام أكثر تحضراً من مطبات السطوة والتحكم المنفذة بحرفية منتظمة زمناً ومكاناً.
يمكن أن نميز نمطين رئيسين من الأدوات العدوانية:-
1- الأدوات المنتظمة الرادعة، هي سلطة مؤسسة الدولة القامعة: قوى الجيش والامن الداخلي والشرطة والمقرات والسجون الخاصة والعامة والسرية وتحت الارض، ومباني الأمن الخاص والامن القومي والفدائيين والجهاز الحزبي، وجهاز المخابرات، وأخيرا جهاز أمن مندس داخل جهاز الحزب،تساعدها أحدث أنواع الاسلحة النارية واحدث وسائل التعذيب النفسي والجسدي.
2- منظومة المجتمع:حاولت مجاميع القوى الشعبية التعبيرعن ألمها ولوعة فقدانها لأحبتها بضرب الصنم بأدوات تعد مهينة، ولكنها موجهة لتمثال... تمثال يوجد منه مئات في كل محافظة.يا للمفارقة وحتى بعد أن رجع الناس الى حياتهم شبه المستقرة، لم يتصرفوا بلا ضوابط لاتهام مناوئيهم ، بل راحوا يبحثون في أوراق دوائر الأمن والمخابرات ومراكز الشرطة لإثبات وقائع حياة ذويهم ، الاوراق التي صار البحث عنها ومعرفة اسرار السلطة السابقة هَمَّ جميع المتضررين، هي ذاتها الأوراق التي وضع الروائي ثيمة روايته اليومية فيها.
ب- الأدوات الرحيمة: الادوات الرحيمة تلك التي هيأت للرواية مؤثثات مبرمجة للوجود لتصير بيئة حركة تعدُّ فقيرة العدد، لا تتجاوز البيوت والمقاهي والشوارع، وبعض دوائر حفظ الاوراق الرسمية،وهذه جميعاً أدوات ثابتة، لكن ثمة أدوات أخرى متغيرة الوجود والمهمات،كالحافلات وعربات النقل وعربات الحمل والاكياس والنقود والاواني ومستلزمات الحياة اليومية الاخرى، وأهمية وجود تلك الأدوات في الرواية، وظيفية.. كيف؟
يتأثث الوجود بعناصر متممة بعضها للبعض،فالمكان يوفر أطارا لحركة الزمان، والزمان يمرر طقوس وطبيعة حركة الأحداث، وهذه تسمح بتحرر الشخوص من شرط الوجود الثابت، والشخوص ذاتها هي من تصنع مادة الحدث التي تتمتع بحرية استثمار الأدوات، الرحيمة والعدوانية، ومن هذه المنافذ تنتج عملية التحيين الروائية، التي قد تشمل برويها على مؤثثات جديدة كالريح والرائحة والاصوات والألوان والغيوم والغبار،من ثم يقوم المظهر الكتابي بالدور الأخير حين يلف جميع هذه العناصر بما يشابه عملية نسج الشيرزة القماشية، ومن ثم يتولد المشد الكتابي الذي يؤالف بين المقاطع بعلامات "أدوات نحوية املائية"، وبعد التأمل الكتابي سيلفت النظر الى الهيكل الدلالي "التقاطب المكاني للأحداث" ليسهل فاعلية الاشارة، ثم البؤرة القولية، ثم الحدث الأهم، ثم الضربة الروائية الدرامية... ترى هل تسير رواية المخبر السري في هذه الدروب كلها من دون أن يتيه الطريق منها؟ لنرى!
ثانيا: المؤثثات المتممة: مكملات أخرى تنحدر من أصولها "المراجع النسقية" نحو مصاغاتها اللغوية، تبدي مرونة خاصة في شد أواصر الدلالات الى بعضها. طبيعتها ومضمونها يتحدد بموجب المجريات الآتية:-
أ- مؤثثات التعميم : يترتب على وجودها ضمن الحوادث فواصل بيانية تركب المظهورات اللغوية من مضامين دلالية عامة (شائعة) لنتابع:
"وصلت مجموعة أخرى من المنتفضين... شرعت هي الاخرى في الاحتفال وتضرب بحماس ما تبقى من التمثال بما تيسر لها من مطارق وعصي وسلاسل حديدية، ليحيلوه أخيرا الى هشيم منثور"
يحمل المشد المشهدي هذا نوعا واحدا من تلك السياقات العمومية، لكنه يربط خمسة مؤثثات أساسية تضبط حركة السرد الروائي.
ب- المؤثث السياقي هو "هشيم منثور"إذ ان هذا القول يعود الى سياق تراثي شائع في الاستعمال التقليدي وكذلك في الاستعمال الحديث لوصف الحالات الهلامية للأشياء القابلة للتغير والتفتت والاحتراق فهو قد اكتسب صفة العموم والشيوع بسبب قدمه ومرجعيته السياقية.
المؤثثات المرتبطة بالمؤثث السياقي هي:
1ـ الأدوات الجارحة: تشتمل على المطارق والعصي والسلاسل الحديدية، ولها وظيفتان هما ربط أجزاء المظهر التدويني، ثم إعطاء القول صيغة الدلالة الحركية الحدثية ليقوم الفاعلون بالتهشيم والنثر.
2ـ الادوات الهشة: تشتمل على المجموعة الاولى من المنتفضين، والمجموعة الاخرى من المنتفضين، والمتبقي من التمثال.
3ـ الادوات الحركية: وتشتمل على هيئات الشروع بالاحتفال، ثم هيئات الضرب بحماس.
4ـ الادوات الفنية: وتشتمل على مكونات اللغة من الجمل، ومكونات الفواصل قبل المشهد وبعد القول النهائي.
5ـ ادوات الدلالة: وتعدُّ من المؤهلات الاساسية للقول الذي ينجز فعل التفتت، ويتجه الى فعل الإكمال السردي للروي، ثم مجمل مشدات الربط والفصل والتوقف التي تدلي بالمشاهد نحو اللقطة "اللوحة" التي تنهي الرواية.
لكن هذه الأدوات "الدوال" تكاد تنحصر في مظاهر الكلمات الآتية (المنتفضين، الضرب، الاحتفال الهشيم).
ثالثا: مؤثثات الفضاء
تتميز هذه المؤثثات بكونها تحيل الأمكنة نحو قيم استعمالية على وفق وجهة النظر المقترحة الآتية:
أ- قيمة اقتصاد الاختزال الوجودي:
في تصفحنا للرواية يتبدى لنا أنها تتوخى الاقتصاد الشديد في المساحة الجغرافية العمرانية، حتى ان القارئ ينسى ان جميع الأحداث تجري في بغداد، المدينة المقهورة المبتلاة بما تحدثها التغيرات من نكبات.ينسى الشوارع والمقاهي والبيوت والساحات والحدائق والفنادق والاسواق، ينسى دجلة والجسور. يتذكر حالين من مكونات الارض والعمران في بغداد هما التمثال وبيت ام ثائر.
عندما نتبادل المعرفة الإبلاغية في المشد الآتي، قد نبرر للروائي هذا الاقتصاد، لنتابع:
"مسكين ولدي، لم اشاهده بهذه السحنة المنقبضة سابقاً! ترى هل كان السبب في ذلك هو ما جرى له مع شيماء؟ أم يكمن السبب في عدم عثوره على ما يدله على الواشي"؟!
"اطمئن يا ولدي لقد ذهبت الى شيماء واصلحت الامر معها...لا بأس يا اماه، لم أعد أهتم لهذا الأمر الآن...ماذا تعني يا ولدي ؟...سأصلح الأمر بنفسي ولكن بعد أن أصل الى نتيجة نهائية بشأن الواشي... يا لهذا الواشي اللعين"!
للمشد المشهدي أعلاه أهمية خاصة في إفهامنا كيفية الاشتغال على الاقتصاد او الاختزال المقصود لساحة العرض الأرضية في رواية المخبر السري لسالم بخشي المندلاوي، فالمحدد هنا هو غرفة المعيشة التي تضم ثائر وامه وعمه. كما انهم مجتمعون لغاية تناول الطعام، وتلك أشياء يومية روتينية، بل توجد لدى الثلاثة ثلاث قضايا، ثائر لديه قضية البحث عن الذي وشى بأبيه الى الامن وتسبب بحبسه وإعدامه، والام لديها قضية حسم مسألة زواج ثائر، والعم لديه قضية جذب الام للاهتمام به والاحسان اليه في الفراش.
الآن يمكن ان نبرر سبب اختزال سعة الفضاء لساحة وجود الاحداث:
1- القضايا التي تهم الثلاثة "الحب والوشاية والنفاق"لا جغرافية لها لكونها تهم أكثر من ثلثي البلاد.
2- الروائي لا يحتاج الوصف لأن الموضوع هو موضوع يومي شبه دائم، له من الشيوع ما يخلق منه موضوعاً مطلقاً يخص الأخلاق الفردية والمجتمعية.
3- الغرفة بدلالتها الروائية مكان عميق الأثر فهي الوطن، لأن فيها الأُم والجمال والنفاق، تلك المكونات القيمية لشعوب الارض جميعاً.
د- الحميمية الفائقة بين الأُم والابن هي علاقة بايولوجية لا تحتاج وجوداً جغرافياً او اجتماعياً يؤكدها.
4- من الناحية الفنية فإن الاختزال الجغرافي معوض عنه بالتوسع الأفقي لحركة الأحداث.
يمكنني بعد الفهم المتقدم، القول "ان الروائي تعمد ان يرسل موضوعته الأساسية عَبْرَ الروي الخالي من الشرح والوصف والتوسع في الإيجازات البلاغية لأنه، منذ الصفحة الاولى، وضع لنا الحركة الروائية بموضع يؤشر تسارع التغيرات، مبيناً أنها ستنتج عجائب جديرة بالمتابعة بغض النظر عن مكانها، أي أنه جعل حركة الزمن فاصلة ورابطة ومتصلة،ووحدها ستحكم التداول الحدثي بين الناس، بغياب السلطة كلياً...التقدم الذي سيحققه الباحثون عن حقهم قضية مشروعة ومشاعة ولاوقت للكلام دونما فعل يحرر القيم لتنحو نحو أصالتها.
ب ـ تحدد موضوعة التشكل الحسي:
يتشكل الحس بالموجودات، في الرواية، بطريقة التأهيل المكاني المتغير الدلالة، حيث يصبح الصنم مكاناً للحركة الآنية لزمن قصير لا يتعدى ساعات الهياج الشعبي، ثم تتشكل أماكن جديدة تأخذ مكانتها الروائية من قيمتها الجديدة تلك هي "الوثائق الرسمية" وبعدها يدخل الشارع وقيمه "الفرهود"، وبعدها تقوم الأماكن بزرع الرعب والخوف وانعدام الثقة. من هذه النمذجة يستجد التشكل الحسي كموضوع أثير مشترك لجميع الحالات بأن يجعل هذه الموضوعة، الحس المتبدل بالأشياء، ذات قيمة فضائلية، أي أن البيت والشارع ومكمن الوثائق هي الحياة العراقية تحت مظلة ظرف "الفرهود".