مدارات

14 تموز في ذاكرة معاصريها

كانت الثورة حدثا مهما وفاصلا في الحياة السياسية العراقية، فقد أحدثت هِزة كبيرة في المجتمع وانقلابا في حياة الناس. نحاول أن نرصد وقع الحدث في ذاكرة الجيل المعاصر للثورة، زمن اليفاعة والشباب.

زلزال هزّ العالم/خانم زهدي

كان يوم 14 تموز يوما تاريخيا منتظرا، في ذلك الوقت مرّت السنة التاسعة على شرف انتمائي للحزب الشيوعي العراقي، والسنة السابعة على تأسيس رابطة المرأة العراقية، وكنت فخورة لكوني قد ساهمت بدوري المتواضع في هذا الزلزال الذي هزّ العالم من خلال الحزب والرابطة. كنت حينها مختفية منذ عام 1953وأعيش مع الرفيق زوجي في بيت حزبي، ومع رفيق آخر، اسمه عزيز الشيخ، طيب الذكر، كنت أحترمه وأوده كثيرا، لصفاته الشيوعية العالية، حيث كان أستاذي في الجامعة، قبل طردي منها. كان بيتنا في الأعظمية، شارع عشرين، وكان الرفيق الخالد سلام عادل يزورنا أحيانا.
في ليلة 13/14 تموز كنّا جالسين أمام الراديو ننتظر حدثا، كان ليل الانتظار طويلا، وفي منتصف الليل طلب منا الرفيق عزيز أن نصعد للسطح وننام، وهو يبقى ينتظر، ويبلغنا أي خبر قد يسمعه. صعدنا واستسلمنا للنوم، وفي الصباح الباكر سمعنا الرفيق ينادي علينا من الأسفل، وبأسماء غير أسمائنا، ركضنا وإذا بالبيان الأول عن نجاح الثورة يذاع، فبدأنا نقبّل بعضنا ابتهاجا ونرقص، ولو كانت الكاع عوجة، وبعد دقائق دخل البيت الرفيق أبو إيمان، سلام عادل، وبعد تقديم التهاني طلب من زوجي أن يهيئ نفسه للذهاب معه الى بريد الأعظمية لإرسال برقية تهنئة وتأييد الى قيادة الثورة، وكان لدينا في البيت مسدّس أخذاه معهما للاحتياط. بعد إرسال البرقية وعودتهما من البريد، قال الرفيق سلام: إن موظف البريد لم يقبل إرسال البرقية وكان خائفا، إذ لم يكن متاكدا من الأمر إلا بعد أن شرحا له نجاح الثورة، وقبل أن يخرج الرفيق سلام عادل من البيت، أخبرْنا الرفاق المختفين ألّا يخرجوا للمساهمة في الشارع الى أن يبلّغوا.
وفي اليوم الثاني بلّغت بالاتصال برفيقة نضالي، نزيهة الدليمي، وبدأنا بتهيئة إجراءات خروج الرابطة للعلن، إعداد النظام الداخلي والأهداف وتهيئة العدد المطلوب للهيئة المؤسسة لتقديم طلب إجازة العمل. وقد ساهمت المرأة مساهمة فعالة في المسيرات الجماهيرية المؤيدة للثورة، وقادت الرفيقة فكتوريا يعقوب الجماهير النسائية الى مقر الاتحاد النسائي العراقي ليجعلوه مقرا للرابطة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التاج لثورة تموز التي علمتنا كثيرا/ ناصر الثعالبي

كان صباحا قائظا ، يمر هواؤه خانقا رطبا، يلف أجسامنا بلزوجة رطبة، نحن النائمين فوق سطوح بيوت البصرة، استيقظت عائلتي على أصوات زغاريد لم تكن مألوفة في صباحات المحلة، التي أتعب سكانها الكد. نزلنا مسرعين الى الباب، يدفعنا الفضول لاستطلاع هذا الفرح الآتي، جارنا عامل النفط، مدمن السياسة الفكه، استقبلنا. قال أهلي: هل ولدتْ؟وكانوا يقصدون زوجته الحامل، أجاب الرجل: ولدت. تعالت الزغاريد من نسوة بيتنا لأن ولادة البكر عسيرة،هكذا فسرتْ والدتي الفرح ثم قالت له ببساطتها: ولد لو بت؟ الجار أبو رزاق قال ليست زوجتي إنما الثورة ولدت!
وكان لي أخ في القوة الجوية، ومن علامات تمييز صنف القوة الجوية أن تكون في جبهة (السدارة أو القبعة ) جناحان، يعلوهما تاج رمزا للملكية. وكان في إجازة، أخذ أخي يفتش في خردوات البيت بهمة، نازعا كسل الصباح القائظ، كنا نحن المتطفلين نريد معرفة ماذا يفعل. انتظرناه بصبر، وهو يلوي مقدمة سدارته بعناد. بعدها صاح: يسقط الملك، يسقط نوري سعيد، وطرح تاج السدراة أرضا، ساحقا عليه بحذائه. قبّل الجناحين الباقيين من شعار القوة الجوية ثم ذهب للالتحاق بمعسكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شهادة حية في سطور/عبدالستار الصافي

بعض ذكرياتي عن ثورة ١٤تموز المجيدة، وقتها كنت قد أنهيت الصف الأول متوسط في متوسطة العرفان للبنين. تمتد هذه الذكريات الى صيف ١٩٥٨ وبالتحديد يوم ١٢ تموز، حيث كان اجتماع في بيتنا في الكرادة الشرقية، قرب الجسر المعلق حاليا، ضم أخي عبد الرزاق الصافي و پيتر يوسف والشهيد حمزة سلمان. علمت لاحقا من أدبيات الحزب الشيوعي أنه كانت هناك اجتماعات للكادر الحزبي المتقدم لتوزيع بيان الحزب الذي يشير بأن هناك أحداثا جساما ستحدث قريبا، وتهيئة الكادر المتقدم لمتابعة التطورات والتصرف إزاءها. وأذكر على سبيل الطرفة أن پيتر يوسف طلب مني أن أشتري جرائد ذلك اليوم وعندما اشتريتها وأعطيته إياها صرخ بوجهي وقال (لك لاااا هاي مالت اليوم) في صباح يوم ١٤ تموز الخالد إستيقضنا على أصوات إطلاقات نارية آتية من منطقة الحارثية حيث قصر الرحاب حينها. قال أخي عبد الرزاق: إن هذه عبارة عن قطعات عسكرية متوجهة الى الأردن لقمع انتفاضة الشعب اللبناني ضد حكومة كميل شمعون، وعند الساعة السادسة صباحا استمعنا الى بيان رقم واحد بصوت عبد السلام محمد عارف والذي يتضمن إسقاط الملكية وإعلان الجمهورية، بعدها توالت البيانات منها مطالبة الجماهير بالنزول للشارع ومساندة قوات الجيش الثائرة، وكذلك تعليقات من راديو بغداد بأن (عدو الاله) والمقصود هنا عبد الاله هو الآن تحت الأنقاض، بعد فترة علمت من التعليقات من الراديو أن جثة عبد الاله تسحل في شوارع بغداد، غادرت البيت متوجها الى الباب الشرقي ومنه الى شارع الرشيد الذي كان يموج بكتل بشرية هائلة مؤيدة للثورة، وتوجهت الى وزارة الدفاع حيث كانت جثة عبد الاله معلقة في بناية مقابل وزارة الدفاع. علمت بعد فترة من الزمن أن ام الشهيد العقيد صلاح الدين الصباغ كانت موجودة في نفس المكان، وهو المكان الذي أعدم فيه ابنها الشهيد عام ١٩٤٥ بعد فشل حركة رشيد عالي الگيلاني، ما يسمى بحركة العقداء الأربعة *وبتوصية من عبد الاله لكي يراه في طريقه الى البلاط الملكي. ويقال أن أم الشهيد صلاح الدين الصباغ قد توعدت عبد الاله يوم إعدام ابنها بأن مصيره سيكون كمصير ابنها، وفعلا تم ذلك. في اثناء تجوالي في شارع الرشيد في طريق العودة الى البيت وبعد سماعي قرار منع التجول الذي أصدرته حكومة الثورة آنذاك، شاهدتُ شابا يحمل إصبعا وهو ينادي "هذا إصبع الچلب هذا إصبع الخاين" وكان هذا الإصبع للوصي عبد الإله. بعد مرور أشهر على الثورة، وفي يوم من الأيام وفي منطقة الپاصات في الباب الشرقي رأيت أحد المتسولين فارشا بطانية قديمة، يدور حولها وينادي (ها...ها تعال جاي..حزب شيوعي يعلمك ويؤدبك ويثقفك ويضوگك طعم العسل) ويكررها عدة مرات، والمارة يرمون له النقود.
من كل ما تقدم نستطيع أن نقول أن ثورة ١٤ تموز المجيدة لها تأثيركبيرعلى الجماهير وتأثير الحزب الشيوعي كبير في عموم العراق. في العام الأول للثورة لم تسجل مراكز الشرطة ولا حادثة سرقة واحدة. *العقداء الأربعة هم
محمود سلمان، يونس السبعاوي، فهمي سعيد، صلاح الدين الصباغ.