مدارات

في الذكرى السادسة والستين للوثبة الخالدة / ناصر حسين

اعتدنا نحن الشيوعيون العراقيون ومنذ ستة وستين عاماً على الاحتفاء بذكرى وثبة كانون الثاني عام 1948 الخالدة، في السراء والضراء، في ايام الخير، وفي اشد الايام الفاشية ضراوة، فقد كانت مجداً كبيراً من امجاد شعبنا العراقي الشجاع وحزبنا الشيوعي العراقي بكل رفيقاته ورفاقه البواسل.
عام 1948 وبالتحديد شهر كانون الثاني منه، هو العام الذي تقابلت فيه ارداتان متضادتان، ارادة الحكم الملكي وعلى رأسه الوصي ونوري السعيد وارادة الشعب العراقي وفي المقدمة منه حزبنا الشيوعي العراقي.
كل يريد ان يفرض ارادته ويصرح لا تراجع، وكل يجرب ما لديه من وسائل لمواجهة الاخر.
النظام بأساليبه البوليسية وأجهزته القمعية والشعب وقواه السياسية الوطنية وفي طليعتها حزبنا بأسلوبه المجرب الفعال- تظاهرات الجمهور في الشارع – كان النظام يريد فرض معاهدة استرقاقية بديلة عن معاهدة 1930 وجرت مفاوضات تمهيدية سرية مع بريطانيا اجراها في لندن كل من الوصي عبد الاله ونوري السعيد وفاضل الجمالي، هذا الامر اكده السيد عبد الرزاق الهلالي في مؤلفه (من حديث الذكريات).

حيث ورد:

((الذي اذكره ان الوصي عبد الاله كان قبل تشكيل صالح جبر للوزارة غادر العراق قاصداً لندن للاتصال برجال الحكومة البريطانية وإجراء مشاورات تمهيدية معهم للوقوف على آرائهم بشأن هذا التعديل، ولما عاد الى العراق، اخبر رئيس الوزراء توفيق السويدي بما وصل اليه مع الجانب البريطاني، فقر الرأي على تشكيل لجنة خاصة برئاسة رئيس الوزراء وعضوية وزير الدفاع ورئيس اركان الجيش للدخول في مفاوضات سرية معهم للتوصل الى بنود جديدة ويعقب بالقول:
(( وهكذا كانت تجري الامور بالخفاء دون ان نعرف عنها شيئاً، الى ان قرر الوصي عقد اجتماع كبير في قصر الرحاب، يحضره عدد من رجال السياسة للتداول معهم بأمر هذا التعديل)). ص34
لقد عقد الاجتماع، وحضره كما يؤكد السيد الهلالي كل من:
صالح جبر- الذي اصبح رئيساً للوزراء- ،نوري السعيد، جميل المدفعي، عبد العزيز القصاب، توفيق السويدي، حمدي الباجه جي، حكمت سليمان، السيد محمد الصدر، ارشد العمري، صادق البصام، الشيخ محمد رضا الشبيبي، السيد عبد المهدي، عمر نظمي، داود الحيدري، نصرت الفارسي، نجيب الراوي، مولود مخلص، بهاء الدين نوري، احمد مختار بابان، وفي هذا الاجتماع طرح الوصي على الحاضرين ثلاثة اسئلة طالباً منهم رأيهم بها:
اولاً: هل ان العراق بحاجة الى معاهدة تحالف مع دولة اجنبية ام لا؟
ثانياً: اذا كان في حاجة الى ذلك، فمن هي هذه الدولة الأجنبية؟
ثالثاً: ماهي الاسس التي يعتبرونها صالحة لهذا التحالف؟ ص 34
ويؤكد السيد الهلالي بالقول:- (وقد وافق الجميع على تعديل المعاهدة وفق اسس يجب ان توضع قبل البدء بالتفاوض)) ص 34
وقد اكد شاعر العرب الاكبر الفقيد محمد مهدي الجواهري في مؤلفه (ذكرياتي) – الجزء الأول، الفصل السابع، الفقرة المعنونة (ما يحاك) وجود تلك الاتصالات السرية التي تحدث عنها السيد الهلالي فقد تطرق الى ان الوصي اطلعه على نص المعاهدة الجديدة والحوار الذي دار بينهما حول ماورد في المعاهدة في فقرات عندما التقاه في لندن، ويؤكد الجواهري في ((ذكرياتي) انه بادر الى نشر نص المعاهدة الذي اطلعه الوصي عليه في جريدته (الرأي العام) حال وصوله بغداد.
آنذاك كلف صالح جبر برئاسة مجلس الوزراء وكلف بتهيئة كافة مستلزمات التصديق على المعاهدة التي اعدها الوصي ونوري السعيد وفاضل الجمالي في مفاوضاتهم السرية مع بريطانيا.لقد كتب الكثيرون عن مغزى تكليف صالح جبر بتلك المهمة واعتبره العديدون موقف شيطنة من نوري السعيد الذي كان يتوقع التصادم مع الشعب الذي لن يرضى بالمعاهدة الجديدة فليكن التصادم في هذه الحالة مع حكومة يرأسها رئيس وزراء شيعي، وتسفك دماء العراقيين
- شيعة، سنة، مسيحيين، صابئة، ايزديين، عرب، كرد، تركمان، كلدان، وأشوريين.......الخ على يد هذا الرئيس الوزراء الشيعي.
في الجزء الثاني من مؤلفه (ذكرياتي) يصف الفقيد الجواهري الوضع في العراق انذاك
كما يلي:
(في وقتها كان العراق بأكمله يعيش غليانه الجماهيري على الاحلاف والمعاهدات والجور والخروج عن الدستور والانتهاز البرجوازي لأدوات الحكم والغش في خبره اليومي كما كان الشارع العراقي مشحوناً ضد العملاء والمرتبطين بالقوى الاجنبية المتنكرين لانتمائهم الوطني والقادمين الى برلمان بالوساطة والتزوير حتى لأستطيع الجزم ان الادوات الحاكمة لم تكن تحظى بتأييد اكثر من 50% من كل الشعب العراقي خاصة وان الوعي بدأ يتغلغل الى ذهنية ونفوس الطليعة الشابة المتحمسة لقضاياها وانتمائها.
وفي الشارع السياسي كانت هناك ثلاثة احزاب هي الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي وحزب الاستقلال.
وأستطيع التأكيد هنا ان حزب الاستقلال كان محط انظار الطلائع النظيفة البريئة والقوية ايضاً إلا انه فتح الباب عريضاً للمنتهزين والمنتفعين وبعض المشبوهين وان الحزب الشيوعي بما كان لديه من مواقف صائبة ومواقف خاطئة كان الحزب الاكثر عرضة للاعتقال والسجن والإعدام على اعوام المشانق ما بين الاربعينيات والستينيات من تاريخ العراق المعروف بوثباته وانتكاساته وتظاهراته وانحساراته.
وفيما بينهما كان الحزب الوطني الديمقراطي ممثلاً للطبقة البرجوازية الوسطى بكل مالها وما عليها )) ((ذكرياتي)) الجزء الثاني / الفصل الاول/ ص 15
ثم يشير الى الحال في الجانب الثاني- الحكم- فيقول:
((في هذه المرحلة بالذات كان التزوير يطال كل شيء، لا الانتخابات النيابية وحدها، وكان الذين يقطفون ثمار هذه المرحلة الانتهازيون والمتهالكون على المناصب بأي ثمن والمتصارعون على النيابات والمنسلخون عن القضايا العامة. ص 16
وإذا كان الشاعر الجواهري قد دون هذا العرض للأوضاع انذاك في مؤلفه ((ذكرياتي)) فان السيدين محمد مهدي كبة- رئيس حزب الاستقلال- وكامل الجادرجي- رئيس الحزب الوطني الديمقراطي- وكما يؤكد السيد الهلالي، قد تحدثنا مباشرة مع الوصي عن ذلك الاحتقان في الاجتماع الذي دعا له والذي عقد في الساعة الثالثة عصر يوم 21/ 1/ 1948 في البلاط الملكي وحضره كل من: جميل المدفعي، حكمت سليمان، حمدي الباجه جي، ارشد العمري، السيد محمد الصدر، عبد العزيز القصاب، محمد رضا الشبيبي، صادق البصام، نصرت الفارسي، نجيب الراوي، علي ممتاز، داود الحيد?ي، مولود مخلص، جعفر حمندي، السيد عبد المهدي، مصطفى العمري، جمال بابان، توفيق النائب، يوسف غنيمة، ضياء جعفر، جميل عبد الوهاب، توفيق وهبي، عبد الاله حافظ اضافة الى السيدين محمد مهدي كبة وكامل الجادرجي، لقد ورد في حديث السيد محمد مهدي كبة، كما ورد في مؤلف السيد الهلالي نقلاً عن محضر الجلسة:
(الشعب كان ينتظر ان يأتي التعديل مطمئناً... وانتظر الشعب وجاءت المعاهدة فلما رآها وجدها تزيد قيوداً وقيوداً ثقيلة على السابقات والتزامات على العراق (سياسية وعسكرية واقتصادية) وتربط العراق بالعجلة البريطانية اذ جاء في احد موادها التي مدتها 25 سنة وبعد انتهائها يتعهد الطرفان يتحديدها على عين الاسس. وعندما نشرت المعاهدة واطلع عليها الشعب نقم عليها وكان الشعب رفضها ونقم عليها. ولما اراد الشعب التعبير عن شعوره مثل فيه افظع تمثيل.
اما الفقيد الجادرجي فقد ورد في حديثه، ((أسباب القضية هو الضغط المستمر من الحكومات، بخرق القوانين، ان الناس لم يتحملوا بعد هذا عدم تطبيق الدستور، الناس تريد حرية الصحافة حرية الاجتماع، حرية الكلام، فاذا كبت هذا الشعور، لابد يخرج وينبثق من جهات اخرى. كل الناس تبدي اراءها بصراحة وضمن حدود القانون يكون (تنفيهاً) وتنفيساً عنها، لكن الحكومة تتحايل لسد جرائد الاحزاب مع ان قانون المطبوعات جاء بمادة تحمي صحافة الاحزاب.
وقد ابتدع ارشد بيك بدعة بان تقام الدعوة على المدير المسؤول وتحجز الجريدة باعتبارها الة جرمية.
الوزارة تتدخل في المحاكمة وهذه صراحة، ان عدم وجود حرية التعبير والتظاهرات هي التي تولد الاستفزازات فيجب اعطاء حد لهذا بصفتكم حامي الدستور وان تردعوا الحكومات عندما تتصرف مثل هذا التصرف وسيبقى الوضع متوترا مالم يطمئن الناس الى حرياتهم.
ان الناس تتضايق وما تتحمل، ان ترى الشعوب تتمتع بحقوقها الدستورية وهي ممنوعة منها. اذا فالاحتقان لم يكن وليد اللحظة وانما هو لحظة تفجر وعلى المكشوف، للتناقضات الموجودة داخل المجتمع العراقي وكل تراكمات الصراع التي سبقت موضوع المعاهدة ووثبة الشعب الخالدة. وبهذ الخصوص يشير الشاعر الجواهري ولاشك ان اوضاعا كهذه لابد ان تخلق حالة من الكبت الجماهيري الذي يبحث عن مفجره، وجاءت معاهدة (بور تسموث) الجائرة بحق العراق والتي تنال من هيبة الوطن العراقي لتكون الشرارة التي نزعت صاعق الفتيل وصعدت غضبه الجماهير التي تحشدت في ?لشوارع لتظاهرات صاخبة اكتسحت كل قوة الحاكمين وأسلحتهم وسلطاتهم العاتية.
عاد الوصي الى بغداد بعد ان اكمل مداولاته السرية مع الحكومة البريطانية وفي الاول من شهر كانون الثاني عام 1948 بدأت السلطات بإجراءاتها العملية للتوقيع على المعاهدة فتوجه الى بريطانيا الوفد العراقي المكلف بالتوقيع على المعاهدة والذي ترأسه رئيس الوزراء صالح جبر الذي قام بالتوقيع بالأحرف الاولى على المعاهدة التي سميت حينها بمعاهدة بورتسموث على اسم الميناء البريطاني الذي جرت فيه الجلسات الاخيرة والتوقيع على بنود المعاهدة. ومن هناك ومن ميناء بورتسموث اخذ صالح جبر يرسل تهديداته الى الشعب العراقي الذي هب في وثبت? الخالدة مطالبا بالغاء المعاهدتين- معاهدة عام 1930 ومعاهدة بورتسموث وسقوط حكومة صالح جبر الامر الذي ارعب دهاقنة الاستعمار وافرح كل محبي الشعب العراقي، ومؤيدي نضاله التحرري.
اجل بدأت المواقف العملية للجماهير المناضلة ضد المعاهدة والرافضة لها رفضا تاما وفي مؤلفه (حديث الذكريات) نشر السيد عبد الرزاق الهلالي نصوص البيانات التي اصدرتها الاحزاب المعارضة للمعاهدة والاستقلال،ى الوطني الديمقراطي حزب الاحرار اما بالنسبة لحزبنا الشيوعي العراقي ففي مؤلف عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، اورد الكاتب عزيز سباهي في الفصل الاول من الجزء الاول شرحا وافياً لجهود حزبنا الشيوعي العراقي في التعبئة للوقوف بوجه المعاهدة وانطلاق التظاهرات الشعبية المطالبة بإلغاء المعاهدتين وسقوط حكومة صالح جبر.
وهنا اود ان اشير الى وجود اجماع لدى الكتاب بان اولى التظاهرات كانت تظاهرة طلاب كلية الحقوق، ثم امتدت الى باقي المعاهد والكليات والى الشارع والى مدن العراق المختلفة في الشمال والوسط والجنوب ابتداء من كانون الثاني وحتى السابع والعشرين منه اذ بلغت فيه الاصطدامات ذروتها وأخذت الجماهير مبادرة الهجوم وهاجمت بعض مراكز الشرطة فعلا واحرقتها. وتساقط الشهداء الواحد بعد الاخر وأشير هنا الى الشهداء: شمران علوان وقيس الالوسي وجعفر الجواهري وكان المطلب الاساسي للجماهير في التظاهرات الغاء المعاهدتين (1930 و بورتسموث) وسق?ط حكومة صالح جبر.
انني هنا اطرح السؤال من كان المحرك؟ ومن كان القائد لتلك الجماهير في الشارع؟ لندع السيدين محمد مهدي كبة وكامل الجادرجي يجيبان على السؤال.
في كانون الثاني دعا الوصي الى الاجتماع التشاوري الذي عقد في البلاط في الساعة الثالثة عصرا وكما يشير السيد الهلالي في مؤلفه المشار اليه والذي حضره السيدان محمد مهدي كبة وكامل الجادرجي في حديث السيد محمد مهدي كبة ورد:-
((انا لا اتفق ابدا مع وكيل رئيس الوزراء بانه كانت توجد عناصر هدامة، اني اعطي (كلمة شرف) بان حزب الاستقلال رغم استيائه من المعاهدة واستنكاره الشديد لها، حاول ضبط اعضائه وكبت مشاعرهم خلال ثلاثة ايام وحتى اللحظة لم يشتركوا بانتظار النتيجة، وقد اعلن الحزب انه عندما يقتضي الواجب فسنعلن الاضراب والتظاهرات امام الاعضاء)) ص 72
اما السيد كامل الجادرجي فقد ذكر: ((الحكومة تلح ان هناك افكارا هدامة تدبر التظاهرة وقد ذكر الاخوان الافكار الهدامة انهم ووصفوها بالشيوعية، انا لا انكر وجودها وها هو رئيس حزب الاستقلال (مهدي كبة) يتحدى كل قول، وأنا ايضا اقسم بشرف حزبنا لا أدخل بهذا الموضوع وأريد من حزب الاحرار ان يبين رأيه بالموضوع.)) ص 85.
هنا وان كان السيدان محمد مهدي كبة وكامل الجادرجي لا يطرحان صراحة بان حزبنا كان هو المحرك وهو القائد من ذلك التاريخ حتى يوم 21/1/ 1948 فانهما يعترفان بذلك ضمنا وهذه هي الحقيقة. لقد كنا نحن المحرك للوثبة ونحن القائد لها والشهداء كانوا حصراً اعضاء حزبنا. وهذا هو ارث الشيوعيين العراقيين التاريخي ومن حقنا ان نفخر به.
في اجتماع البلاط الذي عقد عصر يوم 21/ كانون الثاني دعي العديد ممن تحدثوا الى التهدئة وكانوا يخشون استمرار التظاهر وتعقد الامور وخلق حالة ليست في صالح النظام وعليه صدر عن الاجتماع بيان واؤكد هنا انه لم يوقع باسم الاجتماع والمجتمعين بل باسم السيد تحسين قدري مدير التشريفات الملكية وقد ورد فيه ان الوصي (يعد الشعب بانه سوف لاتبرم اية معاهدة لا تضمن حقوق البلاد الوطنية) وقد تباينت ردود الأفعال اتجاه البيان، بين فرح به وبين معارض له. اتصل السفير البريطاني بالوصي كما يؤكد السيد الهلالي محتجا وكذلك فعل صالح جبر و?ينما ارتاي حزب الاستقلال والوطني الديمقراطي ايقاف التظاهر اعتماداً على بيان التشريفات ارتآى حزبنا الشيوعي العراقي تشديد الضغط ومواصلة التظاهر من اجل حمل الوصي على رفض المعاهدة بل وإلغاء المعاهدتين، واقالة حكومة صالح جبر. وفي مؤلف عقود من تاريخ الحزب – الجزء الاول في الفصل المخصص للوثبة تفاصيل واسعة عن توجيهات الشهيد فهد الى قيادة الحزب والاجراءات العملية التي تستخدمها القيادة على ضوء ذلك.
استمر التظاهر في البلد يقوده حزبنا وبلغ الذروة في 27 كانون الثاني حيث وقعت الاصطدامات مع الاجهزة القمعية في مختلف المدن وتساقط الشهداء في الشوارع وعلى جسر الشهداء في بغداد والجميع يطالب باقالة حكومة صالح جبر وإلغاء المعاهدتين.
في ذلك اليوم وكما ورد في مؤلف عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي فكر النظام باللجوء الى الجيش ومعالجة الموقف. وتوجد اشارات ان بعض كبار المسؤولين أتصلوا بالقيادات العسكرية لتهيئة قطعات عسكرية ولتكون على أهبة الاستعداد لتنفيذ مهمة قمع التظاهر. الا ان النظام تراجع ولم يقدم على هكذا خطوة خشية التحام الجيش مع الشعب واتجاه الامور الى مسار آخر كما جرى في شباط 1917 في روسيا القيصرية. دعا الوصي الى اجتماع مصغر حضره كل من السيد محمد الصدر، نوري السعيد، صالح جبر، وكان رأي الاخيرين- السعيد، جبر- هو تشديد القمع اما ال?يد الصدر فكان له رأي مغاير اذ كان يميل الى التهدئة واخذ الوصي برأي السيد الصدر فاضطر صالح جبر الى تقديم استقالته، وتم تكليف السيد محمد الصدر بتشكيل وزارة جديدة برئاسته، وسارع كل من صالح جبر ونوري السعيد وتوفيق السويدي الى الفرار من بغداد، وخرج الوصي على الشعب ببيان يدعو فيه الى الخلود دون ان يشير بشيء الى المعاهدة القديمة او الجديدة. (عقود ص 341. الجزء الاول).
شكل السيد محمد الصدر رئيس مجلس الاعيان انذاك، وزارة اغلب عناصرها من الذين خدموا الاستعمار وعرفوا بمعاداتهم للجماهير وحركتها الديمقراطية وليس بينهم من عرف بمواقفه الوطنية سوى رئيس حزب الاستقلال الذي اعطي حقيبة وزارية ثانوية وزارة التموين، ومحمد رضا الشبيبي (الذي اشغل وزارة المعارف) وقد رفض حزب الاحرار المشاركة فيما بينها لم تعرض على الحزب الوطني الديمقراطي المشاركة من الاساس باعتباره حزباً يسارياً.
ان نظرة واحدة الى تكوين الوزارة الجديدة تكفي لمعرفة طبيعتها والغرض من الإتيان بها ولا عبرة هنا لمشاركة حزب الاستقلال فيها اذ ان مشاركته لاتغير من الطبيعة العامة للوزارة. (عقود ص 342).
لقد جيء بهذه الوزارة كما يقول الشهيد فهد لا لتحدث تغييرا أساسيا يرضي طلبات جماهير شعبنا بل لتهدئ الناس وترجع المياه الى مجاريها الاولى. وهذا يعني اعطاء المستعمر واذنابه الوقت الكافي لحبك مؤامراتهم والقيام بـ (كوب ديتا) أي باخذ السلطة ثانية عن طريق العنف والتآمر، (ص 342).

وقد طلب الشهيد فهد في رسالته الى قيادة الحزب اصدار بيان يتضمن التأكيد على المطالب
الآتية والملحة:

اما الاحزاب الثلاثة (الاستقلال، الوطني الديمقراطي، والاحرار) فقد اصدرت بيانا مشتركا طرحت فيه مطالب الشعب الآتية وكانت:
1- ابطال معاهدة بورتسموث واعلان ذلك دون ابطاء.
2- اجراء التحقيق عن اطلاق النار ضد ابناء الشعب وتعيين المسؤولين عنه.
3- حل المجلس النيابي واجراء انتخابات حرة.
4- احترام الحريات الدستورية.
5- افساح المجال للنشاط الحزبي.
6- حل مشكلة الغذاء بشكل يوفر للشعب قوته.
والمطالب المطروحة في هذا البيان تقترب كثيراً مما ورد في رسالة الشهيد فهد التي بعث بها من السجن الى القيادة الميدانية للحزب التي كان على رأسها كل من مالك سيف ويهوذا ابراهيم صديق.
اقليت حكومة صالح جبر واستعيض عنها بحكومة السيد محمد الصدر، وحل البرلمان تمهيداً لاجراء انتخابات برلمانية جديدة. وشيعت الجماهير شهداءها وعادت الحياة، لتأخذ مسارها الاعتيادي واخذ النظام يتهيأ لشن هجوم مضاد ضد الحركة الثورية في البلد والذي بلغ ذروته في اواسط شباط 1949 بإعدام قادة حزبنا الشهداء يوسف سلمان يوسف (فهد)، حسين محمد الشبيبي، وزكي محمد بسيم ودخلت الوثبة سجل التاريخ.

هنا اشير الى تقييمين ملفتين للنظر يحتاجان التدقيق فيهما:

الاول/ ورد في مؤلف الفقيد الجواهري (ذكرياتي).
الثاني/ ورد في المقالة التي نشرها الرفيق ابو قاعدة (كاظم فرهود) على صفحات طريق الشعب في الذكرى الثانية والستين للوثبة. وفي رأيي ان التقييمين غير موفقين.
الفقيد الجواهري في مؤلفه ذكرياتي يرى ان الاستمرار بالتظاهر بعد صدور بيان رئيس التشريفات المشار اليه والذي ينص على ان الوصي لن يوقع (اية معاهدة لا تضمن حقوق البلاد الوطنية) كان عملا خاطئا.
اما الرفيق ابو قاعدة فيرى بان ايقاف التظاهر وعدم الاستمرار بالوثبة بعد استقالة حكومة صالح جبر كان عملا خاطئا:
فلنلق نظرة على هذين الرأيين:
الاول: ان بيان رئيس التشريفات كان مجرد وعد بان الوصي لن يوقع وكأنه موضع ثقة الشعب والحركة الوطنية كي يؤخذ البيان على محمل الجد ويجري ايقاف التظاهر خصوصا وان صالح جبر كان ما يزال في بورتسموث يفاوض البريطانيين حول المعاهدة ويهدد الشعب بالويل والثبور لمعارضته للمعاهدة؟
لقد كان الاستمرار بالتظاهر وتجاوز البيان عملا صائبا واشير هنا الى حادث طريف وقع في البلاط يوضح كيف كان الشعب ينظر الى الوصي:
يشير السيد الهلالي الى ان احدى التظاهرات دخلت بناية البلاط الملكي وقد طالب المتظاهرون بكلمة من رئيس التشريفات الذي خرج للمتظاهرين والقى كلمة قصيرة يتعهد فيها بنقل وجهة نظرهم الى الوصي فكان تعليق احدى المتظاهرات التي كانت تقف الى جانب الهلالي، قريبا جدا من رئيس التشريفات بالقول (قيم الركاع) سمع الهلالي الكلام واوضحه الى رئيس التشريفات .

فكيف يوقف التظاهر ويكتفي بالوعد المشار اليه في حين هذا هو رأي الناس بالوصي؟

الثاني: اي الرفيق ابو قاعدة الذي يرى انه كان ينبغي الاستمرار بالوثبة حتى يغير النظام. ليلاحظ القارئ تغيير النظام وليس تغيير الحكومة. فهل كان ذلك ممكنا؟ وهل كان الرأي هذا يتوافق مع قوانين الديالكتيك ومقولاته ومادية المادية التاريخية؟ وهل تقرر المواقف وتحدد الشعارات بناء على رغبات الانا والذات بعيدا عن مزاج الجماهير واستعدادها لممارسة النضال والانتقال من هذا الشكل او ذاك الى شكل اخر اعلى واعقد؟
لقد كان لينين وكذلك الشهيد فهد وقبل الكل كارل ماركس يؤكد على ان الحزب في تحديد شعاراته وتكتيكاته عليه ان لا يسبق الجماهير فيصاب بالانعزال ولا يتخلف عنها فيصاب بالخذلان ولنا من تجربة ماركس مع كومونة باريس عام 1871 خير درس. فالمعروف ان ماركس حذر عمال باريس من الانجرار وراء التحديات والاستفزازات ولكن عندما فرض على بروليتاريا باريس الانتفاض واعلان الكومونة حياها وسار معها جنبا الى جنب، يقترح عليها ويتعلم منها- وللوضوح اكثر انصح بالرجوع الى مقالة لينين (دروس الكومونة). فأين هذا من القناعة التي عبر عنها الرفيق ا?و قاعدة وتخطئة موقف الحزب ذاك على ضوئها؟
اجل لنا تطلعاتنا؟ امانينا، احلامنا، تمنياتنا، عواطفنا، ولكن كل هذا شيء وخوض النضال وفقا لما يفرضه منطق الحياة ونضوج العاملين الموضوعي والذاتي من عدمه شيء اخر..
ومعلوم ان لينين كان يؤكد ان لحظة القفزة - بمفهومها الفلسفي - لحظة التغيير والتي هي لحظة الثورة تتطلب نضوج العاملين الموضوعي والذاتي ويشترط قناعة الناس – ليس الطليعة فقط – بل الناس، الجمهور، وبالتحديد ابعد الناس عن السياسة والحزب بان النظام المعين في اللحظة المعينة لم يعد مقبولا ولا محتملا بقاءه مبتدأ بمباشرة عملية التغيير وبروح ثورية عالية. ومعلوم قول ماركس وهو يصف قبول بروليتاريا باريس للتحدي والمبادرة لاقامة الكومونة عام 1871 والقتال دفاعا عن ارادتها الثورية وعن الكومونة. فهل كانت الظروف الموضوعية والذات?ة ناضجة لتغيير النظام؟ وهل بقي استعداد الجماهير الثوري في حالته القصوى بعد اقالة حكومة صالح جبر كي يستمر العمل باتجاه التغيير الثوري للنظام كما طرح الرفيق العزيز ابو قاعدة؟
المعروف ان التظاهرات توقفت وكذلك الصدامات مع الاجهزة القمعية بعد تراجع النظام واقالة حكومة صالح جبر ولجوئه الى اسلوب التهدئة، ولكن هل توقف النضال؟ ابدا فالذي حصل توقف شكل معين من اشكال النضال. واستمر الشعب في نضاله مرة بهذا الشكل واخرى بشكل اخر.
تواصلت الاجتماعات التأبينية للشهداء وكان ابرزها ما عقد في جامع الحيدر خانة في اربعينية الشهيد الجواهري حيث القى الشاعر الجواهري قصيدته المعروفة.

اتعلم ام انت لا تعلم
بان جراح الضحايا قم
فم ليس كالمدعي قوله
وليس كاخر يسترحم
اتعلم ان جراح الشهيد
تظل عن الثأر تستفهم
اخي جعفرا لا اقول الخيال
وذو الثأر يقظان لا يحلم

وفي الرابع عشر من نيسان وبحماية العمال عقد في ساحة السباع المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لطلبة العراق والذي حضره شاعر العرب الاكبر حيث القى قصيدته المعروفة.

يوم الشهيد تحية وسلام
بك والنضال تؤرخ الاعوام
يوم الشهيد طريق كل مناضل
وعر فلا نصب ولا اعلام
في كل منعطف تلوح بلية
وبكل مفترق يدب حمام

والتي ختمها بشتم النظام وبكل صراحة ووضوح:

تبا لدولة عاجزين توهموا
ان الحكومة بالسياط تدام

واستمرت الفعاليات النضالية، رغم كل الضربات التي وجهها النظام لحزبنا آواخر عام 1948 والعام 1949 ومعلومة ابناء تلك التظاهرات التي كان يقوم بها رفاقنا وهم يرددون (يله يا شباب نجدد الوثبة).
وعندما ارتفع المزاج الثوري للجماهير واستعادت قدرتها على منازلة النظام الرجعي الخانع للسيطرة الاستعمارية فجر الحزب انتفاضة تشرين عام 1952 التي هزت النظام من الجذور وكانت فاتحة لنضال مستديم استمر حتى الرابع عشر من تموز 1958 حيث اطيح بالنظام الملكي واعلن النظام الجمهوري في العراق.
وقد كانت الوثبة احدى المحطات النظامية الكبرى ضد السيطرة الاستعمارية على العراق وضد التظام الملكي الرجعي. وقد قال بحقها الرفيق قائد الحزب الشيوعي السوري آنذاك خالد بكداش: "انها ليست بالمعجزة، ولو لم تكن لكانت المعجزة".
اما الرفيق فؤاد نصار الذي امضى السنين الطوال قائدا للحزب الشيوعي الاردني فقد تحدث عنها في حينه قائلا: "الشعب العراقي يلقن الاستعمار والرجعية درسا قاسيا".
اكتفي بهذا القدر وافتتح باب المناقشة فهي مفيدة من اجل تعميق فهمنا واستيعابنا لتاريخ حزبنا، مع جزيل شكري للجميع والمجد والخلود للوثبة ولشهداء الوثبة وكل الشهداء.