مدارات

"غد الأممية يوحد البشر" بمناسبة الذكرى الـ 150 لتأسيس الأممية الأولى / رشيد غويلب

حلت في الثامن والعشرين من ايلول الذكرى الـ 150 لتأسيس "جمعية الشغيلة العالمية"، التي عرفت لاحقا بـ"الاممية الاولى"، ففي هذا اليوم من عام 1864 تحول شعار "يا عمال العالم اتحدوا، الذي اطلقه ماركس في "البيان الشيوعي" في عام 1848 الى حقيقة ملموسة. وجاءت مبادرة التاسيس انسجاما مع نمو الحركة العمالية في ستينيات القرن التاسع عشر، التي شهدت تاسيس لجان لدعم عمال صناعات النسيج المفصولين في كل من بريطانيا وفرنسا. ولعب التعاطف مع الانتفاضة البولونية في عام 1863 ضد اضطهاد القيصر الروسي، كذلك دورا في الاسراع بتأسيس الاممية.
وفي تجمع تضامني مع حركة التحرر البولونية في عام 1863 ، طرحت النقابات البريطانية لأول مرة فكرة ايجاد صلة دائمة بين عمال القارة الاوربية.وبعد تجاوب جمعية العمال الفرنسيين مع المقترح، تمت الدعوة مجددا في لندن لتجمع تضامني مع المنتفضين البولونيين في الثامن والعشرين من أيلول 1864 . والى جانب العمال البريطانيين والفرنسيين، شارك في التجمع، الذي شارك فيه الفا عامل، وفود عمالية تمثل المانيا، وايطاليا، وبولونيا.
وكان كارل ماركس ضمن اعضاء وفد "جمعية تأهيل العمال الالمانية الشيوعية" المشارك في الاجتماع، الذي اقر المقترح الفرنسي القاضي بتشكيل لجنة مركزية من عمال مختلف البلدان يكون مقرها في لندن، وتتشكل لها فروع في العواصم الاوربية الرئيسية لمناقشة جميع القضايا ذات الاهمية العالمية المتعلقة بتأسيس جمعية عالمية للشغيلة .

وحدة في التنوع

لقد اتاح تكليف كارل ماركس بإعداد النظام الداخلي للجمعية، امكانية تضمين النظام الداخلي الجديد، الملامح الرئيسية الواردة في البيان الشيوعي الصادر عام 1848 ، دون الابتعاد عن مضامينه الثورية،مع الحفاظ على صياغاتها العامة، التي تسمح للتيارات الاشتراكية المختلفة الانتماء للجمعية، مع الحفاظ على استقلاليتها التنظيمية. فالعمال البريطانيون اكدوا على الاستمرار في النضالات النقابية التقليدية، في حين هيمنت على جمعيات العمال الفرنسيين "، فلسفة "بيير جوزيف برودون" الفوضوية، الذي ركزعلى تشكيل التعاونيات ورفض اشكال الصرا? الطبقي المنظم. وفي المانيا ركز انصار المفكر الاشتراكي المتوفي للتو حينها "لاسال" على التنسيق مع الدولة البروسية، وفي المقابل ركز مؤيدو ماركس على مفاهيمه الشيوعية. وفي ايطاليا كان الحضور للمجموعات القومية الثورية بزعامة مازيني.
وقد كتب ماركس"في مقابل المنظمات العصبوية العجيبة، تقف الأممية باعتبارها المنظمة المناضلة للبروليتاريا في جميع البلدان، التي توحد نضالهم ضد الرأسماليين والملاكين العقاريين، وسلطتهم الطبقية المنظمة في الدول". واضح ان ماركس كان يركز على وحدة العمل، على عكس مذاهب اشتراكية اخرى كانت تشترط وحدة الفكر اولا. انطلاقا من ان العمل المشترك بوفر قناعة فكرية مشتركة للوصول الى البديل الاشتراكي، بعيدا عن المناقشات المجردة.

التضامن الأممي

وتجسدت فائدة الاممية في السنوات التي تلت تأسيسها بسرعة متزايدة، من خلال جمع التبرعات في العديد من البلدان لدعم العمال المضربين.وعندما اطلق الجيش الرصاص على عمال المناجم المضربين في بلجيكا عام 1868، قامت الأممية بدعم عوائل الشهداء والجرحى ورعايتهم، وكذلك للدفاع عن المعتقلين. وكان آخر نشاط هام للأممية تضامنها مع "كومونة باريس"، التي شغل قياديون في الأممية، مواقع قيادية فيها.
وفي الفترة التي اعقبت الكومونة تعرضت الأممية الى موجة قمع في البلدان الاوربية، ادت الى فقدانها الكثير من اعضائها، وترك صفوفها النفابيون البريطانيون، على اثر تقديم راس المال بعض التنازلات، ارتباطا بالصعود الاقتصادي الذي شهدته بريطانيا حينها. فضلا عن تصاعد الصراع النظري داخلها بين انصار ماركس، وانصار باكونين. وبناء على مقترح قدمه ماركس في عام 1872 ، تم نقل مقر مجلس الأممية العام الى نيويورك، لابعاده عن تأثير الباكونينين السائد في جنوب اوربا، ولكن ذلك ادى ايضا الى ان تفقد الأممية الكثير من اهميتها السياسية.?ويرى المؤرخون الماركسيون ان الأممية ادت مهمتها المركزية المتمثلة في نشر الفكر الاشتراكي العلمي في صفوف الحركة العمالية. ولهذا شدد "وليم ليبكنشت" في المؤتمر التاسيسي للاممية الثانية في باريس عام 1889 على "ان الاممية الاولى لم تمت، لقد ذابت في المنظمات العمالية القوية ، وفي الحركة العمالية في العديد من البلدان، ويستمر وجودها فيها".
ويدور في السنوات الاخيرة في اوساط اليسار نقاش واسع حول امكانية قيام أممية جديدة تستند الى التجارب الايجابية لسابقاتها، وتستلهم روح العصر القائم على التنوع والتعددية وتعميق الديمقراطية. والشيء ألأهم عودة الأممية لأحزاب اليسار، وان ينمو ويتعمق التفكير بأبعاد ونزعة أممية في صفوفها.