فضاءات

استذكار للفقيد الرفيق كريم محمـد بدن (هاشم).. رأس التبليط !. / عمار علي

رأس التبليط، تلك العلامة البارزة ،التي يعرفها ابناء مدينة الثورة داخل.هي نهاية سيارات النقل العمومي(الفورتات)، القادمة من الباب الشرقي.
كان( السكن) ينادي من كراج الباب الشرجي داخل ،داخل ،داخييييييل.وعند وصوله رأس التبليط يقول اتفضلو اخوان هذه آخر نقطة، عندها ترتفع الاصوات داخل المستطيل المضاء، شيء يشبه الخداع، زيف مركب، حركة الايادي المتوترة الرافضة، رذاذ اللعاب المتطاير من الأفواه يظهر بوضوح تحت ذرات الضوء المنسكب في المستطيل الحرون...أكيد لكل فرد من ابناء المدينة /داخل له ذكريات فيها.
كان مساءا شتائيا وأبخرة وروائح اللبلبي والشواء تفيض في المكان المحتشد بالسيارات والناس المكفهرة الوجوه. كان فرن الخبز مزدحما كذلك، لأن عربات الشواء هي الاخرى مزدحمة بالسائقين ومساعديهم، رائحة الخمر كذلك مختلطة برائحة البانزين و دخان الشواء الابيض المتصاعد وأرغفة الخبز الحار.
في منتصف الساحة الدائرية لنهاية الخط ، بالقرب من ساحة (علي اللامي) ملعب كرة القدم الشعبي، تلك التي اشار لها عبد الله صخي في روايته (دروب الفقدان)، المكان الذي اعدم فيه (نايف الساعدي).
على طرف الساحة، نصبت لوحة أعلانية كبيرة. مضاءة بنيون أخضر شاحب، لوحة دعائية لسينما الرافدين الواقعة بالكيارة.
في الساعة السادسة مساءا.
وقفت تحت اللوحة منتظرا أحمل قلم رصاص وجريدة وكلمة سر، بعيدا عني يقف آخر أنيق وأضواء السيارات التي تنعكس، تزيد وجهه احمرارا وجمالا طفوليا ثريا وبريئا.
من عتمة زقاق قريب ظهر شبح، شعر طويل وجينز( جارلستون) كما يحلو لنا أن نسميه. وسيجارة وكتب وجرائد وحذاء مبتل و وحل عالق بأطراف الجارلستون العريض...
اين كراج النهضة ؟.
بالعمارة.
يتم الاستلام .
ينظر الى ساعته. قلت له انه يقف هناك ، يحمل نفس الاشارة. غضب الزميل لأنني تجاوزت قواعد العمل السري !.
تركني وذهب الى ذلك الواقف بعيدا.
عاد ومعه الزميل( مقدام ). كان هذا اللقاء الأول في اتحاد الطلبة العام مع الزميل مقدام التي امتدت عقودا. لم نكن نتفق ، كنا نختلف كثيرا ، الرؤى متباعدة، لكننا رفاق حلم، وأبناء يوتوبيا متجذرة بالروح، نسعى الى عالم افلاطوني ساحر. نبحث عن المدينة السعيدة. في مغارات وأودية ومفازات مغامرة.
صغار وحالمون.
منذ تلك اللحظة أرتبطت، بالزميل مقدام او كريم الاحيمر فيما بعد..الذي يسكن بالقرب من بيتنا في قطاع 41 . المنزل المجاور لبيت أجلود ، العلامة البارز ألآخرى في المدينة.
في بور سعيد كنا معا وكان فائرا وقلقا وحائرا، متحمسا ونشيطا ومغامرا.اقصد لا يتردد. تمردنا على قيم وأعراف محبطة، شربنا الخمر مبكرا. نجوب شوارع بغداد مأخوذين بنشوة ألاكتشاف، اكتشاف الذات والواقع المر. وكان (مقدام) يدفع لنا برحابة لأنه يعرف اننا مساكين الله، جيوبنا خاوية.
عائلته متوسطة الثراء، لهم محلات صباغة في الباب الشرقي بالقرب من سينما غرناطة وأستوديو اديب المصور الرياضي المدهش.
في الحملة الهمجية على الحزب تفرقنا، رأيته مرة واحدة ، هو وهادي كاطع (فايز) دار حديث عابر، قدما لي مساعدة وشد ازر ودعوة ان احافظ على نفسي، تلك الجملة التي يرددها الشيوعيون في تلك ألآونة المستعرة.
في مساء صيف عام81 البارد، فوق سطح فصيل تولجة، التقينا هناك، فكرت وهاشم وأنا ،كانت ليلة ضاجة بالذكريات وبالأمل كعادة الأنصار، كان قد تعلم الكردية، رموزها وإشاراتها والإيحاءات الايروتكية التي تتضمنها. حتى انه يعرف فك شفرات تحدث بين رفيقين كرديين.
كان مقاتلا في زمن الصمت والارتداد. وكان ضمن المفارز الاولى التي تجوب شعاب ومسالك جبل هندرين العاصي، ومنطقة بالك كلها.
يبدوا ان خريف الانصار قد أزف، وان حصاده البربري قد ابتدأ. ونحن نترقب حاصدا مشاكسا منلفت يحصد رقبة واحد منا برعونة.
فلترقد يا هاشم بسلام ودع عنك قلقك وحيرتك الدائمة. تلحف بجمدانيك وضع رختك جانبا أنك لست في نوبة حراسة أو في كمين في معركة. أنك لست في ماويلي أو فوق تلال بولي. او عند عين ماء في دركله.
سأقطف لك زهرة ثلجية بيضاء من وادي باليسان الأرحب.
وداعاً زميل مقدام.