- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الخميس, 14 تموز/يوليو 2016 08:12

تابعت بشغف كبير ولهفة ووله منقطعي النظير، كتابات الصحفي والباحث الألمعي "على أبو عراق"، وكنت مدفوعا بجد ومثابرة لان أعيد قراءة "الموت عشقا"، لأن هذه الشفاهية كانت بحق تعبير متناهي الدقة عن واقع مجتمعاتنا قبل قرن او يقل بعض الشيء عن ذلك التاريخ.
البو نخيله لون متفرد من ألوان الشعر الشعبي العراقي، تميز بمفرداته ولونه الشعري الذي جعله يبقى محافظا على سمته وبهائه رغم ان هذا اللون من الشعر الشعبي قد فقد الكثير من صورته اللامعة، ولم يعد من يهتم بهذا اللون، او يسعى الى إبراز مكامن القوة في تعابيره ومدلولاته.
وفي الحقيقة فإننا مدينون للكاتب "علي ابو عراق" لبراعته في نقل هذا اللون من الشعر الشعبي، والذي ينضح أصالة ونبعا ثرا وفيضا من مفردات تشكل علامة فارقة وتميزا واضحا، وتراثا شعبيا مضمخا بأريج المعاناة وموشوما بعطر الحرمان.
البو نخيلة على المتن وتلالي
وهم العلا گلبي جبل وتلالي
نگطة ندى بورگة شهف وتلالي
وفيروزة الكبل الفجــر ما تنطر
كان الشاعر ابو الغمسي الخزاعي هو الآخر، قد ابدع لنا لونا من الوان الشعر الشعبي، جعله متميزا متفردا، الا انه هو الآخر قد تم نسيانه وضاع فلا يذكر الا نادراً. أن شعر " البومعنه "الذي تفرد بنظمه الشاعر الغنائي ابو الغمسي، كان يمثل ابداعا شعريا من خلال التفرد في صيغة النظم والبحر الذي سار على نهجه الشاعر، وما يمثله هذا الطور الغنائي المميز من شكل جديد في القصيدة الشعبية الغنائية:
سودنتني من عساها مسودنه
يبو معنه وعين ما جوزش منه
كان هذا يمثل نقطة البداية في صياغة القصيدة "المعناوية " والتي كانت وما زالت سرا من اسرار الشاعر "ابو الغمسي" والذي نقرا له:
لا بسه الثوبين والثالث بشت
نوهك ابروس العدا ونبشت بشت
عركة البزون بس كلها بشت
والجريذي الحدر جحره اشمجمنه
سودنتني من عساها مسودنه
يبو معنه وعين ما جوزش منه
الشاعر والعاشق حد الموت عشقا، سيد حسين حصموت الذي ابدع في هذا اللون من الشعر الشعبي، والذي يسمى " البو نخيلة " كان يصيخ السمع لحركة خصلات الشعر وهي تتموسق نغما وتترنم عشقا وتتمايل القا ونورا وسحرا وجمالاً:
البو نخيله على المتن ورده الها
تدوس عل الصبخة ونبت ورده الها
يا ريتني بطرف الخشم ورده الها
تمصني بشفايفها وأحب المكشر
ويزداد الشاعر إصرارا في التعريف، بهذا الشعر المتناثر فوق الأكتاف والذي يشع بريقا ولمعانا، ومما يزيده القا، شامة لامعة تتوسط الخد وترسم اكليلا من نور وضياء اسفل الجفن وكان الشاعر قد وضع له قياسا بانه يزيد على ثلاث اصابع.. كيف استطاع الشاعر ان يمعن النظر ويرسم خارطة لتلك الشامة التي اضفت على الوجنات نورا سماويا وبهاء لازورديا وخمرة من سحر وهوى؟:
البو نخيلة عل المتن شامه الها
ولعبت براسي لعبة الشاملها
حصموت بويه جي شفت شامه الها
حدر الجفن بيه ثلث اصابع واكثر
ولا ينفك الشاعر وبحرارة وصدق تبيان ملامح محبوبته التي هام في هواها، ويضفي عليها مزيدا من الاوصاف التي تجعلها استثناء وتفردا وأيقونة لعذراء يافعة، والتي كانت تتغاوى بجمالها، وهي تمنح شعرها حرية اللعب فوق الاكتاف:
البـو نخيله عل المتن لا ويته
وجلدي على عظمي يا خلك لا ويته
عمدا زلفها للغـوى لاويته
جالريش برهان بندا ومسـطر
الاستاذ علي ابو عراق، ينفرد بهذا الاسلوب الرائع في نقل هذا التراث الذي كاد ان يموت او يندثر، لولا ان تتهيأ له يد حنون مثل الباحث على ابو عراق، الذي اجتهد وانفرد في البحث عن هذه الالوان باذخة الجمال، ويصوغها في حكايات ستظل الاجيال تتداولها وتدور حولها حكايات وحكايات.
البو نخيلة على المتن ياربي
وسطر على الگذله ذهب ياربي
لا كون تقسمها الي ياربي
ثويب جتان وعليه مكدر
أن حكاية العشق التي دارت بين حسين بن سيد حصموت ومعشوقته اليهودية، وشهدتها بساتين المجر والتي كانت تمثل هذا الانشداد العذري لحب من نوع خاص ومتميز ستظل المنتديات والمجتمعات والدواوين، تستعيد ذاكرة هذا الحب، وهو " الموت عشقا "، إنه تعبير رائع عن معاني هذا الحب، والذي شكل دفقا عذريا متماسكا، وشلالا من ذكريات ستبقى مترعة بذلك النبع الصافي من المشاعر والاحاسيس "بويه انه حبيت وحده من السلف، وهي فلانه بت فلان اليهودي وانه محتار يا بويه، ونار البيه جانونها موجر، لو اتزوجها لو هذا حدي من الدنيا ".
هذا هو الاصرار المتناهي في الحب، الاصرار الذي يعكس عذرية الانسان في حكايته مع الحب الحقيقي.. وبعد ان فشلت كل المحاولات في ان يتزوج حسين بن سيد حصموت من محبوبته اليهودية.. قال سيد حصموت والد حسين وهو يودع ابنه:
البو نخيلة عل المتن موش النه
وهذا التريده يا ولد موش النه
اللبن صافي لا تظن انشنه
وكلمن اصيل بفعلته يتجذر
وبعد ان مات سيد حسين ولحقته حبيبته وبنفس اليوم، ودفنا في قبرين متجاورين.. قال سيد حصموت والحسرة واللوعة تأخذ منه كل مأخذ:
يا ا بو نخيلة عل المتن من ديره
و هذا الولم لعظام غيرك ديره
يل ما حفظتي حسين غمج ديره
نشفن شطوطج والشجر ما أثمر
يقول علي ابو عراق (ومن يمر قريبا من تلك القرية يرى قبرين تظللهما نخلة تضم رفات العاشقين اللذين قضيا عشقا، وحولت مقبرتهما مزارا او مكانا لمواعيد العشاق في تلك النواحي)1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الموت عشقا / علي ابو عراق / طريق الشعب الغراء / صفحة ادب شعبي – العدد 35 في الخميس 18/ ايلول 2014م.