مجتمع مدني

ومضة نضال / سلامة الصالحي

بكنزة رمادية وتنورة سوداء وضفائر كستنائية، سورة وجه الطفولة، كان خالي الشيوعي المثقف اﻻنيق العصامي يصطحبني إلى دائرة الأمن في أوائل السبعينات زمن ناظم كزار بعد أن تم حبس أخي عبد العزيز بتهمة الميول اليسارية وقد وشى به أقرب أصدقائه إليهم، وكنت أحمل له "الصفرطاس" والسكائر وبعض النقود القليلة ودموع أمي وقلقها، كان السجان رحيما بي يستقبلني كطفلة تجرأت على الدخول إلى أخطر دوائر الأمن في العراق الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود...ﻻ أزال احتفظ بذاكرتي بصورة وجهه الرحيم ويده وهي تفتح القفل الذي يقفل الباب الذي دخلت منه إلى أخي الشاب الذي كانت جميلات الديوانية يتمنين وده أجده في مكان تحت سلم صغير ﻻ يتسع اﻻ للقرفصة وقد طالت لحيته وشعر رأسه وبدا أكثر بياضا، كان الوقت فيها شتاءا، وكنت ببراءة الأطفال أخبره بدمار أمي وكيف أنها تترك الغرف لتنام وهي ملتفة بعبائتها على بلاط الأرض في ذلك الحوش الصغير في صوب الشامية بعد أن أخبرتها أنك تنام على الأرض مقرفصا دون فراش أو أغطية لأقرأ له الآن ما يؤرخ تلك الأيام العصيبة بقصائده عندما خرجت مبلله بالدمع، بعد أن احتضنني أخي وقبلني وهو يدس ورقة في يدي.. "راح يعدموني.. أمس بالتحقيق خبروني"... جن صواب أمي بعدها.. صارت تكابد الأمرين، بين أبي الذي يكره الشيوعية لأنهم ساندوا "عبد الكريم" الذي صادر أراضيه وبين إخوتها وابنها الذين أغوتهم هذه الحركة التحررية.. حين خرجت من سجن أخي الصغير عاتبت السجان بعينين دامعتين... "ليش تحبسون أخوي بهذا المكان.. مو هو مدلل، وأمي ما تقبل... أجابني كأنه يكلم أخته الصغيرة باحترام وأدب:" والله مو بيدي لو بيدي اطلعه".
بعد انهيار ناظم كزار واكتشاف مؤامرته خرج أخي بدعوات أمي التي عادت شابه صغيرة بخروجه.. أما خالي فقد بقي يحرص على أناقته، وقد تعلمت منه كيف تشد ربطة العنق، وكيف تمرر الفرشة على بدلته الأنيقه... وهو يقرأ جريدة طريق الشعب بحرص ويستمع لأم كلثوم بوجهه الذي كان قريب الشبه جدا بالمذيع "رشدي عبد الصاحب"، وكنت أستل منه الجريدة لأقرأها دون أن أفهم منها الكثير.... "وبعدين اسأله خالي منو لينيين"؟... اس بروح اجدادك.. عيفي هاي المواضيع"!